بابلو نيرودا: أنا شعوب كثيرة وفي صوتي قوة نقية تعبر صمتك
بابلو نيرودالطالما كان الشاعر التشيلي بابلو نيرودا يردد: “خير إلا يحدث أبدا من ان يحدث متأخراً”، معاكساً الحكمة المشهورة، ولكم صدق في إعلانه هذا. أما حين يكون الأمر متعلقا بإجراء حوار معه، فلا بد من الإقرار بان تحقيق حلم مماثل، وان بعد فوات الأوان، خير من عدم تحقيقه على الإطلاق.
ولكن ما سبيلنا اليه والشاعر رحل عن هاويتنا هذه لسنين خلت؟ كيف اللقاء وقد عجّل مرض السرطان في اختطاف هذا الكاتب العظيم والخطيب البليغ والعاشق الكبير والسياسي الملتزم، بعد اثني عشر يوما من انتحار صديقه سلفادور الليندي اثر الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال بينوشيه في الحادي عشر من أيلول 1973؟ أين نحاور ذاك الذي ولد تحت اسم نفتالي ريّس باسوالتو، وهو راقد رقاد الفرسان الى جانب زوجته الثالثة والأخيرة ماتيلد، في ايسلا نيغرا غرب سانتياغو؟ لا حل أمامنا، على الأرجح، سوى ان “نقيمه من الموت” بكلماته وقصائده. ومن تلك الكلمات والقصائد تحديداً ولد هذا الحوار المتخيل معه، وهو احتفال على طريقتنا بمرور مئة عام على ولادته، مناسبة تنتهزها اليوم معظم بلدان العالم لتكريم ذكراه. ودليل أيضا، ان كان ثمة من حاجة الى دليل، على ان غياب الشاعر عودة لا تنتهي.
“الرفيق” والشاعر بابلو نيرودا، التقيناه إذا على مفترق طرق بين حلم وحلم، بين قصيدة ويد. مشينا اليه في خطى من لا يوقف مسيرهم شيء، وطرقنا شجر أبوابه وزرناه في كل بيوته، في “عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة” و”الإقامة في الأرض” و”النشيد العالمي” و”أناشيد أولية” و”مئة سوناتة حب” و”اعترف باني عشت” وسواها الكثير من المنازل التي شيّدتها مخيلته ونبوغه الشعريان. وهناك، تحت سقف من غيم ونار، ساءلنا نصوصه وحاورناها، ومن أمطارها وجمراتها قطفنا هذه الأجوبة.
قل أيها الشاعر، كيف يولد الشعر؟
– هو يجيء من مرتفعات غير مرئية. أصوله غامضة ومعتمة، وينابيعه مستوحدة ومعطرة. كمثل نهر يأتي ويجرف كل ما يقع في درب تياره. كمثل نهر أيضا يشق طريقه بين القمم ويذيع نشيده البلوري في المروج. يسقي الحقول ويعطي خبزه للجائعين. يمشي بين سنابل القمح ويروي عطش الرحالة. وعندما يناضل الرجال أو يرتاحون، وحده يغني لهم، يجمعهم ويصهرهم ويعجنهم ويسري فيهم مؤسسا الشعوب. هكذا يولد، وهكذا يعبر سهول الأرض حاملا الى الجذور وعدا باستمرار الحياة.
وهل تستطيع هذه الحياة التي يحملها في رحمه ان “تقتل” الموت المتفشي في عالمنا؟
– ما نفع الأبيات ان لم تكن ضد ذاك الليل الذي يخترقنا كخنجر مرّ؟ ما نفعها ان لم تجعل النهار اقل سخفا والغروب اشد غروبا؟ ما حاجتنا إليها ان لم تكن ذاك الركن الحزين والجميل حيث يطيب لأجسادنا المطعونة ان تتهيأ للموت؟ نحن الشعراء نكره الكراهية ونحارب الحرب بالكلمة.
