منير الشعراني: تأويل المتاهة
روحانية ترقى إلى مستويات تجريدية عاليةروحانية ترقى إلى مستويات تجريدية عالية خليل صويلح
خطوطه كوريغرافيا صوفيّة مشرّعة على التجريب
تستقبل دمشق هذه الأيّام فناناً متمرداً من أبنائها، عاش عمراً في المنفى، وفيه بنى مكانته كأحد ألمع المشتغلين في تطوير آليات الخطّ العربي، برؤية تشكيليّة متجذرة في التراث. تلميذ بدوي الديراني بين روحانيّة وتجريد
تنطوي تجربة منير الشعراني في الخطّ العربي على مغامرة حقيقية، تسعى من دون هوادة إلى تأصيل لوحة خطّية عربية، تعيد الاعتبار إلى الخط بوصفه فناً عريقاً، خارج الوظيفة النفعية من جهة، وبعيداً من الحروفية ذات البعد الاستشراقي من جهة أخرى. لوحاته تقف عند المسافة الفاصلة بين موروث الخط العربي، والتطلعات الذاتية لتأثيث الحرف بإمكانات جمالية ووجدانية تنبثق من جوهره ومعناه. كما تنأى عمّا هو مقدّس ويقيني، في محاورة جدلية لاستنباط أفكار جديدة ومبتكرة لوضع الخط العربي في مقام تشكيلي وبصري ينافس اللوحة بكل أبعادها الجمالية.
تجربة منير الشعراني (1952) تكمن أهميّتها في الدور الذي لعبه هذا الفنان السوري، الذي يعود إلى بلاده بعد سنوات المنفى الطويلة في تطوير آليات الخطّ العربي، من وجهة نظر حداثية، ومن دون قطيعة معلنة مع المنجز القديم. هكذا، تأتي تجاربه التقنية ترجيعاً لدراسة معمّقة لإمكانات الحرف العربي وأسراره في التوريق والتشجير، وفهم التجريد الهندسي الدقيق لكل حرف على حدة، بناءً على حفريات آباء الخط العربي في العمارة الإسلامية.
المعرض الذي تستضيفه «غاليري أيام» الدمشقية (حتى 30 ك2/ يناير) ويضمّ 35 لوحةً، يمثّل صورةً متكاملةً لما وصلت إليه تجربة الشعراني، سواء لجهة التقنيّة أو لجهة الأسلوبية في بناء اللوحة. إذ إنّ المسألة تحتمل وجوهاً عدة لإبراز هذا الحرف أو ذاك، تبعاً لموقعه في العبارة المختارة. هكذا، تحيل لوحة مأخوذة من موروث ابن عربي أو النفري، مثلاً، إلى نفحة صوفية عالية، تتبدى بإشراقات الحرف عبر منحى بصري وتطريبي، يستعيده الشعراني في أكثر من تمرين، وذلك باستخدام مقترحات الخط الكوفي على نحو خاص. لا تنتهي أغراض اللوحة هنا عند حدود الخط، بل تتعداه إلى تأثيرات بصرية تعمل على ما وراء العبارة من قيم وأمثولات وأقوال مأثورة. فاللوحة لدى حفيد شيخ الخطّاطين الشوام بدوي الديراني تنهض على أكثر من سطح: سطح أول ينشغل بإيصال الشحنة الجمالية والبصرية للحرف، وسطح ثانٍ للغز المعنى، وثالث للسرّ المخبّأ بين ثنايا العبارة، في ما يخص الظاهر والباطن، أو الخفي والجلي، ما يشحن اللوحة بموسيقى تجريدية تتوحد في روح الكلام: «المكان إذا لم يكن مكانه لا يعوّل عليه»، أو «العين سراج الجسد»، و«العلم في العين حيرة».
في اشتغاله على بيت امرئ القيس «ألا أيها الليل الطويل ألا انْجلِ»، يلجأ الشعراني إلى تأثيث هذا الشطر من البيت بأقواس متداخلة ومغلقة، على خلفية سوداء. هكذا، تبدو العبارة كما لو أنّها متاهة، لولا استخدام النقاط التي تشع بالأحمر وسط العتمة المطلقة. لكنّه في مقترح آخر للعبارة عينها، يجد حلولاً بصرية أخرى باستخدام انسيابية حرفي الألف واللام واستطالاتهما، فتنشأ كتلة في الفراغ تحيل إلى استغاثة وربما صرخة في العراء.
حرف الألف هو مرتكز أساسي في اشتغالات الشعراني الخطية، وذلك لقدرته على التفرّد بين الحروف الأخرى لجهة التجريد والتوريق، ثم تأتي الهمزة على شكل طائر يحطّ على شجرة المعنى.
يجرّب الشعراني مختلف أنواع الخط العربي تبعاً لتناغم الأحرف في هذه العبارة أو تلك لاختبار أبعادها التشكيلية، وقد يعود إلى العبارة في نوع آخر من الخط، سواء أكان كوفياً أم ثلثاً أم ديوانياً. كأن هذا الخطّاط لا يستقر في مكان، فهو دائم البحث والتجريب. صحيح أنّه امتداد لتجارب الخطاطين الكبار، لكنه في المقابل يسعى إلى التجاوز والإضافة لتأكيد توقيعه الشخصي بعيداً عن النص المقدس الذي ارتبطت به تجارب معظم الخطاطين القدامى. إذ بقي نحو خمسة قرون حبيس هذا المنحى الديني، وخصوصاً في فترة الحكم العثماني للمنطقة العربية.
