خليّة آب /مطر الغياب، الجزء الرابع: أم عادل
محمود عيسى
ـ عندما زرناهم، لم نشاهد سوى الصبايا فأين عادل؟
سأل أحمد الأشقر
ـ ليس هناك عادل ولن يأتي !
يا صديقي إن أم عادل أرملة منذ سنوات عديدة، توفى زوجها أثناء خدمته العسكرية، كان معلم وكالة، أنجبا خمس بنات، كانوا ينتظرون قدوم عادل الذي لم يأت .! بعد وفاة زوجها “علي” فقدت الصبية زوجها وحبيبها وصديقها مخلفاً لها خمس بنات جميلات.. وقعت المصيبة على رأس الأم التي أخذت تعمل في شتى أنواع الأعمال من أجل تأمين لقمة عيشها والبنات.. وبدأت تنهال عليها الضغوط من كل حدب وصوب.. وتعرضت لأبشع أنواع الاتهامات الأخلاقية من أجل إحراقها.. تحت حجة السترة أحياناً ودفعها للزواج حفاظاً على سمعتها ومصلحة البنات أحياناً أخرى! ولأنها جميلة، وفي أول العمر بدأت تحوم حولها الذئاب.. تشتهيها .. ولما عجزت من التمكن من نهشها.. حاولت تلويث سمعتها وتهافت العشاق والمعجبون بها.. فاختارت أن تضحي دون حسابات الربح والخسارة.. وأخذت تشق طريقها وسط التحديات.. وطرقت كل الأبواب من أجل تأمين فرصة عمل دائمة تؤمن لها مصدر عيش لائق.. كانت تمشي يومياً عدة كيلو مترات من أجل أن تصل إلى عملها وتعود منه إلى بناتها الصغيرات وتعتني بهن.. وتمكنت من بناء منزل في القرية.. وبعد عدة سنوات من ذلك الشقاء والكدح أصبحت البنات موزعات من الابتدائية إلى الثانوية في مدارس مختلفة… فعملت على حل المشكلة من أساسها واشترت منزلاً من أجل أن تلم شمل الصبايا معها كما رأيتهن في وقت يصعب على الرجال ذوي الشوارب والعضلات المفتولة تحقيقها..
عاد أحمد الأشقر من شروده وقال:
ـ لقد تأخرت .. ألن تذهب إلى تعليم الصبايا ؟ وينبغي عليك أن تعتبر أن استمرار علاقتك بهذه العائلة جزء من عملك الحزبي ..
في المساء شعرت باضطراب ينتاب جسدي .. وأحسست بقشعريرة تهز بدني .. أربع سنوات انقضت على لقاءنا الأخير.. ما زالت عبارتها الأخيرة ترن في ذاكرتي عندما قلت لها بعد خلاف معها أنني ذاهب فقالت: …..!
خرجت حينها من بيتهم كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحاً سلكت طريقاً صعباً وخطيراً كي لا يراني أحدٌ وأنا خارج وربما للمرة الأخيرة ..! لم أذهب مباشرة إلى منزلها ببانياس مشيت في الشوارع المحيطة تنهبني الأحاسيس المختلطة… عيونها الخضراء ونظراتها الخلس… والصوت المبحوح وإلى عام 1982-1983 ..عندما انتقلت لتسكن وشقيقتها في مركز الناحية واللهفة التي أتت بها والبرودة التي قابلتني بها ما زال سارياً في أوصالي… حاولت إقحامها فيما لا يهمها ولا يعنيها وطلبت منها مايطلب من فتاة ناضجة .. خرجتُ من غرفتهما المستأجرة… الساعة تجاوزت الواحدة صباحاً… كان الهواء بارداً والريح عاصفة… مشيت بضعة أمتار… عدت وقرعت الباب.. طلبت منها أن تعطيني كنزتها الحمراء كي أدثر رأسي بها اتقاءً للبرد ومحبةً بها … صعدت الجبل.. الريح في وجهي تصفر .. أصارعها كي أخطو للأمام.. المسافة طويلة.. ما زالت الغابة بعيدة قليلاً …رأيت ضوء سيارة قادمة.. اختبأت على يمين الطريق… تابعت المسير بشق الأنفس… اعتقدت أنني لولا كنزتها الحمراء لما وصلت سالماً.. بدأ شعر رأسي ينتصب على قوائمه… إنه الخوف الذي تسلل إلى داخلي… قشعريرة تهز بدني وأشعر الآن بأن شيئاً مشابهاً لتلك القشعريرة يهزني… الريح تصدني والخوف يهدني ولم يعد هناك ما يساعدني على الاستمرار سوى تلك الكنزة الحمراء التي تحمل رائحة الحبيبة… أربع سنوات مضت ما زلت أشعر بأيديها عندما أمسكنا بأيدي بعضنا البعض ودموعها تنفر كالنبع.. ربما خوفاً أن تستيقظ أختها النائمة وربما خوفاً علي لأنني سأموت بسببها في تلك الليلة المـأساوية!
