نتائج المائة يوم الأولى
د. طيب تيزيني
تأتي المائة يوم الأولى من حكم أوباما لتطرح سؤالا ذا طابع كوني، لأنه ينسحب على الكون الراهن كله وعلى ما يحتمله مستقبلياً، ذلك هو: هل تمكن أوباما على امتداد المائة اليوم الأولى، أن يحدث خرقاً بنيوياً حاسماً في النظام العالمي الجديد؟ لن يكون بوسعنا القيام بفحص دقيق وشامل لما قد يكون حدث على هذا الصعيد.
قد نصل إلى مقاربة أولى لهذه المسألة، اذا اتجهنا نحوها منهجياً في ضوء قضية “القطبية” فهذه تظهر في بداية تشكل حاملها الكوني الموضوعي ممثلا بالنظام العالمي الجديد. فلقد شهدت بدايات العِقد الأخير من القرن المنصرم ظهور تلك البداية. وتعاقب الأمر بسرعة قصوى وعلى أزيز الصواريخ والمدافع، وكذلك مع اندلاع الصراع في قلب الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر، ومن ثم مع تصدع النظام العالمي القائم على الحرب الباردة. واستمرت هذه العملية حتى نهاية عهد بوش الطويل نسبياً، مع إضافة أن محاولات جرت لإقصاء منظومات فكرية لمصالح أخرى، من ذلك مفاهيم التقدم التاريخي والحوار الحضاري والتعايش السلمي.
ولنضع هذه العملية المركبة في خواتيمها العظمى: نتائج حرب الخليج الثانية، والحروب الطاحنة في يوغوسلافيا وأفغانستان وباكستان والعراق، وانفلات عقال ما يُعتبر حركات إرهابية متطرفة، واستفراد القوة والهيمنة في العالم من طرف الولايات المتحدة، واندفاعة الأزمة المالية الراهنة الكبرى، التي قصمت ظهر البعير، وأخيراً وليس آخراً الثورتان العظميان اللتان قدّمتا إمكانات عظمى لإنتاج “القرية الكونية” الواحدة، أي السوق بوصفها مبتدى النظام الجديد ومنتهاه. في ذلك الفعل المديد من الاستفراد والإقصاء، استفراد أو محاولات استفراد بلدان ودول وثروات وشعوب عبر استباحتها وإرغامها على الإندراج في المحور العالمي الجديد، وإقصاء بمعنى استباحة بلدان ودول وثروات وشعوب من خلال إخراجها من عصب العالم السياسي والاقتصادي والعسكري.
لقد أنهكت الولايات المتحدة بنسبٍ آخذةٍ بالتعاظم والتعمق، في وقت راحت تسير فيه نحو الهاوية: لقد افتقدت المصداقية والشرعية الدولية، وفقدت المليارات ثمناً لحروبها الاستباقية، وأُنهكت عسكرياً حيث تعين عليها أن تقدم ألوفاً من عسكرييها ضحايا لحروبها هذه، وأرغمت على أن تعيد النظر في استراتيجيتها المخفقة هنا وهناك من العالم، وامتد الأمر إلى حلفائها. ومع هذا التسارع في سقوط احتمالات الاستمرارية، كان الأعظم قد أعلن عن نفسه: إن إمكانية استمرار الأحادية القطبية بدأت في التهشم، وبدأ معها خط التراجع. ولكن ذلك كان يبحث عمَّنْ يعبّر عنه ويحوّله إلى واقع قائم، فكانت نهاية بوش الدرامية، وبداية أوباما الصاعدة. وهذا ما اتضح لجموع من الإعلاميين والباحثين الغربيين والأميركيين.
من ذلك الموقع السائر نحو التصاعد، وضع يده الكاتب والإعلامي الفرنسي جان ماري كولومباني على أن الأمور الأكثر حسماً في جديد أوباما ظهرت على صعيد السياسة الخارجية عموماً. وقد حدد ذلك حين أعلن في تحليل نُشر في صحيفة (البايْس الإسبانية بتاريخ 2009/4/28) الفكرة التالية: إن الجبهة الأهم التي ركز عليها أوباما تتحدد في الانتقال من أحادية القطب والحروب الوقائية إلى تعدد الأقطاب والحوار والدبوماسية ثم الدفاع عن القيم، التي تمثلها الولايات المتحدة، مما أدخل ارتياحاً كبيراً عند حلفائها وجعل من الصعب على أعدائها الاستمرار في نهجهم ضدها. فبحسب ماري كولومباني، أحدث أوباما نقلة نوعية واقعية في حقول خطيرة من الاستراتيجية الأميركية، وأهمها تجاوز أحادية القطب.
واذا كان تقدير ما أنجزه أوباما كبيراً، برأي “كولومباني” وآخرين، إلا أن كتاباً آخرين (مثل البريطاني جاري يونج)، يرون غير ذلك، فهذا الأخير يرى في مثال نشرته صحيفة الجارديان بتاريخ 2009/4/28، أن برنامج أوباما ابتداء من الحرب الأميركية في العراق وافغانستان وانتهاء بالتعامل مع الأزمة المالية، يتضمن احتمالا قوياً بالفشل. بيد أن ما لا يمكن التشكيك فيه هو أن الرئيس الجديد ومعه 78 في المئة من الأميركيين، يسير بتصميم كبير على انجاز برنامجه الاصلاحي، مما يعتبر مؤشراً على خط جديد من التحولات الكونية المحتملة.
إن التركة العولمية البوشية التي واجهها أوباما، ثقيلة ضخمة في اضطرابها وفي المخاطر التي خلّفتها، وإنْ بمرحلة زمنية قصيرة نسبياً، ولكن التصدي لها داخلا وخارجاً يتطلب جهوداً مضاعفة: إن قدرة انتشار الشر أكبر من قدرة انتشار الخير. فحدود الاصلاح الحقيقي؛ بمقتضى هذا الأخير، ضئيلة وضعيفة حتى الآن، وهذا بذاته مشروع كوني جديد. في هذه الثغرة التاريخية المعاصرة قد يكتشف عبر الديمقراطية والعدالة والحرية موطئ قدم لاستحقاقهم التاريخي النهضوي.
جريدة الاتحاد