هذا المأزق تجاوزه الشعراني عبر كسر القوالب التقليدية للخط العربي، والمزاوجة بين الجماليات الخاصة بهذا الخطّ وقيم التشكيل الحديث، ما فتح آفاقاً رحبة ومبتكرة أمام لوحته. روحانية أعمال الشعراني ترقى إلى مستويات تجريدية عالية، لا تتّكئ على ما هو مألوف في الزخرفة والحواشي والتوشيحات، بل تنبثق من الداخل بتطويع الخط غرافيكياً، وتكشف ما هو مسكوت عنه بفتنة بصرية آسرة، فتتجاور الأحرف المحبوكة بقوانين هندسية صارمة، على شكل سلّم موسيقي يمنحها رنيناً خاصاً، وتأويلات لا تحصى، عبر التناسب الدقيق بين الخط والنقطة والدائرة، والفصل والوصل، والانحناء والاستقامة.
بعيداً عن التقنية وتناغم الكتل والفراغات في قاعدة اللوحة وعمقها الهندسي، يتفرد هذا الفنان بانحيازه إلى الموروث السردي العربي القديم، وبعض النصوص الشعرية المعاصرة. وهو في اختياراته هذه يعبّر عن ذائقته الشخصية أولاً، كما يبث رسائل إلى المتلقّي بإشارة أو تأويل. وإذا بالنص المختار يوجّه مسار اللوحة ومقترحها السردي. هكذا، تتجاور نصوص ابن عربي مع أشعار المتنبي والنابغة الذبياني وعمر الخيّام وعباس بن الأحنف، وحكَم الإمام علي بن أبي طالب، ومأثورات عربية في الحكمة والمحبة والخير والجمال… كما يخوض هذا الخطّاط المتمرد تجربة مهمة في مناوشة ملحمة «جلجامش» خطياً وبصرياً، حين ينطلق من عبارة مركزية في الملحمة، ومن ثم يتوغل في متن النص. فعبارة مثل «التيه يبدأ منك»، الواردة على لسان جلجامش، تنطوي على حمولة فلسفية ومعرفية، سرعان ما تنفتح على بعد حكائي يضيء رحلة جلجامش وأنكيدو في البحث عن عشبة الخلود. خطياً، ستتوسط العبارة سطح اللوحة، ويقع ثقل الكتلة على حرف الكاف وحده. هذا الحرف الذي يأخذ شكل الهرم بتوريق بسيط في نهايته. أما النص نفسه، فيبدأ دائرياً تبعاً لطواف جلجامش وأنكيدو، قبل أن يستقر على شكل مستطيل بالأسود والأحمر، وتؤلف الكتلتان ملامح شخص يواجه مصيراً مجهولاً.
إذا تأملنا مثلاً في لوحة «إن المحب لتبدو منه أسرار» (عباس بن الأحنف)، نلاحظ كيف تتكوّن الكتلة على شكل قلب قي قاعدة اللوحة، بينما يظهر مطلع القصيدة مثل هلال في أعلاها، ثم يكتمل النص على شكل قمر. هل نختم بعبارة أثيرة لدى الشعراني؟ عبارة لعلها تختزل تجربته بأكملها: «العارف صاحب تجريد».
معرض منير الشعراني، حتى 30 ك2/ يناير الجاري
«غاليري أيام» ــ دمشق: +963116131088
www.ayyamgallery.com
www.elshaarani.com
لا للصنميّـــــة… نعـــــم للاجتهـــــاد
لعل تلك الزيارة المبكرة التي قام بها الفتى منير الشعراني إلى كبير الخطّاطين في الشام بدوي الديراني في مطلع الستينيات، هي من سيوجّه خطواته كي يكون خطّاطاً. هكذا انتسب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق ليدرس التصميم الغرافيكي على أصوله. تجواله بين دمشق والقاهرة ومرّاكش والأندلس، لاكتشاف أسرار الخط العربي في العمارة الإسلامية، وضعه أمام مسؤولية أخرى، تتعلق بسعيه إلى تطوير هذا الخط وفقاً للمتطلبات الحديثة. فهو لن يكون نسّاخاً جرياً على عادة الخطاطين المقلّدين، بل صاحب بصمة شخصية ستترسخ معرضاً وراء معرض آخر.
في قراءة معمّقة لتجربة الشعراني، يشير حسين بيكار إلى «مايسترو حاذق يدرك الخصائص الخاصة للحروف وإمكاناتها الآلية. يستخدم ملكته القيادية في تحريك الكلمات والحروف واختيار مواقع ظهورها واحتجابها فوق مسرح اللوحة». ويضيف: «هكذا تجتمع مقوّمات العمل التشكيلي جميعها في ما يؤلّفه الشعراني فترتفع تارة لتصدح بلحن مشرقي بالغ الأصالة، أو تتشامخ في فراغ اللوحة كأنها صرح من صروح غرناطة، أو تدقّ وتشفّ كأنها منمنمة فارسية بالغة الرقّة».
يعيد منير الشعراني أسباب ثبات قوانين الخط العربي إلى «هبوب رياح التحريم على الفنون قروناً عدة، كانت كافية لكبح جماح الإبداع، ولم يكن الخط العربي في منأى عما أصاب الفنون الأخرى. لقد سُجن في قفص من ذهب اسمه القدسية والاكتمال وإقفال باب الاجتهاد». ويوضح: «من جهتي، لم أستكِن إلى الجمود والجهل والسلفية، بل تسلّحت بالكرامة والمعرفة والوعي والشجاعة والعناد، وبطموح إلى الحرية، لأنتقل بلوحتي الخطية إلى أفق أرحب ينتمي إلى الزمن الذي أعيش».