إصدار فرنسي مثير حول مسلسل حياة دارينا الجندي الصاخب في لبنان
باريس ـ انطوان جوكي
نصّ حميمي وانتهاكي يفضح مخاطر ممارسة المرأة لحرياتها في شرقنا
كثيرة هي المزايا التي تجعل من الكتاب الصادر حديثاً لدى دار “أكت سود” الباريسية بعنوان “اليوم الذي توقّفت فيه نينا سيموني عن الغناء”، عملاً أدبياً فريداً من نوعه. فمن حيث المضمون، يدخل في خانة السيرة الذاتية، سيرة الممثلة اللبنانية دارينا الجندي التي تروي لنا بصراحة جريئة قصة نشأتها الحرّة في لبنان والكلفة العالية التي دفعتها ثمناً لهذه الحرية.
لكن طريقة تشييد هذا النص تجعله يتمتّع أيضاً بجميع صفات الرواية الحديثة، وإن كانت جميع الأحداث المذكورة فيه حقيقية ولا تمت إلى الخيال بأي صلة. ويعود الفضل في ذلك إلى الكاتب الجزائري محمد قاسمي الذي التقى في باريس دارينا على مدى ساعاتٍ وأيامٍ طويلة استمع خلالها إلى قصتها المؤثّرة، ثم تعاون معها واستعان بنصّها المسرحي لوضع هذه السيرة الروائية.
ومنذ الأسطر الأولى، يشدّنا هذا الكتاب بالأسلوب المباشر الذي اعتمدته دارينا (وحافظ عليه قاسمي) لسرد تفاصيل حياتها الصاخبة والغنية بالأحداث والمغامرات في لبنان، ولكن خصوصاً بطريقة توظيف هذه التفاصيل بشكلٍ يلقي ضوءاً فاضحاً على مخاطر ممارسة المرأة لحرّياتها في مجتمعاتنا الشرقية الذكورية والتقليدية. أكثر من ذلك، تتقدّم دارينا، انطلاقاً من تفاصيل حياتها، وبنفاذ بصيرة نادرة، في اتجاه الوضع اللبناني العام فتعبر جميع مراحل الحرب الأهلية متوقفةً عند أبرز أحداثها المأسوية وعند نتائج هذه الأحداث على حياتها وحياة أفراد عائلتها، ولكن أيضاً على حياة جميع اللبنانيين. وفي هذا السياق، لا يسلم أيّ من أطراف الصراع من نقدها اللاذع، الأمر الذي يحوّل الكتاب إلى شهادة حيّة ومؤثّرة من داخل الحرب، شهادةٌ تفضح منطق التقاتل وتكشف بحسٍّ فكاهي أسوَد طقوس العيش الغريبة والشاذة التي ظهرت في بيروت أثناء تلك الفترة.
ولا تكمن قوة هذا النص فقط في بوح دارينا الحميم والدقيق عن تجارب قصوى عبرتها فعلاً، كإفراطها في التعاطي وثورتها الباكرة على التقاليد الاجتماعية، مع أن بعض تفاصيل هذه المغامرات قد يصدم أكثر الناس خبرةً، بل في كشفها تدريجياً الظروف التي قادتها إلى هذا السلوك، وعلى رأسها انحراف المجتمع اللبناني من حرّية مفرطة خلال فترة ما قبل الحرب إلى “تدين” صارخ ومتنامٍ مع انطلاق موجة العنف، وضرورة الهروب من حالتي الخوف أو الجنون اللتين كانتا تتربّصان بها وبجميع اللبنانيين آنذاك، بدون إهمال تربيتها المتحررة وظروفها العائلية الخاصة التي لعبت دوراً في بلورة شخصيتها الفريدة والمتمرّدة.
وبالفعل، تستحضر دارينا في عملية سردها بعض أفراد عائلتها الذي شكلوا بالنسبة إليها، وإن بدرجاتٍ متفاوتة، نماذج تأثرت بهم بدون شك، مثل عمّها، علي الجندي، الشاعر “المجنون” الذي كان يشتم النظام السوري وقائده في شوارع دمشق بدون أن يتعرّض له أحد، وعمّها الآخر، خالد الجندي، القيادي النقابي في سوريا الذي أمضى حياته في السجون وتحت الإقامة الجبرية، وأخيهما، سامي، الذي كان سفير سوريا في باريس خلال الستينات والذي عرف السجن أيضاً في بلده لنشره كتاباً بعنوان “عرب ويهود” بعد أن أحبّ امرأة يهودية، وأمّها الصحافية اللبنانية إلهام علوية التي واظبت على ممارسة مهنتها حتى في أحلك أوقات الحرب وكانت السند الاقتصادي الرئيسي لزوجها وبناتها، ووالد أمها الذي كان ضابطاً في الشرطة، خدم في جيش الشريف حسين…
عاصم الجندي
لكن الشخص الذي لعب الدور الأكبر في تكوينها ونشأتها، والذي خصّصت له دارينا جزءاً كبيراً من كتابها، هو والدها، الكاتب والصحافي المعروف عاصم الجندي، الذي علّمها ضرورة كفاحها من أجل حرّيتها كامرأة وعدم الخضوع إلى التقليد الشرقي الذي يعتبر أن “العذرية هي الرصيد الوحيد الذي يمكن للمرأة العربية أن تمتلكه”، كما تقبّل، منذ طفولتها، قسوتها الفطرية، وبدلاً من معاقبتها، كان يفرح “بالحماقات” التي ترتكبها. بعبارةٍ أخرى، رفض والدها دوره كأب كي يبلغ أعلى درجات التواطؤ والألفة معها ومع أختيها وكي يكون شريكاً في أخطائهن ونجاحاتهن. أكثر من ذلك، تمكّن من نقل شغفه بالكتب إلى بناته عبر قراءته لهن خلال ساعات طويلة روايات دوستويفسكي وقصائد بودلير وماياكوفسكي، أو مقتطفات من الأدب العربي الإيروسي. ولإبعاد بناته عن مشهد الحرب اليومي، كان يطوف بهنّ على معارض الفن والمكتبات ودور السينما في منطقة الحمراء. باختصار، يظهر والد دارينا في هذه السيرة ـ الرواية بصورة البطل، بطل حياتها، وكنموذج مضاد للرجل الشرقي التقليدي. وهذا ما يشرح بالتأكيد لماذا ارتدّت بسرعة مبادئ الحرية والانفتاح التي تعلّمتها منه ضدها وقادتها إلى مستشفى المجانين. مناضلٌ في السبعينات في الصف الفلسطيني ومعارض شرس للنظام السوري، تعرّض عام 1980 لعملية اغتيال خرج منها بأعجوبة بشلل نصفي قبل أن يتوفى بعد فترة في حالة خيبةٍ كبيرة بالنسبة إلى ما كان يحلم به ويناضل من أجله في شرقنا، أي الحرية والعلمنة.
وفعلاً، أكثر ما يهزّنا في هذه السيرة هو قدر دارينا وأختيها ووالدها كغرباء في بلدهم لبنان بحكم ذلك القانون الجائر الذي لا يسمح للأم أن تمنح جنسيتها لأولادها ولزوجها، في حال كان هذا الأخير غريباً. فعلى طول هذا النص الممتع والعنيف، يتملّكنا الشعور بأن معظم مشاكل دارينا وعائلتها في لبنان كان مصدره الأصول السورية لوالدها، وذلك على الرغم من لجوء هذا الأخير إلى لبنان منذ عام 1958 هرباً من بطش السلطات السورية.