من ثقافة الخوف إلى ثقافة الأمل
ردا على محمد ديبو
مها حسن
في سرد مشحون بالألم والخوف، يعنون الكاتب الكردي العراقي خالد سليمان، نصه المكتوب بالفرنسية تحت مسمى” ألف وليلة من الخوف “. من هذا العنوان، من ليالي شهريارات الحكومات العربية، أنطلق لأردّ على الصديق محمد ديبو، الذي سبق له الردّ بتاريخ 22 نيسان على مقالتي المنشورة في الأوان،” بين ثقافتي المشاكسة والمداهنة”، فعنون مادّته بـ” ثقافة البين بين “. وقد أصاب بها الأخ ديبو في بعض الجوانب، خاصة في تعبير “البين بين”، أي ثقافة الوسط واتخاذ الحذر في الانحياز لأحد الطرفين، ضمانا لإمكانية التراجع في أيّ لحظة، وحسب معطيات الظروف، للانحياز لأحد المعسكرين. وهذا ما لا أعتبره ثقافة نفاق، بقدر ما أراه ثقافة ” درعية “. بحيث تصبح هذه الثقافة، درعا حاميا وواقيا من الخطر.
وهذه الثقافة، البين بين، أو الـ ” نصّ نصّ”، ناجمة عن الخوف أو التخويف، الذي يمارس علينا في كلّ لحظة، سواء بشكل علنيّ ومباشر، عبر المنع من الكتابة أو النشر، تحت مسمّيات الرقابة، أو الاعتقالات بسبب مقالاتنا، وهي حالة الكثير من معتقلي الرأي الحاليين في سورية، أو عبر الفتاوى التي تمسّ حريتنا وتوقنا إلى النزاهة الفكرية، من جهات لا تكشف عن نفسها، ولا يمكننا أن نعتبرها أكثر من خفافيش الظلمة، لكنها تجرح أو تقتل، وتختفي ..المهمّ أنّي سأعتبر ردّي على السيد ديبو، ـ والذي أسعدني ردّه عليّ، لما أعتقده من ضرورة إضرام النار في ملفّاتنا الثقافية الفاسدةـ، مدخلا للحديث عن أجواء الخوف والتنكيل التي لا تزال تراودنا كوابيسها، ولو ابتعدنا جغرافيا عن المكان .
لا أريد الدخول في تفاصيل تكسب حواري مع الأخ ديبو شكلا من أشكال الثرثرة، إذ لن أدخل في قضية الأسماء التي استعملتها، لأنّي أشعر أنّ إعادة استعمالي لأسماء الأشخاص، يدخلني في حلقة أمقتها وهي ” قيل وقال “… فقط سأمرّ سريعا على ملاحظته، أو اتهامه بأني تملّقت الناشر الريس، وهو على علم الآن، أنّ كتابي لدى الريس قد صدر منذ مدّة وجيزة، بما يعني أنّ تعاقدي مع الناشر فات عليه زمن، مما يمحو عني تهمة تملّق موقف الريس، كناشر (فهو ناشر وقد تحتاجه يوما لرواية ستنشرها.. )، ولكن ” حماستي ” لمواقف الريّس، كان فيه إعجاب تاريخيّ، لا يزال يحنّ إليه أكثرنا، بالرغبة في قلب الطاولة. وبهذا الخصوص، فقد أجرت القناة الفرنسية الثانية استفتاء منذ أيام، عن رأي الفرنسيين وقبولهم بفكرة العصيان أو التمرّد الاجتماعي، فجاءت نسبة الموافقين بأكثر من 70 بالمائة من مجموع المصوّتين الذين بلغ عددهم حوالي اثني عشر ألف مواطنا. هذا في فرنسا، بلاد الديمقراطية وحقوق المواطن، الذي يشتم رئيس بلاده أمام الملأ، فيلجأ الأخير إلى القضاء، لا إلى المخابرات، فما بالك في بلداننا وأنظمتنا العربية، التي تحشدنا بالقهر والإحساس بالظلم والغبن في كل تفاصيلها، الاجتماعية والسياسية، والفكرية. لذلك فقد رأيت في سلوك الريّس، نموذجا للعصيان الفكري، في زمن الخضوع والثبات.
