صفحات مختارة

الوعي ليس شرطاً لحرية الرأي

د. خالد الدخيل
من الأقوال التي يتم ترديدها من حين لآخر في العالم العربي أنه لا يمكن تبني وتطبيق الديمقراطية من دون أن يسبق ذلك تأسيس ثقافي وتعليمي في المجتمع لقيم التسامح، وقبول الاختلاف، والتعايش مع الرأي الآخر، وذلك بهدف تهيئة الأرضية الثقافية والسياسية في المجتمع لتقبل فكرة الديمقراطية، والإقبال على ممارستها بما يتفق مع روحها والمبادئ التي تستند إليها. وهذا صحيح، لكنه قد يكون من نوع كلام الحق الذي يراد به باطل. لأن المطالبة بالوجود المسبق لقيم الديمقراطية وأخلاقياتها قبل الأخذ بهذه الديمقراطية كنظام سياسي، يعني أن عملية الانتظار ستكون من دون نهاية في الأفق. الديمقراطية شرط للديمقراطية، بمعنى أنه لا يمكن زرع قيم الديمقراطية وأخلاقياتها في نظام غير ديمقراطي. هناك قول آخر مكمل للقول السابق، ويتمسك به البعض بقوة تصل إلى ما يشبه القناعة الدينية، وهو أنه لا يمكن السماح بحرية الرأي من دون أن يكون هناك “وعي شامل” لدى أفراد المجتمع، أو على الأقل لدى قطاع واسع من هؤلاء الأفراد. طبعاً ليس واضحاً هنا الوعي بماذا. لكن المفترض أنه الوعي بحدود الحرية، والشعور بالمسؤولية الذي يجب أن يترافق مع التمتع بهذه الحرية. كيف يمكن أن يكون هناك وعي في أي مجتمع من دون حرية رأي، وحرية تعبير؟ سؤال آخر: ما مدى صحة هذه الآراء التي تشترط الديمقراطية وحرية الرأي بشروط من غير جنسها؟ هل هي مبنية على تجربة عملية، واستيعاب لمضامين الديمقراطية والحرية ومتطلباتهما؟
أول ما يلفت النظر في مثل هذه الآراء أنها غالباً، إن لم يكن حصرياً، تأتي من داخل مجتمعات لم تعرف لا تجربة الديمقراطية، ولا الضمانات الدستورية لحرية الرأي والتعبير. وبالتالي فالأرجح أن هذه الآراء تمثل بشكل أو بآخر محاولة ملتوية تضمر تبريراً غير مباشر لحالة غياب الديمقراطية، وتقلص هامش حرية الرأي في هذه المجتمعات. الشيء الآخر اللافت أن هذه الآراء تتعامل مع فكرة الديمقراطية انطلاقاً من مبدأ يتمسح بمثالية مصطنعة تضع شروطاً تعجيزية، تؤدي في الأخير ليس إلى تعبيد الطريق أمام الديمقراطية وتهيئة المناخات أمام حرية التعبير، بل إلى سد المنافذ التي يمكن أن تتسرب منها مثل هذه الأفكار والقيم إلى المجتمع. الشيء الثالث أن هذه الطروحات تتعامل مع الديمقراطية وكأنها منجز جاهز وناجز، وليس عملية اجتماعية وسياسية تتبلور وتنضج داخل تجربة المجتمع، ووفقاً لظروفه وما يتهيأ له من من إمكانيات. وبما أن الديمقراطية حسب التصور المثالي المصطنع تبدو منجزاً جاهزاً، فالمنتظر في هذه الحالة أن يكون المجتمع هو الذي تقع عليه مسؤولية التكيف مع شروط ومتطلبات الديمقراطية، وليس العكس. وبما أنها منجز جاهز فإن تطبيقها ينبغي أن يكون بمثالية مرتفعة تؤدي مباشرة ومن دون عقبات إلى الدخول في جنة الديمقراطية، هكذا من دون أخطاء أو شوائب، أو مطبات، وأخطاء متراكمة. الديمقراطية في هذا المنظور تشبه الوصفة الطبية الجاهزة بشروطها ومواعيدها المحددة سلفاً. ومن دون الالتزام بتلك الشروط والمواعيد لن تؤدي الوصفة وظيفتها، بل قد تتسبب في كارثة أكبر مما يتوقع. ومن ثم فإن غياب الديمقراطية في هذه الحالة أفضل من التفكير في تبنيها. الشيء الرابع، واستكمالا للنقطة السابقة، وربما الأسوأ في هذه الرؤية، أن حرية الرأي والديمقراطية في هذا المنظور المثالي المدعى ليست من جنس الحقوق الطبيعية للإنسان، وإنما خيار سياسي يمكن الأخذ به عندما تتوفر الشروط المطلوبة لتبنيه، وتتوفر الظروف التي لا تتعارض مع الأخذ به. من يحدد هذه الشروط؟ ومن يحدد المشكلة التي تمنع من الأخذ بهذا الخيار؟ في الظاهر يفترض أن لا أحد يعرف إجابة واضحة على مثل هذه الأسئلة، خاصة في مجتمعات تفتقر لمؤسسات المجتمع المدني، والإعلام يتمتع بهامش واسع من حرية الرأي والتعبير، وقبل ذلك لسلطة تشريعية مستقلة. وبالتالي من الناحية النظرية، فإن شروط ومتطلبات الديمقراطية وحرية الرأي موضوع مفتوح للاجتهاد. لكن عملياً عادة ما يتم حسم الموضوع من طرف واحد، وهو الحكومة، أو النظام السياسي الذي يملك بين يديه كل السلطات. في هذا الإطار يكون تناول موضوع الحرية والديمقراطية من زاوية مثالية كهذه، ووضع شروط تعجيزية كتلك، هو بمثابة تبرير مسبق، وبالنيابة عن النظام السياسي بعدم الحاجة إلى، أو بعدم إمكانية الأخذ بخيار الديمقراطية، وضمانة حرية الرأي والتعبير، نظراً لعدم توفر الشروط والظروف المطلوبة.