وما الكلمة؟
– جنح من أجنحة الصمت. قطعة ارض اعشقها، انا الذي لا املك نجمة سواها بين كل مروج السماء. هي التي تكرر الكون وتكثّره. هي بيتي أيضا. شيّدتها فسيحة رحبة لكي العب فيها من الصباح الى الصباح.
لم تكتب؟
– انها طريقتي لكي أكون وحيداً. لا اكتب لتسجنني الكتب بين طياتها. اكتب من اجل العصافير. ومن اجل أيلول. اكتب أيضا من اجل الناس البسطاء، رغم انهم لن يستطيعوا قراءة شعري بعيونهم الريفية. لكن ستجيء لحظة يصل فيها سطر من سطوري، أو بعض الهواء الذي يهزّ كياني الى آذانهم، وربما يقولون آنذاك: كان رفيقا حقيقيا. وهكذا يكفي. إنه التاج الذي أريد.
كيف تصف نفسك بابلو؟
– ولدت من صدر وطني الغباري، ومن جذع الشعر. لي قلب نجار، وكل ما المسه يصبح غابة. أحب عالم الريح وغالباً ما تختلط عيناي بأوراق الأغصان. لا أميز بين النساء والربيع، بين الرجل والشجرة، بين الشفاه والجذور.
ولم جئت الى هنا؟
– أتيت لاغني ولتغنوا معي. فأنا شعوب، شعوب كثيرة، واملك في صوتي القوة النقية لكي اعبر صمتكم وانزرع في العتمات. أيامي مصنوعة من كل الحيوات، فالشاعر أوسع من البحر وجزره، ويجب ان تنزلوا فيه مثل بئر لكي تخرجوا من الهاوية بغصن مياه سرية وحقائق مغمورة.
كل هذه الحيوات. إلا تتعب أحيانا من انك..؟
– يحدث أحيانا ان ادخل معمل خياطة أو صالة سينما، ذابلا بائساً كبجعة ورقية تبحر في مياه من رماد. يحدث ان تدفعني رائحة صالونات التزيين أو دخان المحرّكات الى الانفجار بكاء. فأنا أريد فقط مسندا من حجر أو من صوف، أريد فقط إلا أرى المؤسسات ولا المصانع ولا الأسواق ولا النظارات الطبية ولا المصاعد الكهربائية. يحدث أيضا ان اتعب من قدميّ ومن أظافري ومن شعري ومن ظلي. بلى، يحدث في الحقيقة ان اتعب من كوني رجلا…
ذكرت الحقيقة. هل هي موجودة حقا؟
– الحقيقة هي ان ليس ثمة حقيقة. لقد متّ، وهذا أمر يعرفه الجميع رغم ان الجميع يخفيه. ماتت الحقيقة ولم تتلق أزهارا. ماتت ولم يبكها احد.
وأنت، هل أنت ميت حقا؟
– ميت هو ذاك الذي يصبح عبدا لعاداته، مكررا نفسه كل يوم. ذاك الذي لا يغيّر ماركة ملابسه ولا طريق ذهابه الى العمل ولا لون نظراته عند المغيب. ميت هو ذاك الذي يفضّل الأسود والأبيض والنقاط على الحروف بدلا من سرب غامض من الانفعالات الجارفة، تلك التي تجعل العينين تبرقان، وتحوّل التثاؤب ابتسامة، وتعلّم القلب الخفقان أمام جنون المشاعر. ميت هو ذاك الذي لا يقلب الطاولة ولا يسمح لنفسه ولو لمرة واحدة في حياته بالهرب من النصائح المنطقية. ذاك الذي لا يسافر ولا يقرأ ولا يصغي الى الموسيقى، ذاك الذي لا يقبل مساعدة احد ويمضي نهاراته متذمرا من سوء حظه أو من استمرار هطول المطر. ميت هو من يتخلى عن مشروع قبل ان يهم به، ميت من يخشى ان يطرح الأسئلة حول المواضيع التي يجهلها، ومن لا يجيب عندما يُسأل عن أمر يعرفه. ميت ٌ من يجتنب الشغف ولا يجازف باليقين في سبيل اللايقين من اجل ان يطارد احد أحلامه.
