السياسة السورية بين التخمين والتلقين
غادا فؤاد السمّان
لاشكّ أنّ لعبة كسب الوقت وسياسة المماطلة التي تعتمدها السياسة السورية منذ أكثر من أربعة عقود، تحتاج إلى ما هو أكثر من التحليل السياسي بالمفهوم السائد، ربما يتطلب الأمر لاستحضار الأرواح الخفية لقراءة المبهم من وراء القصد، بالإضافة إلى الاستعانة بثلّة من المبصّرين والمنجّمين والمشعوذين بعدما أزم ولزم الأمر، فلم يعد التحليل السياسي كافيا لتفسير المظاهر وتأويل الظواهر السياسية التي تتداخل فيها الأساليب وتتفاوت المسالك وتتناقض المعطيات في بعض الأحيان، ففي الوقت الذي يتوسم المواطن السوري تحديدا خيرا موليّا ومسلّما وموقنا وقانعا في سياسة النظام، وانفتاحه على السلام الداعم للاستقرار في المنطقة، مما يتيح للحكومة السورية بين وقت وآخر أن تنادي جدّيّا بتسهيل الاستثمار الاقتصادي في نواحٍ متعددة على الصعيد الزراعي والصناعي والسياحي كذلك، وما إن يطمئن المستثمر كلّ حسب وجهته سواء العربية أو حتى الغربية منها، تبدأ حملات التصعيد تتواكب للمواجهة مع إسرائيل، فنسمع تارة بتحريك الآليات في الجنوب السوري مما يجعل المستثمر في حلٍّ من ارتباطاته المأمولة والواعدة بالكثير لتحسين الظروف المعيشية للمواطن السوري الذي يتقن أكثر ما يتقن فنّ الانتظار بتقنية عالية من الصبر والترقّب، وليس أمامه سوى ميزان الضغط الذي يرتفع مؤشره مع ارتفاع دوامة الأسعار وانخفاضه انخفاضا مريعا مع جمود حركة السوق وخاصّة العقارية منها.
ومع انحسار طفرة الحراك الطارئ على الجبهة السورية، يشتدّ الدعم لتسخين الجبهات الأخرى بأيد طائلة صار بمستطاعها ليس توتير “الموتور” من الجبهات العربية كالعراق وفلسطين ولبنان وسواها، بل تحريك الجبهات الساكنة منها كمصر مثلا. وهذه الإمكانات الباهظة نسبيّا في تقديم خلاصة استنتاجيه لها خطوطها الإيجابية ربما برأي البعض بصفتها عامل أساس للضغط على إسرائيل يعطي وإن بنسب مختلفة شيئا من توازن الرعب في الصراع العربي – الإسرائيلي، إلا أنّ هذه السياسة المُتّبعة منذ أكثر من أربعة عقود كما هو مبين أعلاه، لم توصل المنطقة العربية عموما والسورية خصوصا إلا إلى المزيد من التقهقر والتردّي والتخلف والفقر والجهل، وهنا لا بدّ من السؤال أما آن الأوان للسياسة السورية بقراءة ذاتيّة معمّقة، أيضا لماذا تنعدم وتستحيل فكرة التجديد في الرؤى السياسية المستمرة منذ وقف حرب تشرين 1973 حتى اليوم، وإذا كانت البشائر قد حلت مع ولاية باراك أوباما الذي وعد بإيفاء المُستعصي من القضايا العربية بالكثير من الجهد والعزم لإيجاد الحلّ الأمثل، وسوريا لا تخفي ثقتها بالحكومة الأميركية الحالية، وتسعى فيما تسعى إليه وراء توطيد العلاقة مع أميركا التي تضمن لها تمهيد عودة المفاوضات إلى الطاولة مع إسرائيل، فلماذا تصرّ سوريا على حمل المفتاح بيد والقفل باليد الأخرى، فما إن تفتح بابا حتى تغلق البديل، وثمة سؤال آخر هل لا بدّ لسوريا من ازدواجية الثقة بذات الوقت؟ كأن تتزامن الثقة مع أميركا وإيران لحد التطابق الذي لا ينجم عنه سوى مزيد من الحساسيات التي تؤدي دائما إلى تجديد النفور والعودة إلى ذي بدء من التوتر والتأزم وتمييع المواقف ووأدها لا تأجيلها وحسب.
فكما للسياسة السورية حنكتها في الضغط بسلاح المقاومة على إسرائيل، تقف القرارات الدولية بالمرصاد لتشديد الحصار إلى درجة تجديد العقوبات الاقتصادية على سورية التي مررتها الإدارة الأميركية الحالية مؤخرا في غمرة الغبطة التي كانت تعتري السيد وليد المعلّم بلقاء السيد جفري فيلتمان في دمشق وهما يتبادلان الابتسامات العريضة التي سرعان ما بدد تفاؤل المواطن السوري وقبل غيره بها، إعلان الإدارة الأميركية قرار تجديد العقوبات الاقتصادية، نظير قلقها من تمسّك سوريا بدعم الحركات الناشطة التي لم تستطع أن تستجرّ المنطقة لأكثر من المجهول حتى اليوم، فلا أحد ينفي شرعية المقاومة وأحقيّتها في الدفاع عن السيادة والاستقرار، إلا أنّ المقاومة بالتأكيد تفقد مصداقيتها عندما تتداخل مهامها بين دفاعية وسياسية على أكثر من جبهة وأكثر من صعيد هدفها الأول إمّا استمرار التوتر أو تعزيز الاستفزاز والتصعيد المجاني، ويستمر السؤال هنا في ظلّ الأزمة الاقتصادية العالمية وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية السورية التي تقتصر معاناتها على المواطن السوري تحديدا هل تحتمل حوصلة المواطن السوري مزيدا من حصى التضييق والعقوبات؟!