سارتر وساركوزي
صبحي حديدي
نقلت صحيفة الـ ‘فيغارو’ أنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مولع هذه الأيام بقراءة كتاب ‘كلمات’، أحد أعمال مواطنه الفيلسوف الشهير الراحل جان ـ بول سارتر، ولا يكفّ عن اقتباس عبارة بعينها: ‘التقدّم، ذلك الطريق الطويل الشاقّ الذي يفضي إليّ’! وقد يجد البعض في هذا شيئاً من الغرابة، أو الكثير منها في الواقع، إذْ كيف يمكن لفلسفة سارتر أن تلهم ساركوزي، وفي هذه الأزمنة بالذات؟ وقد يجد البعض، وكاتب هذه السطور في عدادهم، أنّ الأمر على العكس: ممكن تماماً، وممكن في فرنسا هذه الأزمنة تحديداً، التي وضعت هذا الرجل بالذات في قصر الإليزيه.
خبر ساركوزي وسارتر ردّني إلى مقالة قديمة للراحل إدوارد سعيد، تروي تفاصيل مشاركته في ملتقى حول السلام في الشرق الأوسط، عُقد في باريس ربيع 1979، بدعوة من سارتر وسيمون دو بوفوار: كيف نُقل مكان الإجتماع إلى دار ميشيل فوكو ‘لأسباب أمنية’، وكيف تأخر سارتر نفسه، ثمّ كان يلزم الصمت ساعات متواصلة، ولم يقدّم في نهاية المطاف سوى نصّ مكتوب يمزج بين الذكريات وامتداح شجاعة أنور السادات. الإنصاف يقتضي القول، أيضاً، إنّ سارتر لم يكن هو وحده المؤيد للدولة العبرية في صفّ كبار فلاسفة فرنسا آنذاك، بل كان هذا هو موقف فوكو ودو بوفوار، والأحرى القول إنّ جيل دولوز كان أقلية الأقلية في دفاعه عن الحقّ الفلسطيني.
ولكن… عن أيّ سارتر نتحدث، في نهاية الأمر؟ الفيلسوف الماركسي؟ أم الوجودي؟ أم ‘العالمثالثي’؟ كيف نعيد قراءة سجالاته الكبرى ضدّ مفكر فرنسي آخر (بارز بدوره، يميني حتى النخاع) مثل ريمون آرون، دون أن نعيد ترديد التنميطات الإيديولوجية القديمة التي يُفترض أنها انقرضت إلى غير رجعة؟ وكيف سنضع ‘الوجود والعدم’، أو ‘نقد العقل الجدلي’ أو ‘الأيدي القذرة’ أو ‘الغثيان’ في سياقات العولمة التي تطبع عقود أزمنتنا، المعاصرة والراهنة؟
وحين يتسارع سقوط نظريات المركز والهوامش، وتعدّدية الأقطاب والعوالم، كيف تقرأ مقدّمة سارتر الشهيرة لكتاب فرانز فانون ‘معذَّبو الأرض’؟ كيف نفسّر الفقرة المدهشة التالية، على سبيل المثال: ‘أنْ تقتل أوروبياً يعني أن تقتل عصفورَين بحجر واحد، لأنّك بذلك تدمّر قاهراً وتدمّر المقهور في آن معاً، فتكون الحصيلة رجلاً قتيلاً ورجلاً حرّاً’؟ وكيف نقدّم مثل هذا النصّ لمئات آلاف الساخطين على ‘الإستكبار’ الأوروبي المعاصر، شرقاً وغرباً، دون أن يكون النصّ دعوة مفتوحة إلى العنف المفتوح، أو إلى ‘الإرهاب’ في عبارة أخرى؟
أم أنّ من حقّ الجميع، والمثقفين في صفّ اليمين بالذات، وساركوزي على رأسهم، أن يعيدوا قراءة نسخة واحدة من هذه الوجوه المتعدّدة: سارتر المتقلّب؛ الفيلسوف الذي بدأ ماركسياً، ثم انتقل إلى الوجودية، وارتدّ بعدها إلى مهاجمة الماركسية؛ الرجل الذي أعلن رفض جائزة نوبل سنة 1964 ‘لأسباب شخصية’، ثم عاد فقبلها ‘لأسباب مالية’ كما قال؛ والرجل الذي برهنت الأيّام أنه كان، على نقيض ماركسيته، مناهضاً لفكرة تغيير العالم؟
والحقّ أنّ مسارات تاريخه تزوّد أصحاب هذا الرأي بمادة وفيرة، لعلّ أبرزها المواقف المدهشة التي كُشفت قبل سنوات قليلة بمناسبة صدور خمسة دفاتر جديدة، من الدفاتر الـ 15 التي ضمّت مذكراته منذ سنة 1939، حين أُعلنت التعبئة العامّة في فرنسا استعداداً للحرب الكونية. وفي ذلك العام كان سارتر مفكّراً شاباً في الرابعة والثلاثين من العمر، قطف لتوّه أمجاد كتابه ‘الغثيان’، ويعكف على أكثر من مشروع روائي وفلسفي طموح. وكان يتمتّع بكامل حرّيات الروح المنعزلة، الفردية، المتخففة من أعباء الكون، والمنسلخة بصورة تكاد تكون تامّة عن هموم السياسة. ومع دنوّ شبح الحرب وجد نفسه في خضم طور جديد سيصفه في ما بعد، عام 1975، كما يلي: ‘بدأ وأنا في الرابعة والثلاثين، وانتهى وأنا في الأربعين، وكان بالفعل حلقة انتقال من الصبا إلى النضج العقلي. كنت أظنّ نفسي مستقلاّ سيّداً، وتوجّب أن يدلّني عام التعبئة على نفي حريتي الخاصة لكي أمتلك الوعي بثقل العالم من حولي، وطبيعة صلاتي بالآخرين وصلات الآخرين بي’.
خلال فترة الحرب، حيث عمل في فصيلة للأرصاد الجوية، دوّن سارتر أفكاره عن هذه ‘الحرب الكافكاوية’، و’الحرب الشبح’، التي لم يرفع إصبعاً واحداً ضدّها في الواقع، ولم يستطع التنبؤ بوطأتها عليه شخصياً، قبل أن تستدرجه بعنف وتقوّض أبراج التأمّل الوجودي التي استطاب حبس نفسه فيها. الدفتر السادس، على سبيل المثال، يتضمّن اعترافات مدهشة، بينها هذا مثلاً: ‘إنني لا أسعى سوى إلى استدعاء الراهن. إنني محافظ. إنني أريد الحفاظ على العالم كما هو، ليس لأنه يبدو حسناً في ناظري ـ فالعكس هو الصحيح، لأني أراه مقيتاً ـ بل لأنني في الداخل، ولا أستطيع تدمير العالم دون تدمير ذاتي معه’. أو هذا: ‘لقد اعتمدت بعض الشيء على هذه الحرب لكي تكون تعويضاً يسهّل نجاحي الأدبي. وفي جميع الأحوال، كان الأمر هنا يتعلق بفكرة الإندماج بين قَدَر امرىء عادي، وقدر امرىء عظيم. وفكرة القدر هذه ارتبطت بي في مستويات عميقة، وكنت أردّد: أنا على موعد مع القدر’.
مَن، والحال هذه، يلوم ساركوزي إذا استلهم سارتر في اقتياد دروب التقدّم، إلى عتبة مطامحه ومطامعه؟
خاص – صفحات سورية –