“العلمنة والدين، الإسلام، المسيحية، الغرب” لمحمد أركون: هذا هو المفتاح هذا هو الباب
خالد غزال
تتوّج قضية العلمنة مشروع محمد أركون في “نقد العقل الاسلامي”، وتحتل موقعا مركزيا في جميع اطروحاته. يناقش أركون قضية العلمنة من زوايا مختلفة عمّا درجت عليه ايديولوجيات لم تر في الطرح العلماني سوى قضية فصل الدين عن الدولة، أو موقف سلبي من الدين نفسه، إذ يقترح مقاربات للعلمنة منفتحة وبعيدة عن الأدلجة أو الإختزالية، ويساجل بقوة مع المشاريع العلمانية التي جرى تطبيقها في العالم العربي والأوروبي، ويبيّن السلبيات التي حوتها، ويقدّم بذلك إلى الفكر الإسلامي وجهة متوافقة من منطق نقد العقل الإسلامي وقابلة لأن تساهم في تحرّر المجتمعات العربية والإسلامية إذا قيّض لها التطبيق. وفي هذا المجال يشكل كتابه “العلمنة والدين، الاسلام، المسيحية والغرب” الصادر عن “دار الساقي”، ترجمة هاشم صالح، تلخيصا لمجمل نظريته في هذا الموضوع.
يحدّد أركون فهمه للعلمنة بأنها “موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة. والعلمنة هي شيء آخر أكبر بكثير من التقسيم القانوني للكفاءات بين الذرى المتعددة في المجتمع. إنها أولاً وقبل كل شيء مسألة تخص المعرفة ومسؤولية الروح (أي الروح البشرية، الإنسان). هنا تكمن العلمنة أساساً وتفرض نفسها بشكل متساو وإجباري على الجميع. يصرّ أركون على ربط العلمنة بقضية الحرية وجعل المفهومين مترابطين، ويشدّد على رفض تحوّل العلمنة ايديولوجيا وظيفتها قولبة الفكر أو الحد من حريته. هي أحد تجليات الحداثة في مرحلتها المتقدمة، حيث يتميّز النظام العلماني باحترام الفرد وحرية الضمير، وضمان الحرية الدينية لجميع المواطنين من دون استثناء، إضافة إلى الإعتراف بالتعددية الدينية وبحرية الإعتقاد أو عدمه بما فيها الحق في تغيير الدين. كما أنّ الدولة العلمانية هي دولة حيادية تقف فوق الجميع وتعاملهم على قدم المساواة أمام القانون، لكونهم يمتلكون الحقوق نفسها ويترتّب عليهم الواجبات نفسها ايضا. والعلمنة، كذلك، “موقف للروح أمام مشكلة المعرفة: هل يحق للإنسان أن يعرف أسرار الكون والمجتمع أم لا؟ هل نثق بعقله في استكشاف المجهول وقيادة التاريخ أم لا نثق؟ هل هو قادر بواسطة عقله، عقله فقط، على فهم الأشياء واتخاذ القرار أم هو غير قادر؟”. يخلص أركون من ذلك إلى تبيان أنّ العلمنة وحدها هي التي تحرص على البعد الروحي الذي يحتاج اليه الإنسان، وتضع هذا البعد في مكانه الصحيح وتمنع المتاجرة السياسية به واستغلاله لأهداف سياسية أو غير نزيهة.
يوجّه أركون سهام النقد إلى المتطرفين علمانيا الذين يعتقدون بانتهاء دور الدين بعدما شهد العالم تطوراً علمياً إستثنائياً مكنه من الكشف عن الكثير من الغيبيات التي كانت تشكّل مبرراً للنص الديني. يميّز في هذا الصدد بين العلمانية التي طبّقت في أوروبا وخصوصا منها الفرنسية، والتي ترافقت مع نضال طويل ضد السلطة الكنسية وهيمنتها على العقل الغربي، وبين علمانيات أخرى عرفتها مجتمعات عربية او غربية. يشير إلى أنّ العلمانية الفرنسية تتيح لرجال الدين الإستقلال بشؤونهم العقائدية والروحية، بل تجعلهم ينصرفون إلى تعميق البحث وتطوير المفاهيم الخاصة بهذا الجانب بعيداً من إغراقها في الأمور السياسية، ومن دون أن يخشوا أيضا تدخّل السلطة السياسية في شؤونهم. في موازاة ذلك، يناقش أركون ما يسميه “العلمانوية المناضلة” التي تسعى جاهدة لإبعاد الدين عن الحياة العامة، وترفض الإعتراف بموقع الوحي ومدى التأثير الذي يتركه على “المسار التاريخي للشعوب والثقافات والنفسيات وأنظمة الفكر”.