ميتٌ؟ انا؟ كلا، لست كذلك. لنقل أني صامت فحسب.
وما هي الأسئلة التي رافقتك الى صمتك ولا تخشى طرحها؟
– كثيرة هي.
لِمَ تخبئ الأشجار روعة جذورها؟ لِمَ تنتحر الأوراق عندما تشعر بأنها صفراء؟ لِمَ تبكي الغيوم الى هذا الحد، ولِمَ كلما بكت ازدادت مرحا وخفة؟ والدموع التي لا تُبكى، هل تنتظر دورها في بحيرات صغيرة، أم انها تصبح انهارا غير مرئية تتدفق نحو الحزن؟ وهل ثمة ما هو أكثر بعثا على الكآبة من قطار متوقف تحت المطر؟
من يتألم اشد، ذاك الذي لا ينفك ينتظر أو ذاك الذي لم ينتظر أحدا قط؟ كم من الأسئلة لدى الهرّ وكم يبلغ عمر تشرين؟ كم أسبوعا في اليوم الواحد وكم عاماً في شهر؟ وما اسمه ذاك الشهر الذي يحل بين كانون الأول وكانون الثاني؟
من هم أولئك الذين صرخوا فرحاً عندما ولد اللون الأزرق؟ وما اسمها الزهرة التي تطير من عصفور الى عصفور؟ أين منتصف البحر، ولم لا تركض الأمواج اليه؟ كم المسافة بالأمتار المستديرة بين الشمس والبرتقالة؟ لم أجمل الأنهار ذهبت لتجري في فرنسا؟
الم يكن صحيحا إذا ان الله يعيش في القمر؟ أليست الحياة سمكةُ تهيأ لتكون عصفورا؟ أين انزرعت عينا الرفيق بول ايلوار؟ وعندما كان يبكي بودلير هل كانت تنهمر دموعه سوداء؟ هل أستطيع ان اسأل كتابي إذا كنت انا من كتبه حقا؟ من يسعه ان يجيبني ما الذي جئت افعله في هذا العالم؟ ما الذي سيقوله عن شعري أولئك الذين لم يلمسوا دمي؟ وهل ثمة أغبى من ان يحمل المرء اسم بابلو نيرودا؟
هل تراكِ تعرفين من أين يجيء الحب؟ امن فوق أو من أسفل؟
– آه، الحب… لو أوتي لك اليوم ان تعود لتهمس بضع كلمات في إذن المرأة التي تحب، ما الذي كنت لتقوله لها يا ابلغ العشاق؟
– إنني جائع الى فمكِ، الى صوتكِ، وأهيم في الشوارع دون غذاء، صامتاً جريحاً، باحثاً عن حفيف قدميكِ السائل في أوردة النهار. قبّليني واحرقيني يا امرأة، فأنا ما عشت وما مت إلا من اجل ان تغرق عيناي في مياه عينيكِ اللامتناهية.
“النهار” – 22 شباط 2004
جمانة حداد
(لبنان)
********
استيقاظ بابلو نيرودا
ملك مصطفى
(سوريا / اسبانيا)
بابلو نيرودا بابلو نيرودا الذي كان دائما مركز استقطاب واهتمام في الأوساط الثقافية، والمناسبة هي إعادة طبع مجموعة أعماله الكاملة، والتي تضم من بينها قصائد كتبها في فترات شبابه الأولي والتي لم تضمها أية مجموعة سابقة له. عبر المجلدات الخمسة نكتشف التطور الكبير والحساسية الفريدة في التعبير الإنساني لصاحب نوبل التشيلي نيرودا الجائزة التي حاز عليها عام1971.
