السؤال التونسي … محاولة للإجابة

عريب الرنتاوي
ثمة سؤال ظل يراودني منذ أن تفجّرت “انتفاضة الخبز والحرية” التي اطلقها الشعب التونسي وحتى ما بعد “هرب” الرئيس زين العابدين بن علي: لماذا تونس بالذات؟…لماذا نجح الشعب التونسي حيث اخفقت شعوب عربية؟…وكيف صادف أن أصبح هذا البلد العزيز والجميل ، الحلقة الأضعف في سلسلة التغيير المستعصي في العالم العربي؟
مردّ هذا السؤال أن تونس ليست البلد العربي “الأسوأ” في حسابات التنمية والصحة والتعليم والأمية ، ولا هي في صدارة قائمة الدول العربية من حيث معدلات الفقر والبطالة…ونظامها القمعي المشهود له بقبضته البوليسية ، ليس أكثر دموية من أكثر من “دزينة” من النظم العربية الحاكمة على الأقل…والشهيد محمد البوعزيزي ، له نظراء كثر في معظم إن لم نقل جميع المدن والعواصم العربية ، بعضهم من عرفنا بهم ، وبعضهم من قضى صامتا من دون ضجيج؟..
كيف أمكن لتونس وشعبها أن تعلق الجرس ، ولماذا تخلفت المجتمعات العربية عن فعل شيء مماثل من قبل ، أو ترديد صدى “الثورة التونسية” من بعد ، وهل نحن في كل مدن العرب وعواصمهم ، بحاجة لمن يحرق نفسه في عواصمنا حتى نسيّر تظاهرات الغضب ونقرع أبواب التغيير؟.
لا جواب قاطعا لديّ ، وما سأقوله أقرب إلى “التمرين الذهني” منه إلى التحليل الجاد والرزين ، وأدعو الزملاء والقراء والباحثين والخبراء ، إلى إعمال الفكر في الإجابة على هذا السؤال ، والبحث عن العوامل التي أنتجت “الفرادة التونسية” ، والإجابة على سؤال: لماذا هناك ، والأهم ، كيف يمكن اللحاق بالركب التونسي الذي أثار مشاعر البهجة في قلوب ملايين المواطنين العرب ، كيف يمكن إعادة الثقة بقدرة الأمة على اللحاق بركب الحرية والديمقراطية والتغيير ، بعد أن ظننا أن “عصر الركود والاستنقاع” لا نهاية له ، وأن قدر هذه المنطقة ، أن تظل في ذيل قوائم التنمية البشرية في العالم.
في ظني أن للأمر صلة بالمستوى والسوية الثقافية للشعب التونسي ، فهو عموما ، شعب متعلم ومثقف ، ولديه نخب وطلائع استمعنا باهتمام شديد لقراءاتها وتحليلاتها خلال الأسابيع القليلة الفائتة ، ونحن برغم زياراتنا المتكررة لتونس ، لم تكن تتح لنا فرص التعرف على قراءات هؤلاء وتحليلاتهم ، أولا لعدم قدرتنا على التواصل مع شرائح واسعة ومتعددة من الشعب الشقيق ، وثانياً بسبب حالة الخوف التي كانت تمسك بتلابيب المثقفين والنشطاء الذين كانوا يحجمون عن الإدلاء بـ”القول المباح” ، كلما شعروا أن تونسياً آخر قد ينقل تقارير عنهم إلى الجهات الأمنية.
وفي ظني أن للأمر صلة أيضا ، بحالة الانسجام التي يعيشها المجتمع التونسي ، فتونس من بين دول عربية قليلة ، ليست منقسمة على نفسها اجتماعيا ، وليست موزعة بين طوائف ومذاهب وأقوام وأقليات وأكثريات ومنابت وأصول ، إلى غير ما هنالك من انقسامات وتقسيمات من شأنها أن تفتح الباب لتداعيات القانون الاستعماري: “فرّق تسد” ، وهو ذاته القانون الذي تسخدمه الحكومات في تأليب الناس على بعضهم ، وتخويفه منه ، لتكون المحصلة في نهاية المطاف ، استمساكنا جميعاً بحالة الاستبداد والاستنقاع المستفحلة التي تمسك بتلابيب مجتمعاتنا.
وللتونسيين إرث طويل في التحضر والحياة المدنية ، وفي الثورات والتمرد على الطغاة والمتجبرين ، وهم في ذلك شأنهم شأن كثير من إخوانهم في الدول والمجتمعات العربية الأخرى ، أجبروا على العيش في ظلال الاستبداد والقمع ، الذي أتقنته باقتدار ، حكومات وأنظمة ما بعد الاستقلالات ، مسجلة النجاح تلو النجاح ، في احتواء طاقة التغيير عند المجتمع وتنفيسها وتبديدها ، وتحطيم بناه وهياكله السياسية والمدنية ، وإفراغها من كل مضمون ، لتظل السطوة للحاكم ، من قبل ومن بعد.
وربما تكون الخصائص الشخصية للحاكم قد لعبت دوراً في وقوع التغيير واستعجاله ، فالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ، الذي لا يمكن اتهامه بـ”الزهد” بالسلطة ، سرعان ما “خلع” ، تاركاً نظامه ومعاونيه وخدمه وحاشيته وزبانيته ، لأقدارهم ، ولو حصل أمر كهذا في عواصم عربية أخرى ، لما كان رد فعل قادتها مماثلا بالضرورة ، ولربما رأينا حمامات دم ومجازر ، تصبح معها خسائر الانتفاضة التونسية ، نزهة قصيرة ، أو مزحة لا تثير انتباه أحد.
هذه محاولةمتواضعة لفهم حقيقة “الفتح التونسي المبين” في دنيا الركود والسبات العربيين .
الدستور