يتطرّق أركون إلى التجربة العلمانية في تركيا التي قادها مصطفى كمال في الربع الأول من القرن العشرين، ويعتبرها التجربة الوحيدة “للعلمنة الجذرية في الإسلام”. فهي اتخذت منحى معادياً للتقاليد السائدة وسعت إلى الغائها بشكل عنيف، وهي في هذا المعنى كانت موقفا ايديولوجياً مغلقاً يشابه موقف رجال الدين والكنيسة في أوروبا. سعت علمانية أتاتورك إلى الهيمنة على الدين ووضعه تحت سلطتها، وهذا مناقض للمبدأ العلماني القائل بفصل المجال الديني عن المجال السياسي، ولكونها فرضت على الشعب “من فوق”، وبسبب طابعها المستورد من الخارج، ولكونها لم تأت نتيجة حركة تنوير فكري في المجتمع الإسلامي التركي كما حصل لأوروبا. لذلك كلّه لم تحظ هذه العلمانية بالتأييد الجماهيري وظلّت عملية خارجية. لذلك يمكن وصف العلمنة التركية بأنها “نضالية وجدالية أكثر مما هي منفتحة ومرنة”، وهي خطرة من الناحية العقلية والثقافية، لأنها لا تأخذ في الإعتبار “البعد الديني للمجتمع التركي ولا التعدّدية العرقية والطائفية للمجتمع المدني التركي”. وهذا ما يفسر العودة الى الصحوة الدينية في تركيا راهناً ووصول القوى الإسلامية فيها إلى السلطة بعدما تمكّنت من الحصول على الغالبية البرلمانية التي تعكس فعليا غلبة شعبية للإتجاهات الإسلامية في تركيا.
مما لا شك فيه أنّ الحركات الأصولية التي تتخذ من أركون موقفاً معادياً، وتسجّل غضبها على المنهج التاريخي الذي استخدمه في قراءة التراث الديني الإسلامي، تدرك جيداً أنّ ما يقول به سوف يوصل آجلاً أو عاجلاً إلى مرحلة من التقدّم يتحرّر الناس خلالها من هيبة رجال الدين وسيطرتهم على العقول، وإلى فصل الدين عن الدولة ووضع كل واحد في مكانه الصحيح، بما يعيد إلى الدين موقعه الروحي والأخلاقي وليس هيمنته على السياسة واستخدامه إياها في الصراعات السياسية فكرة مستوردة من الغرب، فإنّ هذا الفصل أتى حصيلة للتقدم وتحرير الإنسان واستخدام العقل في رؤيته لقضاياه. لذلك لا تقول العلمنة بمناهضة الدين أو السعي للحدّ من ممارسته في المجتمع، بل إنّ العلمنة في العالم الإسلامي مضادة لهذا الإستخدام الفجّ للدين في السياسة بما يخدم أغراضاً سلطوية ومنفعية خاصة وإنتهازية. في هذا المجال يُطرح سؤال حقيقي حول عوامل نهوض المجتمعات العربية والإسلامية في الميادين الفكرية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية. أي قيام نهضة وصراع يسمحان بمقارعة الثقافة التقليدية السائدة في جميع هذه الميادين، بما يمكّّن من الوصول إلى العلمانية كحصيلة منطقية لهذه التحولات، وليس بفرض العلمانية “من فوق” واعتبارها مجرد قوانين موضوعية باردة. لن تنشأ العلمنة وثقافتها في المجتمعات العربية والإسلامية إلاّ عبر هذا الصراع الداخلي الذي وحده يسمح بتحقيق هذا الحد من العلمنة بما يضمن تطوّرها لتصبح شاملة في ما بعد.
في مجتمعات عربية وإسلامية تغرق في لجّة الإنهيارات البنيوية، وفي عصر الحروب الأهلية المندلعة في هذه المجتمعات إلى هذا الحد أو ذاك من السخونة والبرودة، وفي زمن زحف الأصوليات بفكرها الخارج على التاريخ، وبممارستها الموصلة إلى تدمير المجتمعات المدنية العربية وإزالة قشور الحداثة والتحديث التي أمكن تحقيقها على امتداد عقود من تاريخها، يطرح الإصلاح الديني كمدخل أساسي لخروج هذه المجتمعات من القوقعة التي تقيم فيها. يبقى أنّ نقد العقل الإسلامي يشكل المدخل الذي لا مهرب منه للولوج إلى عالم هذا الإصلاح.