أما عن التملّق الذي يصفني به السيد ديبو، أو يلمّح إليه، فأنا أعترف أنّي مارسته في بعض مراحل حياتي، ولكن ليس في مقالتي تلك، لأني أسعى فعلا إلى التخلّص من موروثاتي الثقافية، التي يدخل التملّق في صلبها، بوصفه، كما ذكر الأخ ديبو، ردّا على ” ثقافة الاستبداد ” التي تنتج ثقافة بين بين . هذا صحيح . وأنا ربيبة فكر مستبدّ، وربيبة الخوف. وما أن تتح لي الفرصة، حتى أصرخ بأعلى صوتي، ضدّ كلّ من حاول خنقي. وهذا جهد يحتاج لأزمنة، للتخلّص من الخوف، وآثاره، ومنها هنا، التملّق الذي لا أحبّ أن أصفه بـ اللاشعوري، بقدر ما أفضّل تسميته بالتلقائيّ، وهو تملّق مجّانيّ، بحكم العادة، وعدم التعوّد على العادات الذهنية الجديدة.
إنني وأنا أحيى في أوربا الآن، أتدرّب على الاختلاف مع الآخر، بعد أن دخلت عددا كبيرا من التجارب، الشخصية أو العائلية، والرسمية، والتي أثبتت لي أنّ الخلاف مع الآخر، مهما كان وزنه وحجم سلطته، لا يفقدني أيّا من حقوقي. بل على العكس، إنّ المتملّق هنا، سرعان ما يفقد احترام الآخرين له، وهذه ثقافة مختلفة ونحتاج لتمرينات ذهنية لفهمها، وممارستها. فجميعنا، أنت وأنا وأصدقاؤنا، ننظر بعين القلق، فيما لو كان موقفا ما، أو عبارة قلناها، ولم ترق للآخر، ستخلق بعض الفتور، أو ستخفف من حجم الصداقة، وأنت لديك أمثلة أكثر مني كما أظن، لأنك على اختلاط أوسع حاليا بالجوّ الثقافي اليومي. يشعر أحدنا أنه ” متّهم ” في أيّ لحظة حرية فكرية، لا تنسجم مع طروحات الآخر.
كم أتمنّى أن يقدم بعض الكتاب العرب، أو الكتاب بالعربية، على نشر اعترافاتهم عن موروثاتهم الثقافية الخاطئة العالقة بهم. فنحن نحتاج إلى ” تطهير” أنفسنا، من رواسب التصقت بنا، دون خيار، وأنا شخصيا، كما ذكرت للتوّ، أحمل الكثير من الأفكار الخاطئة، ولا أزال أمارس عمليات ” التنظيف ” الداخلية، وأتفاجأ دوما، بحجم التناقضات والأخطاء في الثقافة التي تلقّيناها، والسبب الأوّل والأخير يعود إلى الهيمنة والاستبداد. فالعالم العربي قائم على نواة، هي الاستبداد. والمصيبة أنّه حتى المثقف، يتابع دور جلاده، ولكن بطريقة أخرى، فيتحول إلى مستبدّ، بأشكال أكثر تطورا، ألم يحدّثونا مثلا عن ” ديكتاتورية البروليتاريا”؟ واليوم ثمّة ملايين “الديكتاتوريات” القائمة أمام واحدنا، “ديكتاتورية المثقف النخبوي، ديكتاتورية العارف المطلق، ديكتاتورية النشر، ديكتاتورية المثقف المزاجي، ديكتاتورية الرموز الثقافية المقدسة.. “، وهكذا تنقلب أدوار الجهات التي جاءت لتحطيم الاستبداد، إلى حلقات جديدة من الاستبداد. ولا أظنّ أني أظهر تناقضا، حين أبدي إعجابي بمفهوم “قلب الطاولة” أو “العصيان الاجتماعي”، وبين استعجابي المبطن رفض فكرة “الاستبداد الجديد”. لأنّ الأوّل، طرف مقهور وغاضب، أما الثاني، فهو آمن، ويمارس استبداده وفق مكاسب .
إن ” ثقافة الاستبداد ” تخلق ” ثقافة الخوف ” والخوف يخلق ” التملق “.
ثمة دافعان للتملق، أحدهما التملق حسن النية، والمستند لا على المصلحة، بل على الخوف والبحث عن الحماية، والثاني هو تحديدا القائم على المصالح.
ولكن الأول سرعان ما ينزلق ليتحول إلى مصلحة. بمجرد ما يتم التخلص، أو الإيحاء به، من الخوف، ليصبح عادة، فيدخل في حالة التملق المجاني، حتى دون مصالح .
