وهَذا الهَامِش
محمد بنيـس
كلما هجمت عليّ انهياراتُنا الثقافية نظر إليّ هامشٌ ثقافي هناك، في الجهة الأخرى. هامشٌ يتمثّل في كتاب ومبدعين معَ أعمالهم. هؤلاء الكتاب والمبدعون بأعمالهم بنوْا هامشاً لا يزال واقفاً أمامنَا، مُحتضناً للمقاومة التي بها نحْيا. في الجهة المقابلة. هامشٌ له من الألق ما لا أستطيعُ اختزاله في كلمات. ولا أدّعي الإحاطة بجميع خصائصه أو موجّهاته. إنه العنصر الذي يواصلُ ثم يواصلُ مدّ الحداثة العربية بضوء بعيد المدَى.
أعني بالهامش الثقافي كلّ الكتاب والفنانين العرب الذين أعطوا معنى للتحديث في ثقافتنا، في الأدب والفكر والفنون. ما أكثرهم، أقول حيناً. ولكني أراجع نفسي وأنا أرى وضعيتهم اليوم ووضعية أعمالهم في حياتنا الثقافية. أغلبُهم إما أنه لم يعد معروفاً، أو هو يتحرك في مساحة تضيق وتضيق في بلده وفي بلاد عربية. وأستقصي باستمرار. في المكتبات، في المعارض، في الكتابات، في هوامش الأعمال والدراسات، في المتاحف، في وسائل الإعلام، في المقررات الجامعية والمدرسية. ذلك الاستقصاء هو ما يعيّن لي المكان الذي أصبح للعديد من الكتاب والفنانين في حياتنا اللاثقافية. مكان يتضاءل أفقه بطريقة لا تخفي شراستها. عندئذ أخففُ من حَماستي وأقول: ما أقلهم.
هي السنوات الأخيرة التي تقودنا إلى عالم نفتقد فيه، شيئاً فشيئاً، ما اكتسبته الثقافة العربية الحديثة عبر تاريخها القصير. والغريبُ هو أننا لم نعدْ نحافظ على هذا العطاء الرفيع في بُعده العربي مثلما لم نبْن منه ثقافات وطنية. أضعنا البُعدين معاً. وهذا هو المحيّر. وليس غريباً أن نقرأ ونسمع اليوم هنا وهناك من يتعامل باستغراب، على الأقل، مع هذا العطاء، ما دام الذين يتجاهلونه أو يلغونه أو يستعبدونه أو يعدمونه أو يكفرونه يملأون الفضاء اللاثقافي عبر العالم العربي. مع قوة هذا العطاء كانت لنا الكلمة الأولى للحداثة. وحتى الأفعال الاسترجاعية، من ندوات ومهرجانات ومنشورات، لا تعدو أن تكون احتفـــاليات فاقدة لأي معنى، لأنها لا تستخلص من هذا العطاء ما تستمر في الوفاء له والمحافظة عليه، أفقاً قادماً من المستقبل.
المكان المتضائل لهذه العطاءات في حياتنا اللاثقافية هو ما يخصّها بوضعية الهامش. ولكن ليس للهامش هنا، في الوقت ذاته، دلالة الانسحاب من التأثير في ثقافتنا الحديثة. وتلك هي المفارقة. مكان متضائل في الحياة اللاثقافية يكتسب القوة الفاعلة في حياتنا الثقافية. من اللاثقافة إلى الثقافة يرحل، عبر كتابات وأعمال. وربما كانت هذه هي المقاومة الوحيدة لعطاءات الحداثة العربية.
عودة الثقافة الدينية وسيادة ثقافة الإعلام والاستهلاك تتكاملان في إبعاد الثقافة العربية الحديثة، بجميع تصنيفاتها، من مدار الفعل في حاضرنا ومستقبلنا. ومع ذلك فإن الهامش الثقافي يظل يتحرك، حاملاً ضوءه في كتابات وأعمال.