قلت لها: سأحبك ما دمت حياً ..
قالت: لن أنساك أبداً ..
أنهكني البرد والتعب والإنهاك وما عدت أسمع بأذني.. لففت رأسي جيداً بكنزتها الحمراء وأسندت ظهري ونمت قليلاً… استيقظت مذعوراً على صوت سيارة صاعدة باتجاه قريتنا… إنها السيارة التي تصعد إلى القرى الجبلية البعيدة لتجلب العمال… أعلنت تلك السيارة قرب انبلاج الصيباح فدبت الشجاعة في أوصالي ودخلت الغابة، الصنوبر على الجانبين، تبدو أشكال بعض الشجيرات مخيفة أحياناً… نظرت إلى الوراء… رغم الخلاف اتقد الحنين في صدري وصار الحنين جرحاً لا يندمل .. وصلت إلى القرية في الخامسة صباحاً… لم أذهب إلى بيتنا بل إلى بيت عمي، أيقظت زملاء الصبايا الذين سيذهبون إلى المدرسة.. فطرنا سوية وأرسلت لها الكنزة الحمراء معهم… للحبيبة… دلالة على أني وصلت ولم أمت!!
وبين أحاسيس متناقضة … السماء تمطر… قرعت الباب
ـ من؟
ـ أنا.
ـ تفضل.
دخلت وقد أنهكتني جراح الذكرى والحنين والكبرياء ..
البنات يتحلقن حول المدفأة في جو دافئ يذوب عذوبة وراحة وهدوءاً.. جلست معهن جميعاً..
أنبرت الحبيبة سابقاً قائلة:
ـ لماذا تأخرت؟
تماسكت وراء هدوئي المصطنع! ….وقالت بصوت واثق:
ـ هيا بنا إلى الغرفة الثانية من أجل أن تشرح لي بعض القواعد.
جلسنا قبالة بعضنا بعضاً وأخذت تنظر وتحدق بي.. فتحت كتاب اللغة وبدأت أشرح لها.. وضعت يديها على الطاولة وأسندت وجهها بهما وبدأت تطرح أسئلة شخصية عن الجامعة والزميلات.. كان قلبي المسكين المدمى والعاشق الولهان يقوده رأسي الصارم الذي يسيطر على الموقف ويفرض على لساني قيوداً شديدة.. بدوت كأني مشلول أمامها فأمسكنا بأيدي بعضنا البعض… دموعها تنفر كالنبع وأنا أتماسك وراء صمتي…قالت: أحبك .. سأحبك ما دمت حية!
قلت لها: لن أنساك أبداً …
وافترقنا… وما أن وصلت إلى نهاية الشارع وهي واقفة على باب بيتها حتى نادتني وسار كل منا نحو الآخر فهرولنا لنلتقي من جديد..
قالت: لا أستطيع فراقك..
قلت لها: وأنا أيضاً ..
ثم تعانقنا وافترقنا من جديد .. وبقينا أكثر من ساعة نفترق ثم نعود ونلتقي
كان ذلك هو اللقاء الأخير بيننا… الفراق صعب والوداع أصعب والغربة بينهما أكثر صعوبة, إن لم أقل أكثر مأساة.
** ** **
يتبع
اقرأ في الجزء الخامس من “خلية آب/ مطر الغياب”
** عام1988 عامٌ قاسٍ**
خاص – صفحات سورية –