والشاعر التشيلي المولود عام 1904، لم يعرف باسمه بابلو نيرودا حتى عام 1920، فقد كان ينشر أغلب نتاجه الأدبي باسمه الحقيقي وهو نفتالي رييس، حتى جاءت مناسبة نشر قصيدة له تحت عنوان (رجل) والتي وقعها باسم مستعار هو بابلو نيرودا ليستمر فيه حتى وفاته، وليعطي هذا الشاعر لاسمه الجديد أكثر من دلالة ومغزى. لأنه خير من يلخص حياته، بتجاربها وبتركيبتها العميقة والواسعة وبمعاقبتها بالبحث عن الجديد دوماً. بابلو نيرودا في مذكراته التي نشرت مراراً، والتي تحمل العنوان: أعترف إنني قد عشت، فيها تتجلي خلاصة فكره ومفهومه الحياتي والإنساني الشعري.المفهوم الذي يمرر الأشياء لتنتصب وتقف أمامه بهيئة رائعة أخري، حيث تتلبس بقناعات وبأردية مختلفة. لقد اعترف مراراً بأن أغلب مشاعره كانت تخرج بنفس فورة إحساس الأرض الساخنة بنقيع الماء أو بالمطر بعد جدب. ومن ثم بتتبع خطواته الشعرية. هنا لنا وقفة مع أهم دواوينه بلا شك: عشوران وهي قصيدة حب، وأخري يائسة وقد كتب قصائده ما بين 1923 ــ 1924. قصائد المجموعة يهديها لفتاة لم يلمح غير مدي رغبتها ومعاناتها، أي اللا ممكن وغير المؤكد، والتي يناديها بغموض، وأحياناً بتعمية، باسم ماريسول (ماري الشمس ) أو ماري سومبرا (ماري الظل)، والتي يغنيها في إحدى قصائده قائلاً:
أريد أن أعمل معك
ما يعمله الربيع بالأزهار
لقد جمع بابلو نيرودا في مجمل أعماله ما بين المشهدين، الأدبي والاجتماعي لعصره ولم يضح بواحد علي حساب الآخر، جاعلاً منهما عمادين للمعني الشعري.لقد كان في عالم استعاراته مثل مجمل، ولكنه مجمل من المادة ذاتها.في قصيدته المعروفة التي يبتدئ مقطعها بـ: (أريد أن أكتب أكثر الأبيات حزناالتاريخ، فيها في المكان المتآلف مع ذاته يتأمل الطبيعة مثل حركة التاريخ، مثل الطبيعة ومثل الإنسان..من هنا كتب للحب مثلما كتب عن التعلق بالبشر. في فترة كتابته عن إسبانيا أثناء الحرب الأهلية، كان في قصائده أكثر من صرخة، كان فيها عتاباً، تآخياً، وتعمقا مع إنسانها، مع شاعرها وساحاتها ورموزها. عندما نشبت الحرب الأهلية نشر قصيدته أسبانيا في القلب وقد جاءت حافلة بالحس الإنساني الملتاع المعذب، بحس التفقد عن قرب وعن بعد:
تنبض الحياة فيك حجارة ليلية
وغيوم المساء
سفن ضائعة
توارت نجوم محطمة في الأخبية.
وهكذا نري بأن مجاميعه الأولي في المجلد الأول والتي حملت العنبات والريح حتى جزئها الخامس الذي ضم متفرقات لم تنشر سابقاً، نجد نيرودا، صوتاً حاضراً، لم يغب وراء حركة تعتيمية أو طفرة غريبة، كان جاداً حتى في أشعاره الشبابية، قريباً من نفسه وقريباً من الآخر.
ــ قصيدتان
نشرت هاتان القصيدتان عندما كان بابلو نيرودا يوقع باسم نفتالي رييس، وقد نشرتا في مجلة:دفاتر التموكو في عددها الأول عام 1918، ولم تنشرا في أي من كتبه، إلا في آخر طبعة لمجموعته الكاملة إذ تم نشرهما في الجزء الرابع منها.
عيناي
(1918)
أتمني لو تكون عيناي قويتين وباردتين وأن تمسا بالعمق صميم الفؤاد، وأن لاتكشفا شيئاً من أحلامي الضائعة
بلا أمل، ولا غاية.
أتمني
أن لا تتكهنا بما هو دنيوي دائما
مثل الأزرق المخضب، والمخفف بالأصفر الهادئ
وأن لاتريا الآلام البشربة
ولا رغد العيش.
