النفط احتياطي للدولار والامة رهينتهما!
نصر شمالي
على الرغم من تفاقم الأزمة الاقتصادية المالية في الولايات المتحدة قبل غيرها، وأكثر من غيرها، فإنّ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أي البنك المركزي، ما زال يواصل إغراق أسواق العالم بكميات جديدة هائلة من أوراق الدولار، حيث ما زال الدولار سيّد العملات جميعها، وما زالت ورقة من فئة المائة دولار، لا تزيد تكلفة طباعتها عن بضعة سنتات، تحتلّ مكانتها المرموقة من دون أن يكون لها رصيد ذهبي يعادلها ويغطيها على الإطلاق! وحتى هذه اللحظة مازال ‘بين شالوم بيرنانكي’ محافظ البنك المركزي الأمريكي، الذي هو قطاع خاص غير حكومي، يصدر أوامره بطبع المزيد والمزيد من أوراق بلا رصيد ذهبي تحمل اسم الدولار، وبضخّها في الشبكات المصرفية الداخلية والخارجية، بحجّة معالجة الكساد والركود في الأسواق، علماً أنّ ما يطبعه يفوق حاجة الأسواق، ويؤدّي إلى زيادة أسعار السلع عموماً! وفي المقابل لا تبدي حكومات العالم عموماً اعتراضاً جدّياً، واضحاً ومتكاملاً، بصدد ما يحدث وما يمكن وصفه ببلطجة الدولار، فما الذي يمنعها من الاعتراض؟ ومن أن يستمدّ أصحاب الدولار الورقي قوّتهم ونفوذهم؟ الجواب: إنّهم يستمدّون قوّتهم ونفوذهم من النفط العربي ومن حكومات النفط العربي، حصراً وتحديداً، وقولاً واحداً!
لقد تسبّب النفط العربي وحكوماته بجعل الأمة العربية كلّها رهينة عند الأمريكيين! إنّ بلادنا وحكوماتها ونفطها هي اليوم آخر الخطوط الدفاعية الأمريكية في العالم، وبوساطتها يصمد النظام الأمريكي والدولار الأمريكي أمام العواصف العالمية الشديدة الكافية للإطاحة بهما! إنّ النفط العربي هو من يرغم حكومات أمم العالم، وفي مقدّمتها حكومة الصين، على الخضوع للابتزاز الأمريكي، بل مدّ يد العون للولايات المتحدة في أزمتها الخانقة، علماً أنّ مثل هذا العون يكون دائماً على حساب ما تبقّى من حقوق للأمة العربية الرهينة لدى الأمريكيين، وبخاصة حقّ الشعب الفلسطيني في بعض وطنه، فلكي ترضى الحكومة الأمريكية عن جهة ما لابدّ لهذه الجهة من أن تحظى برضا الإسرائيليين أولاً!
ولكن كيف حدث أن تحقّق هذا الارتباط العضوي، بل الانصهار العضوي، بين النفط العربي وحكوماته وبين الولايات المتحدة؟ إنّها قضية تعود بداياتها إلى فترة الحرب العالمية الثانية، حيث كانت البلاد العربية جميعها مستعمرة أو شبه مستعمرة من قبل الأوروبيين، وليس لها أيّ حضور دولي يستحقّ الذكر، أمّا واشنطن الفتية القوية، وعاصمة الحرّية، فكانت على وشك الإمساك بزمام قيادة العالم كوريثة للعواصم الأوروبية، وكانت تعد المستعمرات بالاستقلال والحرية والازدهار، بحيث لم يكن تجاهل وعودها ممكناً بالنسبة للكثيرين الذين يجهلون حقيقة تاريخها ونواياها، خصوصاً وأنها بدت بغنى عن العالمين، ففي العام 1945 كان إجمالي الناتج الاقتصادي المحلّي الأمريكي يعادل نصف إنتاج العالم أجمع، والاحتياطيات الأمريكية من الذهب تعادل نصف احتياطيات العالم أجمع، وقد أصبح الدولار الأمريكي سيّد العملات منذ ذلك الوقت، ناهيكم عن القوة العسكرية الأمريكية الهائلة التي حسمت الحرب لصالح الحلفاء، والتي استعدّت لتأخذ ‘أمن العالم’ على عاتقها وحدها تقريباً بعد الحرب!
