صفحات ثقافية

الرقابة أمضى الأسلحة السرية

null
د. منى فياض
الرقابة على الكتب وجدت على مرّ العصور. أُحرقت روائع وأُعدمت أفكار وعُطّلت طاقات خلاقة..
في الاتحاد السوفييتي السابق مُنع ديكارت وفرويد وكل من يُكتشف عنده كتاب ممنوع كان يتعرض للغولاغ، (جحيم المعتقلات الروسية).
ويظل السؤال المثير: كيف يمكن أن نميت أحداً من أجل كتاب؟
فالتاريخ يحفل بالكتب الممنوعة التي عرّضت مؤلفيها على مرّ العصور للسجن أو للنفي أو للموت. الموت حرقاً كان من نصيب Giordano bruno الذي اعتمد على نظرية كوبرنيك لكي يبرهن فلسفياً على ما نعتقد به الآن عن لا نهائية الكون، واحتوائه على أعداد لا تحصى من العوالم. كُتب غاليليو منعت، وسجن في منزله حتى موته. أما المركيز دو ساد، فلقد انتهى به الأمر في المنفى بسبب كتاباته التي تجمع بين الإيروتيكية والعنف.
الكثيرون غيرهم ماتوا مجهولين، لكن كتبهم بقيت.. علام إماتتهم طالما أن كتبهم عاشت بعدهم وقاومت طوال كل هذه الأزمنة؟
آلاف الكتب أحرقت وأتلفت أو منعت بواسطة الرقابة. هناك كتب اختفت آثارها تماما وأخرى ما زالت الأيدي تتناقلها في السرّ، وهي كتب ملعونة تشكل قراءتها اعتداء على المقدسات، ومن هذه الكتب تلك المتعلقة بالجنس خصوصا، لكن ايضاً تلك الملحدة والفلسفية وكتب السحر أحيانا أو كتب الصوفية.
وبينما نقول في بلادنا عن المؤمنين كافة «أهل الكتاب»، نجد أن الكثير من الكتب تمنع باسم ذلك «الكتاب» تحديداً، إما لأنها تبتعد عنه، أو تتحداه، أو تخالف بعض ما جاء فيه، أو تفهمه بطريقة مختلفة عما هو سائد. ونصر حامد أبو زيد لا يزال حياً.
قد يجعلنا ذلك نعتقد أن علمانية مجتمع ما قد تخلصه من هذه الممارسة، لكن أبداً: «يظل منع المنع» حلما غير متحقق.
في السنوات السبعين حاول الجنرالات اليونانيون، مع «علمانيتهم»، منع الإضرابات والميني-جوب فانتهوا إلى منع سوفوكل واوربيد واريسطوفان..
أي أساس الثقافة اليونانية نفسها.
في السبعينيات اللبنانية استفقنا على منع كتاب د.صادق جلال العظم: «نقد الفكر الديني»، وأثار ضجة تسببت في شهرة صاحبه أكثر مما أسهمت في قمع أفكاره. ثم كان منع كتاب الروائية ليلى بعلبكي «سفينة حنان الى القمر» الذي لا نجد فيه ما يستحق المنع عندما نستعيد قراءته الآن. كتاب المغربي محمد شكري «الخبز الحاف» نشر في العام 1982 ومنع في العام التالي. ولم ينشر مجددا إلا في العام 2005 بعدما عُرف في الكثير من بلدان العالم وترجم الى لغات اجنبية.
وفي بداية القرن الحالي منع كتاب عبده وازن الذي لم يفعل سوى استعادة بعض ما كانت تحفل به كتب التراث. وكاد عقل عويط يحاكم بسبب رسالة وجهها الى الله. مؤخراً منع كتاب سلوى النعيمي «برهان العسل»، الذي يستعيد لغة التراث، في معظم الدول العربية. هذا وهو في طريقه الى الترجمة في 17 لغة مختلفة.
لكن المشكلة في بلادنا أن الرقابة لا تُمارس من طرف السلطات الرسمية فقط، لكنها ممارسة أيضاً «اجتماعياً»، وهو ما تنشط في ممارسته الجماعات الأصولية، فلقد قتل فرج فودة، وتعرض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال في العام 1994 ولم تشفع له جائزة نوبل الذي حصل عليها في العام 1988، بل ربما أسهمت في محاولة الاعتداء عليه.
تزدهر مؤخراً عمليات الاعتداء على الصحافيين لأسباب سياسية. مع ذلك «لم يحاسب قضائيا أي شخص على الاعتداءات التي اتصلت بالحريات الإعلامية والثقافية في لبنان وسورية وفلسطين والاردن»، خلاصة سوداوية انتهى اليها التقرير السنوي الذي أعدّه «مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية» سكايز. هكذا كانت المعادلة خلال العام 2008، اعتداءات بوتيرة مرتفعة عبر استهداف صحافيين أو قتلهم،
أو من خلال الاعتداء على مباني وسائل إعلام ومنازل الإعلاميين، وما من محاسبة لأي من قتلة الصحافيين.
مع ملاحظة ضمّنها المركز إلى أن «ثمة تراجعا في الحريات الإعلامية والثقافية». وفي التقرير الذي يتألف من 11 صفحة، جردة لأربعة بلدان، و«لا تفاؤل».
كذلك، لا يزال الأمن العام اللبناني «طرفا ثقافيا» يمارس رقابته على الكتب والأنشطة الثقافية، فيضع إنتاج المثقفين رهن إشارته، وهذه أكبر مفارقة في «بلد التنوع الثقافي». ففي مارس (آذار) الماضي، منع الأمن العام المذكور عرض الفيلم الفرنسي – الإيراني «بيرسيبوليس» للمخرجة مرجان ساترابي، قبل أن يجري التراجع عن القرار بعد تدخل وزير الثقافة.
في فلسطين الصورة نفسها، فلقد صعّدت قوات الاحتلال الإسرائيلية قتل الصحافيين واستهداف وسائل الإعلام، كما استهداف منازل صحافيين بشكل متعمد خلال الحرب على غزة «من 27 ديسمبر (كانون الاول) 2008 الى 17 يناير (كانون الثاني) 2009». وقتلت قوات الاحتلال أربعة صحافيين هم باسل فرج وإيهاب الوحيدي وعمر السيلاوي وعلاء مرتجى.
كذلك استبق مسؤولو الاحتلال حربهم على غزة بفرض حصار إعلامي على دخول المراسلين الأجانب، وتابعوا المنع خلال تلك الحرب. لكن المشكلة تكمن حقاً في أن القمع ينشط ولا يمارس من سلطات الاحتلال فقط، لكن أيضا من الجهة المقابلة، أي السلطة وحماس. فلقد استمر تجاوز القوانين، في العام الماضي، بشكل مقلق للغاية من الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة. هذا عدا عن اللجوء للتصفيات الجسدية لبعض مخالفي الرأي في مشاهد صارت معروفة.
هذا غيض من فيض مما هو سائد في البلدان التي تتمتع بنوع من الديمقراطية، فكيف هو عليه الواقع في البلدان التي يسود فيها الاستبداد المطلق على أنواعه؟

كاتبة من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى