صفحات العالمما يحدث في لبنان

الجاسوسية كمهنة لبنانية

ساطع نور الدين
لم تعد شبكات التجسس لاسرائيل التي يجري اكتشافها هذه الايام بوتيرة متصاعدة مجرد حالة استثنائية عابرة. صارت ظاهرة مخجلة فعلا، تثير المزيد من الشكوك القائمة اصلا في الوطنية اللبنانية، وتطرح علامات استفهام تتعدى حجم القرار الاسرائيلي باختراق لبنان، وتسلط الضوء مرة اخرى على مدى استعداد المجتمع اللبناني لمثل هذا الاختراق، وسواه من الاختراقات التي تنخر الجسد اللبناني من كل حدب وصوب.
ثمة قرار اسرائيلي واضح بتركيز الحملة الامنية والاستخباراتية على الداخل اللبناني، في اعقاب فشل ادوات الحرب التقليدية التي اختبرت في العام 2006 ولم تحقق من اهدافها سوى الدماء والدمار والخراب. وثمة قرار لبناني حاسم بالتصدي لهذه الحملة وتفكيك عناصرها وإحباط اغراضها. لكن الحصيلة هي بلا ادنى شك مفاجئة، بل مذهلة حقا، بعدما كاد الكشف عن الشبكات الاسرائيلية المتغلغلة في النسيج اللبناني يصبح خبرا يوميا عاديا.
ومهما قيل في تفسير قوة القرار الاسرائيلي وفي مستوى الاغراءات التي تغدقه اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية على عملائها اللبنانيين، فإن نسبة الشبكات وعدد افرادها لا يتناسب مع عدد السكان في لبنان، ولا مع اي نسبة مماثلة يمكن تسجيلها في اي بلد آخر تعرض لحملات امنية واستخباراتية خارجية.. ما يوحي بأن العمالة ليست معضلة او مرضا، بل هي اقرب ما تكون الى مهنة يختارها لبنانيون من كل الطوائف والفئات الاجتماعية بملء ارادتهم وبكامل وعيهم.
لا يمكن ان يكون المال هو الدافع الرئيسي، او الوحيد، لان معدل دخل الفرد اللبناني مرتفع نسبيا، وهناك مجالات عديدة مشروعة ومحظورة لرفعه، وهي معروفة جيدا من جميع اللبنانيين من دون استثناء، من دون التعرض لهذا الخطر المتمثل بالتوجه الى اسرائيل والعمل لحسابها، او حتى من دون الخضوع لابتزاز اجهزتها الاستخباراتية او ربما لتهديداتها.
هناك عيب تكويني ظاهر في الشخصية اللبنانية، وهناك خلل مؤكد في تركيبة المجتمع اللبناني. وكلاهما يعود الى مرحلة التأسيس الاولى للوطن الذي قام على عقيدة الارتباط بحكم المتصرفين ثم القناصل ثم السفراء، وصولا الى قادة الجيوش الاجنبية، والذي استمر على ثقافة التسليم للخارج مهما كانت هويته بأنه شريك طبيعي في حل الخلافات الداخلية، حتى بين سكان الحارة التحتا والحارة الفوقا لاي قرية، او بين المقيمين في حي واحد او مبنى واحد.
وكل ما افتعل منذ الاستقلال وحتى اليوم من تربية وثقافة وطنية كان مجرد هراء، سخرت منه الحروب الاهلية المتواصلة وخطوط التماس التي رسمت ولا تزال ترسم من دون انقطاع بين الطوائف والمذاهب، وأقامت البرهان عليه تلك المواقف الخارجية، العربية والاجنبية، التي لا تخفي احتقارها للبلد وأهله، وتؤمن بالفعل بالمقولة الخالدة: لبنان ليس وطنا للبيع، بل للايجار لمن يدفع اكثر!
ليس من المستبعد ان تكون تلك الشبكات الاسرائيلية، وغيرها من الشبكات العاملة لخدمة دول عربية وأجنبية اخرى، تستكمل ذلك التراث الوطني العريق، وتعمل لتصفية حسابات داخلية خاصة، اكثر مما تعمل من اجل مصالح دولة إسرائيل!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى