جدلية الفن والسياسة عند يوسف عبدلكي
باسل السعدي
من المحيّر الكتابة عن الفنّان السوريّ يوسف عبدلكي، هل هو فنان سياسي؟ أم هو فنّان من دون تحديدات؟ هل ما يرسمه لوحة أم أنّه يرسل رسائل سياسية اجتماعية بفنية عالية؟ هل وجدت هذه الموهبة من أجل هدف سياسي فقط، ستتحوّل لاحقاً لأداة تعبير عن همّ أوسع هو همّ وجوديّ بامتياز.
كيف يحدّد خياراته الفنية؟ وكيف يجيب عن أسئلة معقدة مثل: من يأتي أوّلاً الفنّ أم السياسة؟ وإذا انعدم العمل السياسيّ هل من الممكن صناعة فنّ سياسيّ؟ ماذا يريد يوسف عبدلكي أن يقدم لنا؟ وأنا أسأل هذه الأسئلة لأنّه باعتقادي فنّان يتّخذ خياراته بعناية شديدة وبالتالي يجب علينا محاولة قراءته من عدة مستويات.
في نهاية الثمانينات تعرّفت إلى أعماله عبر أغلفة الكتب لشعراء وكتاب سوريين، في تلك الفترة كنّا ما نزال نتلمس طريقنا في التعرف على الفنّ، ونسأل أنفسنا: ما هو الفنّ؟ لماذا يرسم الفنّانون ويصنعون منحوتاتهم؟ كنّا نرتب أبجديتنا لفكّ أسرار الأعمال التي كنا نراها، وكثيراً ما كنا نتوه في التقييم ونحتار في المعايير التي سنستخدمها .
كان الفنّ من جملة الفروع الإبداعية الأخرى يبدو ماورائياً بشكل كبير، غامضاً وعصيّاً، لكن عندما كنّا نشاهد لوحة أو غلافا صنعه يوسف عبدلكي، كنا نتوقّف أمام أمرين: أوّلهما وضوح الفكرة وصدقها، وثانياً التقنية الرفيعة التي صنع بها العمل، وما بدا متعالياً وغامضاً في أعمال الفنانين الآخرين، كنا نجده هنا متواضعاً أمام المشاهد ومقدماً بسوية عالية، في تلك الفترة كانت لنا أحلامنا اليسارية وأسئلتنا عما هو الفنّ السياسيّ، وهل يجب أن يكون الفنّ سياسياً حتى يخدم الناس، أم يكفي أن أنتج فناًً وكفى، فكل شيء هو سياسيّ في النهاية، مرّ الوقت ومرّت تحوّلات كثيرة محلياً وعالمياً، اهتزّت مفاهيم راسخة وبقيت أخرى لتصبح أكثر وضوحاً.
اعتمد الفنّ التشكيليّ في سوريا منذ البدايات على المواضيع الأدبية والوطنية كركيزة لبناء العمل الفني، في الحقيقة لم يكن هنالك خيار آخر لمقاربة هذا الفن الوافد، لكن عند محاولتنا لقراءة تجربة الفنّان يوسف عبدلكي سنحتار في السؤال: ما هي الأولوية؛ الرسالة السياسية أم الرسالة الجمالية؟ ما أعتقده أن هذا السؤال قد رافق تجربة عبدلكي منذ بدايتها، لكن إلحاح العمل السياسي قد حسم الجواب في البدايات على الأقل باتجاه الرغبة بالتأثير السياسي، إلى هنا يبدو الأمر مشروعاً ولا يحمل أي التباس، لكن إلى أين سيمضي العمل الفني عند انقطاع سبل العمل السياسي المباشر؟ وهذا ما حدث بعد خروج عبدلكي من السجن في بداية الثمانينات ورحيله إلى فرنسا لإكمال دراسته، في الحقيقة استمرّ عبدلكي في إيجاد وسائل للتواصل الفني السياسي، سنجد في فترة الثمانينات وبداية التسعينات عشرات كتب القصة والشعر السورية التي رسم أغلفتها عبدلكي. نستطيع توصيف هذه المرحلة بالسياسية الرمزية، سنجد رسومه مليئة بأشخاص عزل يواجهون وحوشاً غريبة، وإذا تابعنا بالتواريخ زمن إصدار هذه الكتب سنلاحظ بوضوح التطوّر التقنيّ والفنّيّ لتلك المرحلة، وفي نفس الفترة رسم عبدلكي ثلاثياته وهي شخوص متغطرسة شوّهها فساد الروح والسلطة، هنا تطور عمل عبدلكي في توازن دقيق بين اللوحة والكريكاتور مستخدما ومطوّراً تقنيات رفيعة في فنّ الغرافيك، عن هذه المرحلة يقول عبدلكي: ” كانت أكثر مجموعة يظهر فيه جانب سياسي مباشر والتي كانت نوع من التفريغ لكل ما تراكم داخلي من فترة السجن، وكانت على صلة بأعمالي الأولى ، يظهر بها أشخاص يستعرضون قوتهم وسطوتهم،هذا على مستوى الدلالة، أما على المستوى الفني إذا صحّ التعبير كان في هذه المجموعة الكثير من الحدّة و الشراسة،غطرسة الشخصية والسخرية منها، اللعب بها بطريقة قد تكون انتقامية، مع نهاية هذه المجموعة أحسست أنني قد صفيت حسابي مع فترة السجن”، لا يوجد الكثير لنضيفه عن هذه المرحلة سوى أنها باعتقادي كانت مرحلة وسيطة لم يكتمل فيها نضج المفهوم الفني عند عبدلكي، بمعنى الإجابة على أسئلة من نوع : ما هي المسافة بين اللوحة والملصق السياسي، وهذا السؤال قديم ربما بدأ مع لوحة الغرينيكا لبيكاسو، والإجابة عليه تقول ببساطة إنّ الزمن هو الحكم، فالملصق السياسي يرتبط بحدث عابر ويومي واللوحة تصلح قيمها الفنية في كل وقت…، كان هذا في منتصف التسعينات في الفترة التي شهدت تحولات كبرى والتي اضطرت الكثيرين لإعادة النظر في مفاهيم آمنوا فيها فترة طويلة. في الحقيقة من الصعب الجزم بالتطورات الفكرية والنفسية التي مر بها عبدلكي حينها، لكني سأصف التحول الفني الذي حصل معه أنه انتقال من الهم السياسي اليومي إلى الهم السياسي التاريخي، أي أنه بمعنى ما أجاب على سؤال الفاعلية الفنية بالذهاب إلى عمق الشرط الفني، أي أن الفاعلية الحقيقية هي الفاعلية التي لا تبحث عن ردّ فعل آنيّ بل هي في الحقيقة فاعلية فنية وبصرية وهذا برأي ما وسع من الجمهور المتابع لأعمال عبدلكي.
في تلك المرحلة والتي بدأت عام 1995 ولم تنته إلى الآن، رسم عبدلكي أشياء أختارها بعناية بواقعية شديدة مثل أحذية مستعملة، نباتات جافة، رؤوس أسماك، جماجم حيوانات، أواني زجاجية… صحيح أن هذه الأشياء قد رسمت بواقعية شديدة لكن المكان الذي وضعت فيه غائب، غامض وملتبس، بدقة أكبر هو اللامكان، وهذا يعيدنا إلى غياب المكان في اللوحة السورية والذي نستطيع باستدلالات مقنعة أن نسميه بالمكان الرَحمي، المكان المشتهى ولكن ليس لنحيا فيه، بل لننزوي فيه بعيداً عن صدمة الحياة، ولكن في لوحات عبدلكي الأمر مختلف تماماً فالمكان نستطيع وصفه بالرحمي لكنه مليء بأشياء الواقع الصادم، مليء بالموت وبالتالي مليء بزمن مضى، وهنا المفارقة فالمكان يخبرنا بانعدام الزمن، والأشياء التي تملئه تصدمنا بآثار وجودنا الحسّي .