إلا أن عيني هاتين منطفأتان وحزينتان
ليستا كما أحب أو كما أحب أن تكونا
لأن عيني قد رآهما فؤادي
وآلمه أنهما تبصران.
في أوقاتي
(1918خريف)
أوه! لماذا أنا حزين؟ أتري هو المساء البارد،
الشتائي الصامت، أتري هو ما يجعلني أشد حزناً؟
في هذا المساء الصامت، وصوت الموسيقي الأليم
أستعرض الكائنات والأشياء.
لقد أمضيت اليوم بأكمله مع صبية سعداء،
رفاق لا يعرفون شيئاً غير الضحك
أحيانا أُعدي من غمر سعادتهم
ولكني الآن لا أملك شيئا غير الضجر.
ضوء غرفتي: ضعيف ضوءه
والأشياء تكون بيضاء في شبه العتمة
في غرفتي حزن دائم.
علي منضدتي، بعض كتب مفتوحة
دفاتر زرقاء، أقحوانات ميتة..
أتُري هو المساء البارد الذي يجعلني أشد حزناً؟
ألف ياء – 31/01/2004
*******
المدخل
قصيدة طويلة للشاعر التشيلي بابلو نيرودا
ترجمة: سركون بولص
المدخل
(بابلو نيروا في باريس عام 1971)
(بابلو نيروا في باريس عام 1971)
يا له من قرن طويل!
تساءلنا: متى ينتهي؟
متى يسقط رأسياً
في الكثافة، في المتاهة؟
في الثورة التي عبدناها؟
أو في الأكذوبة
البطريركية الكاملة الصفات؟
لكن ما هو أكيدٌ
هو أننا لم نعشه أبداً
كما كنا نريد.
*
كان يتعذب دائماُ.
كان دائما يُحتضر.
يبزغُ في الفجر ويدمى بعد الظهيرة.
يمطر في الصباح، وعند المساء يبكي.
اكتشفت الحبيبات
أن لكعكعة الزفاف جراحاً
كما بعد استئصال الزائدة الدوديّة.
*
تسلق الرجال الكونيّون
سلّماً من نار
وعندما لمسنا أقدام الحقيقة
كانت قد انتقلت الى كوكب آخر.
*
تطلعنا الى بعضنا كارهين:
أشدُّ الرأسماليين دناءة لم يعرفوا
ما العمل:
كانوا قد تعبوا من المال
لأن المال كان قد تعب
والطائرات من دون ركاب
وما من علامة على الركاب الجدد.
كنّا جميعاً ننتظر
كما في محطات القطار، في ليالي الشتاء:
كنا ننتظر السلام
فجاءت الحرب.
*
لا أحدٌ كان يريد
أن يقول شيئاً.
الكلُ كان يخاف التورّط:
بين الشخص والآخر كبرت المسافات
وصار التنافرُ بين الاصطلاحات من الحدّة
بحيث كفّ الجميع عن الكلام
أو أخذوا جميعاً يتكلمون دفعة واحدة.
*
عندما سقطت القنبلة
(البشرُ، الحشراتُ، الأسماك
أبيدت كلّها) فكّرنا بالرحيل
حاملين صرّةً صغيرة،
باستبدال كوكبنا وجنسنا.
أردنا أن نكون خيولاً، خيولاً بريئة.
أردنا أن نغادر هذا المكان.
بعيدا، بعيدا من هنا.
*
لم تكن الإبادةُ وحسب
لم يكن الموت وحده
(رغم أن الخوف كان خبزنا اليومي)
بل أن لا نقدر على الحركة
بقدمين اثنتين.
لقد كان ثقيلاً،
هذا العار
في أن نكون بشرا
كالذين دمّروا ومن أبادوا.
*
ومرة أخرى، مرة أخرى
كم من المرات، الى متى؟
*
الكلابُ وحدها بقيت تنبح
في العلوّ الريفي للبلدان الفقيرة.
هكذا كان نصف القرن صمتاً
والنصف الآخر، كلابا تنبح
في ليل الأرياف.
