الكتابة
هنري ميللر
أنا من أولئك الكتاب الذين لا يكتبون إلا بعد سنوات من الحدث. وقد صدرت غالبية مؤلفاتي في السنوات العشرين الأخيرة. كتاب أو كتابان ألفتها في اللحظة ذاتها مثل (مدار السرطان) و (تمثال ماروسي) لكني في الغالب أعود إلى الماضي.
الكتابة عندي مسألة ضبط صوت، عال أو منخفض، بحيث أكون مستعداً لها، ذهنياً وروحياً. حين تأتي الكتابة، ينبغي أن تأتي كالماء من الحنفية. وكلما احتفظت بالمادة طويلاً في داخلي، خرجت كالجوهرة نتيجة الضغط.
متى تبدأ؟ كيف تبتدئ؟ أغلب الكتاب يصابون بالجمود وهم ينظرون إلى الورقة البيضاء. الكل هكذا. إنه كالنظر إلى قماشة الرسم الخالية. توصلت إلى حيلة اكتشفها السرياليون، ـ وهي ببساطة ـ أن تكتب كل ما يرد إلى ذهنك، سخف، لا فواصل، لا فترات، لا نتيجة من أي نوع. حتى يأتي ما أردت قوله. لكن لا أدع ذهني ينهك البتة. تعلمت مرة درساً. كتبت في يوم واحد خمسا وأربعين صفحة، وبعدها سقطت منهاراً. لذا أحاول دائماً أن أظل منتعشاً. الأمر مثل الخزان، لا تستنزفه أبداً. فهو يحتاج إلى زمن طويل كي يملأ ثانية. همنغواي قال هذا، كما أظن، لكن همنغواي هو الآخر كان عبد مخطوطاته، في رأيي أنه لم يحقق الكثير الكثير.
استخلص الفائض، وفي اليوم التالي يتبقى لي شيء أعالجه، وأمضي فيه، ومنه. هذه هي، على العموم، طريقتي في الكتابة. كثيراً ما أشتط عن الطريق، طبعاً.
أظن أنني سأكتب حول أمر معين، وبغتة يداهمني موضوع آخر، فأمضي معه. لكن الشيء الرئيسي أن تدع التيار يتدفق، حياً. حافظ على التدفق. هذه هي الفكرة الأولى في رأسي.
لا أفكر مثل الكتاب الآخرين. فالطريقة التي أتوصل بها إلى الفكرة مختلفة تماماً عن كاتب سينمائي يعمل مخطوطة. إنه يفكر بالعديد العديد من الأشياء المختلفة كي تنضج الفكرة تماماً في {اسه. أما أنا فلا يهمنا إن أخطأت الهدف أو أصبت. إنني أكتب، وهذا هو المهم.
ليس المهم ما كتبته، إنما الكتابة ذاتها. لأن تلك حياتي. الكتابة. الفعل الصرف بحد ذاته هو الأكثر أهمية. ما أقوله ليس بتلك الأهمية. والغالب أن يكون ما أقوله، أحمق، سخيفاً، متناقضاً. لا يضايقني هذا إطلاقاً. هل تمتعت به؟
هل كشفت عما في نفسي؟ هذه هي المسألة. وبالطبع، لا أعرف ماذا في نفسي. هذا هو الأمر الهام حقاً. الفرق بيني وبين الكتاب الآخرين أن يضعوا على الورق ما رسخ في رؤوسهم. أي أن يهبطوا بالأعلى إلى الأسفل. أما أنا فأناضل من أجل أن أرفع الأدنى إلى الأعلى، أن أدفع بالأدنى إلى مملكة الشمس والأصقاع البعيدة.
لصديقي في باريس، ألفريد بيرلس، طريقته الفريدة، فهو يضع ساعته على المنضدة ويقول (سوف أكتب لمدة خمس وأربعين دقيقة). وحين تمر الدقائق الخمس والأربعون، يتوقف، حتى لو كان في منتصف جملة. لقد انتهى من عمله لهذا اليوم.
لقد فعلت أنا أيضاً هذا ـ توقفت في منتصف مقطع ـ سوف يزعج هذا كتاباً عديدين، لأنهم يعتقدون (كيف يمكنني أن أعيد التقاط الفكرة هذه، غداً)؟ لست أقلق لهذا، لأنني أعتقد أن لا شيء يضيع، وليس ثمة إلا العثور على المفتاح ثانية. قد لا تبدأ بذلك المقطع، قد تبدأ من مكان آخر، لكن، إن كان الأمر في مؤخرة رأسك، فسوف يطل ثانية إثناء الكتابة. وإن لم يحدث هذا، ذلك اليوم، ففي اليوم التالي، وإلا ففي منتصف الليل. لا أقلق لضيع الأشياء. لا شيء يضيع إلى الأبد، وبخاصة الأفكار.
أشار بروست إلى أنه وهو يعيد العيش مع شيء من الذاكرة، كان يمارسه بصورة أكثر حيوية، مما لو عاشه فعلياً. إن هذا لصحيح تماماً. لا أعرف السبب، ولكن ريما لأنك في أقصى الوعي والإدراك والانتباه والاستعداد، إثناء الكتابة. فأنت تتذوق الأشياء بشكل أقوى، وتحس الأشياء بشكل أقوى. قد تكذب بالطبع، قليلاً. ومع أنك تعيد الإمساك باللحظة، إلا أنك تضع أشياء أخرى معها. إنها لحظتك، تتعامل معها. وليست النقطة أن تكون اللحظة كما حدثت بالضبط، وإنما في آن تستعيد جو ذلك الحدث. من المستحيل تقريباً أن تعيد إنتاج شيء ما، بصورة مطلقة، لكنك تستطيع، أكيداً، أن تقدم مؤثرات إستعاشته.
مختارات من سيرة وأقوال هنري ميللر
الحياة
الحياة ملهاة لمن يفكر برأسه.
الحياة مأساة لمن يفكرون بمشاعرهم، أو يعملون عبر مشاعرهم.
أصدقائي ـ أعدائي
أنا مشهور بأن الناس يضايقونني، وأن أصدقائي في الغالب هم ألد أعدائي.
النساء
أفضل دوماً أن تكون النساء حولي، لا الرجال.
التأويل
حسناً: المسألة هي هي: في الموسيقى، والنقد، والكتابة، والرسم. إنني أتعلم كلما حضرت هذا الصف الأعلى، شيئاً أكثر عن التأويل.
بيكاسو
ما الذي جعل رجلاً مثل بيكاسو، مدهشاً هكذا؟. إنه لا يفقد لمسته، لأنه معها باستمرار. وليس عليه حتى أن يفكر أكثر. إنها هناك… في أصابعه… يلتقط الفرشاة، فتنبئه الفرشاة بما يفعل…
مشاكس
ثمة ما هو مشاكس عندي، وأعني أنني أريد أن أكون ضد ما أنا عليه.
سرّ مكنون
يجب أن أضيف شيئاً آخر. علي أن أخبرك بأن هناك، على الدوام، جانباً من حياتي أحتفظ به سراً، حتى أمام أقرب أصدقائي. هذا الجانب السري لا أكتب عنه. وهو جانب مني، هام جداً.
الحب
أنا امرؤ يقع في الحب باستمرار، ويقول الناس أنني رومانتيكي لا يرجى شفاؤه.
كيف صرت كاتباً
أقول أنني جربت كل شيء وأخفقت. إذن: فلأجرب الكتابة.
الدين
أنا متدين، لكنني لست دينياً.
الروح
إنه شيء لا تستطيع أن تضع إصبعك عليه.
إنه الروح.
إنخس الناس
أحياناً يكون من الضروري أن تقرص الناس، وتخزهم، وتدفعهم، عليك أن تخزهم كي توقظهم.
عن ديكنز
لقد كان فكهاً عظيماً. لقد جعلنا نضحك على أنفسنا.