هذه الـ ‘نحن’ الباهرة
عزت القمحاوي
في كل مرة أعلن فيها الشاعر الكبير أدونيس وفاة العرب، كنت أتثاقل عن المشاركة في نفي الخبر، أو المشاركة في الجنازة الجماعية، لأسباب ثلاثة:
الأول، أن لدي دائماً من الميتين القريبين ما يشغلني عن وفاة كل هذا العدد من العرب، وبينهم غرباء لا أعرفهم ولا يعرفونني!
والثاني، أنني على يقين بأن الفرصة في تغيير قراري تظل قائمة، مع الإعلان الأدونيسي القادم.
وثالث الأسباب شخصي، ويمكن تقديمه إلى المقام الأول؛ فنحن لسنا آلات كاتبة، بل بشر، يجب أن نرعى مقام الكبير، وأدونيس أكثر من يستحق هذه المراعاة؛ فهو من أكثر الشيوخ تهذيباً وعفة لسان.
فليسامحني الشاعر الكبير، إن رأى أية إساءة في هذا التدخل في السجال حول إعلانه الأخير، من كردستان العراق، خاصة وأن القضية لم تعد نبأ وفاة مكررا، بل صارت أقرب إلى الفتنة؛ فتنة اتسعت لتشمل المشيعين الذين يؤمنون بأدونيس إيمان العوام، فلم يكذبوا الخبر، وارتدوا ثياب الحداد على العروبة، كما تشمل الذين أذهب الإعلان عقولهم فخرجوا شاهرين سيوفهم، ليضربوا عنق من يقول إن العروبة قد ماتت.
الخبر، ظريف، على الرغم من تكراره، وهو مريح أيضاً، فبدلاً من إرهاق النفس بإحصاء أعداد الموتى بالمفرق في بغداد وغزة والجزائر إلخ إلخ، ها هو الموت بالجملة.
كان التبشير بموت العرب، لسنوات طويلة، مهمة نزار قباني، عاشق المانشيتات، في وقت كان أدونيس فيه منصرفاً إلى الشعر والفكر.
ومن بعد نزار قباني، كان لا بد من تقدم أحد لحمل راية الموت، وتقديم العلف والعشب المشبع للإعلام، وكان هذا الواحد هو أدونيس، الشاعر المفكر الذي لم يقنع بأسلوب الشاعر الرومانسي.
نزار كان يجلد الجثة، ويترك لغيره مهمة إعلان الخبر، ويستعجله شعراً: ‘متى يعلنون وفاة العرب؟’، أدونيس تعلم من انتظار الشاعر الآخر أن أحداً لن يكلف نفسه بحمل الخبر الشؤم، حتى لو تفسخت الجثة؛ فأعلن بنفسه وفاة العرب، وأخذ يكررها نثراً، حتى قلنا: ليته سكت!
هو معذور، طالما انتدب نفسه لمهمة علف الإعلام؛ فهذا الوحش يحب أن يقتات على الجثث، أية جثث. حياة خمسة مليارات ونصف المليار ليست خبراً، لكن موت خمسة أو خمسين في حادث سير أو تفجير إرهابي، هو الخبر، فما البال لو كان الخبر موت أمة؟!
وقد يكون من المقبول مرة أو مرتين أو عشرة أن يعلن أدونيس الخبر مقتضباً، كنبأ عاجل، على الشريط المكتوب أسفل الشاشة، لكن البث والنشر التالي للخبر يتطلب سرد ملابسات الحادث وأسباب الوفاة، وطريقتها: هل هي سكتة دماغية؟ حادث سير؟ هل حدثت فجأة أم أن أمة العرب ماتت بالمستشفى؟ هل هناك تقصير طبي؟
في كل مرة يحصر أدونيس أسباب الوفاة بالإسلام الذي لم يتطور مع العصر. وأحياناً ما يدين القمع والسلطة العربية، المجبولة على التسلط.
وفي هذا الاقتضاب عديد من الأخطاء، التي نربأ بشيخنا ألا ينتبه إليها، ونربأ بأنفسنا أن نتهمه بالتلبيس لإزهاق روح الحق لا الأمة.
صاحب الثابت والمتحول، أصبح ثابتاً على مقولاته الكلية لا يتحول عنها، فالقول بأبدية التخلف تفكير عنصري يستوي مع حتمية التفوق النازية، ومطابقة العروبة مع الإسلام فيها إكراه للخريطة لتكون على غير حقيقتها؛ رقعة الإسلام أوسع من رقعة العروبة على سطح الكوكب، كما أن هذه المطابقة تنفي الأقليات الفاعلة في المجتمعات الأخرى، التي تصل إلى التعادل أو تشكل أغلبية في لبنان، وهو من أرض العرب.
ثم إن الإشارة إلى ‘الاستبداد’ من دون تسمية للمستبد، لا تعني أية إدانة، لأن كل المستبدين يعتبرون ان أدونيس لا يقصدهم، ولذلك لم تغلق في وجهه مملكة أو جمهورية أو إمارة عربية، والمقارنة في هذا الشأن ستكون في صالح نزار قباني، الذي شتم حكاماً، وحدد بلداناً بالاسم.
وأخيراً، فإن أدونيس يتصور أنه يبرىء نفسه عندما يعلن ضحالة الثقافة العربية وموتها، مستلاً نفسه منها كشعرة من العجين. ولكن هذا الوضع يصلح مع تحقيقات الشرطة فقط، عندما يبلغ أحد المتهمين عن شركائه فيعتبر ‘شاهد ملك’ ويفلت من العقوبة. ولكن الأمر أخطر من جريمة سرقة عادية، لكي تتم لملمة الموضوع، والتسامح مع أدونيس وجيله من المثقفين لا يليق مع هذا العدد من الضحايا.
لا نطالب بقرابين؛ فيكفي ما يسيل من الدماء، ولن نقول بأن المثقف العربي لم يدفع ضريبته كما دفعها مفكرون شرقاً وغرباً، بل يكفي أن يستخدم المثقف المشهور حصانته التي تضمنها هالة الشهرة الدولية.
وحتى لا ندين المثقف في المطلق، كما يدين أدونيس السلطة في المطلق، أستطيع أن أقول إن يوسف شاهين استخدم هذه الحصانة حتى آخر يوم في حياته، ونجيب محفوظ لم يستخدمها. أدونيس أيضاً، أكمل نصف قرن من الكتابة، ولديه الآن حصانة تحميه من كل عسف، لكنه بقي متأنقاً متدفئاً بوشاح التعميم المريح.
التعميم والتبسيط لم يقتصرا على أدونيس في الفتنة الأخيرة، بل شملا المحتشدين في سرادق العزاء بالعروبة، والرافضين للنبأ. ولا تقف الكلية الجامدة عند توصيف الحالة (ميت أو حي) بل في معنى كلمة ‘عرب’ البسيطة حد السذاجة. الفرق أن أدونيس يستخدم اسم إشارة إلى العرب وكأنه ليس منهم، والآخرون يستخدمون ضمير الجماعة ‘نحن’.
هو يعرف العرب الميتين، و’نحن’ نعرف أنفسنا الحية التي تقاوم. وهذا الاطمئنان المعرفي غير صحيح بالمطلق، لأن أحدنا لا يعرف نفسه؛ فكيف يعرف، بهذا الاطمئنان، أمة؟!
العرب، موتى كانوا أو أحياء، هم الأمي ونصف المتعلم، المعدم والملياردير، القاضي واللص، الحاكم والمحكوم، الرجل والمرأة، المسلم والمسيحي والدرزي والبهائي، المهاجر والمقيم، ومن المثقفين أنواع. وكل هؤلاء تشكل العروبة رافداً ثقافياً واحداً في كل منهم، ويشكل الإسلام رافداً آخر (من دون تطابق) بينما تتعدد الروافد الأخرى، كدرجات الاتصال بالشرق والغرب، ونوع الحكم القائم، والخلفية الحضارية السابقة على العروبة والإسلام، وهي في العراق غيرها في أم القوين، وفي مصر غيرها في المغرب، وشتان بين طرابلس الغرب في ليبيا وطرابلس الشرق في لبنان.
وإذا انتهينا من إدراك كل ذلك سنعرف كيف نحلل وضع هذه الكتلة السكانية من موريتانيا إلى العراق، وإن شئنا إصلاحاً، فلن يكون إلا من خلال الوعي بجدل التاريخ الذي صنع شبكات للقمع يتساند فيها رجل الدين ورجل المال والجنرال والمثقف الذي لا يعمل على تفكيك هذه التشبيكات.
القدس العربي