*
مع ذلك، لم يسقط النابُ المرير
وظلّ يصلبنا.
*
فتح لنا باباً، تبعناهُ الى الداخل
وهو يشعلُ ثقاباً مثل مذنب،
وعندما أغلق الباب
ضربنا في البطن بعقب بندقية.
أطلقوا سراح سجين
وعندما رفعناه على الأكتاف
ابتلع السجنُ مليون سجين آخر
وخرج مليون آخر من المنفيين،
ثم دخل مليونٌ الى الأفران
وأحيلوا الى رماد
*
أنا في مدخل الباب، أغادر
وأستقبلُ القادمين الجدد.
*
كان الفجر ما زال يبدو نظيفاً
بفضل النسيان الذي نتملاه به
بينما استمرّت الأمم، منشغلة،
تقتلُ البعض هنا والبعض هناك،
تصنع فظائع أكثر وتخزنها
في ترسانة الموت.
*
أجل، حالنا لا بأس بها، شكراًً لكم:
ما زال لدينا أمل.
*
لهذا السبب أنتظرُ في مدخل الباب
أولئك الذين يقاربون نهاية هذا العيد:
نهايةُ هذا العالم.
*
أدخلُ معهم مهما كلف الأمر.
*
أغادرُ مع من يغادرون.
*
واجبي هو أن أحيا، أن أموت، أن أحيا.
عن إيلاف
***
بابلو نيرودا
من “مئة سونيتة حبّ”
ترجمة : جمانة حداد
1- لو لم يكن لعينيكِ لون القمر،
لون النهار بطينه وكده وناره
لو لم تُخضعي خفة الهواء،
ولم تشبهي أسبوعا من العنبر،
لو لم تكوني اللحظة الصفراء
التي ينبثق فيها الخريف من الدوالي
والخبز الذي يعجنه القمر العطِر
حين ينزّه طحينة في السماء
آه، يا حبيبتي، لما أحببتك!
في عناقكِ أعانق كل الوجود:
الرمل والوقت وشجرة المطر
وكل ما هو حي يعيش كي أحيا انا
لا احتاج مسافة كي أرى الأشياء،
فيكِ أنت أرى الحياة كلها
* * *
2- يا امرأة تامة، يا تفاحة شهوانية، يا قمرا حارا
يا عطر الطحالب الكثيف، ووحلا معجوناً بالضوء
اي نور غامض يتفتح بين أعمدتك؟
وأي ليل قديم يثير حواس الرجل؟
آه، الحب رحلة مع المياه والنجوم،
مع الهواء الضيق وعواصف الطحين النزقة:
الحب قتال بين البروق
وجسدان ضلّلهما عسل واحد
قبلة فقبلة اجتاز مطلقكِ الصغير
وضفتيكِ وأنهارك وقراكِ،
فتركض نار الجنس وقد صارت لذة
على طرق الدم الضيقة،
لترتمي كمثل قرنفلة ليلية
وتصبح محض شعاع بين الظلال
* * *
3- لا احبكِ كما لو انكِ وردة من ملح
أو حجر ياقوت، أو سهم من قرنفلات تشيع النار:
احبكِ مثلما تحَبّ بعض الأمور الغامضة،
سرا، بين الظل والروح
احبكِ مثل النبتة التي لا تزهر
وتخبىء في داخلها ضوء تلك الزهور
وبفضل حبكِ يعيش معتماً في جسدي
العطر المكثّف الطالع من الأرض
احبكِ دون ان اعرف كيف، أو متى أو أين،
احبكِ بلا مواربة، بلا عُقد وبلا غرور:
هكذا احبكِ لأني لا اعرف طريقة أخرى
غير هذه، دون ان أكون أو تكوني،
قريبة حتى ان يدكِ على صدري يدي،
قريبة حتى أغفو حين تغمضين عينيكِ
* * *
بابلو نيرودا – ايسلا نيجرا – الأعمال الشعرية الكاملة – ترجمة: كمال يوسف حسين – إتحاد كتاب الإمارات و دار الفارابي