في الأربعينات من القرن الماضي، أثناء الحرب العالمية وبعد انتهائها بقليل، وقعت ثلاثة أحداث رئيسية أسّست لما آلت إليه أوضاع أمتنا اليوم (أمّة رهينة!): الحدث الأول هو تولّي الجيش الأمريكي بدلاً من البريطاني، في العام 1942، مهمّة تموين الحليف السوفييتي عبر إيران بمستلزمات الحرب العالمية الدائرة، فأنشئت في الخليج العربي قيادة للخدمات الحربية، ثمّ حصل الرئيس روزفلت على موافقة الملك عبد العزيز لإنشاء قاعدة الظهران، في العام 1945! والحدث الثاني تبلور في العام التالي، حيث قالت مجلة ‘وورلد ريسورت’ الأمريكية أنّ ‘العالم العربي يصبح أكثر من أي وقت مضى جبهة أمريكية’! وهي كانت تشير إلى العقود التي أبرمت بصدد النفط العربي، حيث سيطر الأمريكيون حينئذ على 42 في المائة من احتياطياته! والحدث الثالث هو قيادة الولايات المتحدة، ممثلة بالرئيس ترومان، عملية إقامة الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلة، والاعتراف به رسمياً في هيئة الأمم عام 1947! ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا بلغت السيطرة الأمريكية على النفط حدّ التصرّف به كأنّما هو يستخرج في الولايات المتحدة، وتعاظم الحضور العسكري الأمريكي ليبلغ أقصى مداه باحتلال العراق، ومنحت القاعدة الإسرائيلية دعماً مطلقاً جعلها تتصرّف اليوم على أساس أنّ البلاد العربية تحت سيادتها، وأنّ إيران تنازعها على هذه السيادة! ومثل هذا التصرّف الإسرائيلي، المقترن بالتصريحات الرسمية، هو الدليل القاطع على ما ذهبنا إليه من أنّ الأمة العربية رهينة عند الأمريكيين وخدمهم الإسرائيليين!
لقد بدأت أزمة الولايات المتحدة في العام 1969، عندما تحوّلت من دولة دائنة إلى مدينة ومن مصدّرة إلى مستوردة، وذلك نتيجة الأعباء العسكرية العالمية الهائلة ونتيجة البذخ الفظيع الذي يتّسم به نمط الحياة الأمريكية، وفي العام 1971 لم يعد الذهب متوفّراً كاحتياطي للدولار، وفي الأعوام الثلاثة أو الأربعة التالية، وعبر أحداث ميدانية هائلة إقليمية ودولية لا مجال لاستعراضها هنا، صار واضحاً أنّ اتفاقيات قد أبرمت بين الحكومات العربية وحكومة الولايات المتحدة تطلق يد واشنطن في شؤون النفط العربي (خصوصاً تسويقه وتسعيره) مقابل ضمان حكومة الولايات المتحدة أمن وديمومة الحكّام العرب، وبناءً على ذلك حلّ النفط العربي محلّ الذهب كغطاء للدولار الأمريكي، حيث الدولار هو العملة الوحيدة المعتمدة لبيع وشراء النفط، الأمر الذي يرغم جميع حكومات العالم على امتلاك ما يلزمها منه لشراء النفط، وفي المقدّمة حكومة الصين التي تحتاط لهذه الغاية بما لا يقلّ عن تريليون دولار!
هكذا أصبحت البلاد العربية جميعها رهينة، فهي تشبه ولاية من الولايات الأمريكية، تديرها الحكومة الأمريكية، مع فارق بسيط، هو أنّ عليها جميع الواجبات ولكن ليست لها أيّة حقوق!
‘ كاتب سوري
القدس العربي