سأصنع عدّة مقاربات ستساعدنا على فهم الموضوع أكثر، سأذهب إلى مثالين قد يبدوان متنافرين لكنهما في الحقيقة يستخدمان الأسلوب نفسه في تقديم الواقع فنياً، أولهما هو الواقعية الاشتراكية التي كانت أسلوب واسع الانتشار في الدول الشيوعية السابقة ، والثاني هو الإعلانات المصورة أو التلفزيونية. في كلا المثالين يقدم المكان كما سيبدو فيما بعد عندما ينجز الحلم، حلم الثورة الذي يقدم زماناً ومكاناً طوباويين، جنة ستصبح واقعاً لا محالة، لكن يجب أن لا نكون أنانيين ونطالب بها الآن فهي وعد قد تلاقيه الأجيال القادمة ولهذا نحن نعاني الآن. وحلم الاستهلاك الذي يبيعنا النعيم الذي سنلاقيه مع المنتج الذي يُسَوق له، استخدم الواقع المستقبلي في الحالتين هنا كمخدّر يستغل رغبة الإنسان الدائمة في الأمل، وفي تحسين ظروف حياته بصورة جماعية (الواقعية الاشتراكية) أو بصورة فردية (الإعلانات) وفي الحقيقة قليلاً ما نجد فناناً تعامل مع المكان بموضوعية، ربما من القلة الذين دخلوا إلى هذا الحيز بشجاعة هو الفنان الانكليزي لوسيان فرويد عندما رسم شخوصه عراة من دون تجميل وبحسية عالية، رسمهم في أمكنتهم الفقيرة الرمادية وملامحهم لا تدل على شيء، إنهم هناك من غير أمل، لا يبدو على وجوههم أيّ تعبير ، الزمن هنا هو (الآن) سنرى ذلك بوضوح لأنه ببساطة يأخذ أعيننا إلى ما نهرب من مشاهدته.. أي الواقع، في هذه الأعمال يتحرر الإنسان من الأمل، على الأقلّ يتحرّر من التغذّي على الخيال ليقبض على لحظته مهما كانت قاسية .
وبالعودة إلى عبدلكي سنجد أنه يعرض أشيائه الصادمة كالأحذية والجماجم والزهور الجافة، والتي تخبرنا بزمن حقيقي قد مرََّ عليها، لكنه يقدمها كأيقونات معزولة عن أمكنتها، إنه يرفعها إلى مرتبة المقدس، ومن زاوية أخرى نستطيع القول أنه يقوم بشكل مقصود بإقصاء المكان وبالتالي فهو يقصي الزمن ولا يقدم لنا إلا ما كان (أحذية قديمة، جماجم ..) وبهذا المعنى لا يكون ما يقدمه عبدلكي من فن فناً سياسياً تماماً، فالعمل السياسي هو الذي يسعى إلى التعامل مع الحاضر والمستقبل أي الذي يسعى إلى الفاعلية، وقد يسعى إلى مراجعة الماضي لكن لكي يخدم أهدافه الحالية والمستقبلية، وبالمقارنة مع مفهوم لوسيان فرويد الفني نستطيع القول أن يوسف يعرض أشياءه ليصدمنا ويشاكسنا، بينما ما يفعله فرويد هو أكثر قسوة، إنه يقول في أعماله أن هذا هو الواقع وأن هذا أمر عادي، فهذه هي الحياة لا أكثر ولا أقل …هكذا نحيا رتابتنا خلف الجدران والأمل هنا يبدو نكتة سمجة، بينما تخبرنا الجماجم والأحذية ورؤوس الأسماك عند عبدلكي أنه في الحقيقة ينتقم من أمل ربما راوده يوماً، من يوتوبيا جماعية خذلته وأعادته إلى ما كان يهرب منه، وهو فضاء شخصي معزول لا فاعلية فيه للسياسة، هنا يعود الفن ليصبح بوحاً وتنحسر وظيفته النبوية الجماعية، أعتقد أن الخيارات الفنية المركّبة التي قام بها عبدلكي خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة أعادت للفنّ ما افتقده سابقاً في بداية تجربته وهو مواجهة الوجود منفرداً …أليس هذا قدر كلّ فنان؟
موقع الآوان