ذاك ما يمكن أن نقوله عن طه حسين وجبران والشابي والسياب وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ومحمود المسعدي ويوسف الخال وإدوارد سعيد وأدونيس وأنسي الحاج وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وجمال الدين بن الشيخ وسعد الله ونوس وإحسان عباس ويوسف إدريس ومحمود درويش وسعدي يوسف وسركون بولص، على سبيل المثال، في حقل الكتابة والتأليف والفعل الثقافي. كوكبة هي منارات الثقافة العربية الحديثة ولا مستقبل لنا بدونها وبدون من هُمْ أوفياء لكلمتها. مؤلفون وفاعلون ثقافيون يتوزعون عبر بلاد عربية وفي بلاد المنافي. ولكنهم كانوا ويكونون أرضَنا الثقافية التي بها تتسمّى الحداثة العربية.
هم الهامش الذي علينا الالتفات إليه لندرك ما نحن عليه اليوم في حياتنا اللاثقافية. وعلينا، في الوقت نفسه، ألا نيأس أو نأمل، رغم أن اليأس يحاصرنا والأمل يُغرينا. علينا، أوّلا، أن نسأل عن مستقبل هذه الكوكبة، وما يمثله الوفاء لها، في مستقبلنا القريب قبل البعيد. أسماء وأعمال أنارت السبل في زمن لم تقبَل فيه الثقافة أن يتولاها جهلة وطغاة وسماسرة. وهي التي تظل مرتكز الحوار والاختلاف والتعدد، إذ أن هؤلاء البنائين هم الذين أدخلوا الثقافة العربية، من جديد، في محيط الهدم والبناء. وبالمنطق نفسه سيبقون حديثين، ومضيئين للحديثين، في حاضرنا ومستقبلنا.
أفضل العودة إلى أعمال هذه الكوكبة من الكتاب والمؤلفين. أنصت إليها في حياتها وأعمالها. أنصت إلى ما تختزنه من فكرة وحرية ونبالة. وفي الإنصات أستحضر المغامرة الكبرى التي تجرأ عليها كتاب وفنانون في زمن ساد فيه الجهل والقمع. كل واحد كان له شيءٌ مما يفسح في اختراق السائد والمغلق في آن. والمضيء الذي أعثر عليه هو وحده الذي يدل على الهامش، متوقداً، راسخاً. وبين العودة واستحضار الأسئلة ثمة ما لا يخون.
هل هناك فائدة في التذكير، اليوم، بالهامش الثقافي العربي؟ أجيب نعم. لا لأن جواب الإثبات هروبٌ من الحوار والاختلاف، بل هو بدءاً ما يبرر الاعتقاد في الحداثة سبيلاًً لتحررنا الفردي والجماعي. الحداثة كفكرة نقدية، تتعرف على ذاتها بمزوالة فعل السؤال والنقد. بها يظل معنى الحرية حاضراً في حياتنا، ويكون للهامش ما له في ثقافات العالم، اليوم، وقد ازداد طغيان ثقافة الإعلام والاستهلاك فيما تكالبت قيمُ المنفعة والامتياز.
بهذا الهامش وحده، هامشنا الثقافي، أقيسُ ما كنا وما نكون. مرة أخرى أعود وأنصت. كل ما تجرأ عليه هؤلاء جميعاً كان المنفذ الذي يودي إلى إبطال منطق المغلق والمستبد. ورغم أن الحداثة في العالم العربي تعيش اليوم لحظة تشهد فيها إدانة الفكرة التي استندت إليها، ورغم تنكر الحياة اللاثقافية لما شكل الثقافة والحداثة في العالم العربي، فإن البقاء في المكان ذاته، مكان الحداثة، هو ما يشعرني بأن ما قامت به هذه الكوكبة لم يكن باطلاً ولم يكن هيّناً على السواء. بتواضُع أنصت إليها، في الصمت الذي يلزم، عندما يضيق المكان وتختنق الكلمات.
القدس العربي