أنا أعتقد أننا ندخل في التملق بالتدريج، التملق يأتي أولا كانعكاس تلقائي للخوف. لنأخذ مثلنا الشعبي الذي يكرس دونيتنا أمام المستبدّ، وتملقنا له كضرورة للنجاة ” بوس إيد الكلب وقل له يا سيدي”. ثم، دوما برأيي، يدخل التملّق في طور المصلحة. إلى أن يصبح الحصول على أيّ أمر مرهونا بتملق الطرف الآخر. وهذا يحدث فقط في الأنظمة الاستبدادية، أما في ثقافة الديمقراطية، حيث يشيع مبدأ الحق، فكل من له حق بشيء يحصل عليه، وليس بناء على مزاجية الآخر، المتحكم في تحديد منح هذا الحق، وتحويله إلى عطاء أو منحة أو هبة.
المعروف لأغلبنا، أنّ جميع أشكال التملق، تؤدّي بصاحبها إلى الإحساس بالدونية، وتخلق ” ثقافة الذلّ”. وأنا أعتقد أن أسوأ أنواع التملق، هو ذلك الاعتيادي أو التلقائي، حيث يصبح التملق سلوكا من جملة السلوكيات المكوّنة للشخصية، فهو المرض بذاته… وهنا برأيي تأتي الثقافة العصيانية، وحالة ” قلب الطاولة” ليخرج أحدنا، المريض بالتملق، من حالة الذل والقهر، إلى مرحلة ” بعض الأمل” ..
أظننا بحاجة إلى فتح هذه الملفات، أمراض الثقافة العربية المعاصرة، حيث أمراض المثقفين أخطر من أمراض الناس العاديين… فالمثقف المريض، يعيد إنتاج أمراضه ويحوّلها إلى الآخر، بل ويجعل منها ظواهر وقواعد صالحة للتقليد .
يجب برأيي على كلّ كاتب، ومهتم بالشأن الثقافي، أن يعيد حساباته من وقت لآخر. ففي التحليل النفسي مثلا، وقبل أن يقوم المحلل النفسي باستقبال الآخرين، والقيام بعمليات التحليل، يخضع هو ذاته لهذه العملية، أي ” ينظف ” داخله، قبل أن يذهب ” لتنظيف ” الآخر. حتى وأثناء ممارسة المهنة، فإن المحلل النفسي، يقوم بمراجعة محلله من وقت لآخر. فلماذا لا يقوم المثقف، الذي يساهم في خلق المنتج الثقافي،” بتنظيف”ذاته قبل أن يفعل مع الثقافة أو مع الآخرين، حتى لا يتحوّل إلى واعظ نرجسيّ خال من الأخطاء؟
نعرف جميعا أنّ الأوساط الثقافية مليئة بالأمراض، الشللية والمحاباة والطائفية والمصالح الشخصية..وما تحدّث به الأخ ديبو في مقالته ذاتها، من مساجلات بين الكتاب السوريين الذين ذكر أسماءهم، فإن هذه المساجلات أو الاتهامات السيئة والمشينة لبعض الكتاب والكاتبات، هي أيضا أحد مظاهر أمراضنا، التي يمارس فيها مثقفونا، ومثقفاتنا، الازدواجية الفاضحة بين الأفكار والسلوك، ومع أني شخصيا لا أهتم بها، وأعتبرها مضيعة وقت. ولكني أتمنى من هذا المنبر، موقع الأوان، أن نمارس نقد ذواتنا كمفاهيم ثقافية، وكمشاركين في عملية الإنتاج الثقافي، أو متلقّين لها، لإعادة إنتاجها، وأن ننبش أمراضنا الثقافية .
أظن أنني يا أخ ديبو، أنتقل بهذا، لا من الدعوة إلى نقد الأصدقاء فقط، وترك التملق جانبا، مهما كان حجم الخسارة، بل إلى نقد الذات، وعدم تملقها أيضا.
ملاحظات :
ـ ثقافة الخوف: كانت المرة الأولى التي أسمع بهذا المصطلح في مقالة للدكتور عبد الرزاق عيد .
ـ ثقافة الأمل : في اللقاء الذي أجراه وليد شميط مع أمين معلوف المنشور في جريدة الشرق الأوسط، وأعاد الأوان نشره، يتحدث المحاور عن كتاب دومنيك موازي، حول” ثقافة الذل” المنتشرة في العالم العربي، و” ثقافة الأمل “، والغريب أن موازي يرى أملا في ما يجري في بعض دول الخليج العربي التي تحاول الدخول إلى العصر ونشر «ثقافة الأمل».
موقع الآوان