هل صحيح أنه لابد من زرع ثقافة الديمقراطية في المجتمع كشرط مسبق للأخذ بها وتطبيقها؟ الإجابة من الناحيتين النظرية والتاريخية هي النفي. لأنه من المسلمات الاجتماعية أن زرع القيم والسلوكيات في المجتمع يتم من خلال التنشئة، والتعليم، وأيضاً من خلال الممارسة. والبيت في ظروف المجتمع الحديث لم يعد هو المؤسسة الوحيدة، بل ربما ليس المؤسسة الأهم التي تقع عليها مسؤولية ممارسة هذا الدور. فهناك المدرسة، والعمل، والجامعة، والمسجد، والنادي. وهناك الإعلام بكل أنواعه، وجماعة الأصدقاء… إلخ. وأغلب هذه المؤسسات إما تابعة للدولة، أو خاضعة لرقابتها. وإذا كانت الدولة، بالإضافة إلى ذلك، هي المجال الأول والأساسي للعملية السياسية في المجتمع، ومن حيث أنها في العالم العربي بشكل خاص تحتكر القرار على كل المستويات السياسية والاقتصادية والتعليمية والقانونية والأمنية، فإن الدولة هي المسؤول الأول والأهم، وإن لم يكن الوحيد الذي يجب أن يتحمل مسؤولية غياب قيم وسلوكيات ثقافة الديمقراطية في المجتمع. في مقابل السؤال السابق يبرز سؤال أهم: هل يمكن أن تزرع قيم الديمقراطية، وبذور الوعي بالمسؤولية المرتبطة بحق الحرية، في ظل نظام سياسي غير ديمقراطي، ويقاوم الحق في حرية الرأي؟ يضع هذا السؤال مرة أخرى مسؤولية غياب الديمقراطية عند أعتاب السلطة السياسية قبل غيرها. وبالتالي فإن الإصلاح المطلوب لتوفير شروط ومتطلبات الديمقراطية في المجتمع ينبغي أن يبدأ مع هذه السلطة السياسية، وليس في مكان آخر. وهذا يعني أن من بين أهم الأمور التي تفتقدها ثقافة المجتمع، وتعرقل تطبيق الديمقراطية هو موقف السلطة الرافض أو المقاوم لفكرة الديمقراطية. وبالتالي فالإصلاح المطلوب لتهيئة المجتمع لمبدأ الديمقراطية ومسؤولية الحرية، يجب أن يبدأ أولا من أعلى هرم المجتمع، أو السلطة السياسية، وليس من أسفل هذا الهرم.
من هنا، وحتى تكتمل بشكل واقعي معادلة إشكالية غياب الديمقراطية، لابد أولا من التعامل معها كإشكالية سياسية أولا، وليست إشكالية توضع مسؤوليتها على المجتمع، هكذا بشكل غامض ومبهم. ولابد ثانياً من الاعتراف بأن المشاركة السياسية حق سياسي، وأن حرية التعبير حق سياسي أيضاً، وأن كلا منهما ليس خياراً يجوز للسلطة أن تأخذ به أو تتجاهله تحت أسباب وذرائع لا يحدد طبيعتها إلا هي، ومن ثم لا يراها إلا هي. وثالثاً أن تتحمل السلطة مسؤوليتها في تهيئة وحماية الأطر الثقافية والقانونية التي تكفل وترعى عملية زرع قيم الديمقراطية في ثقافة المجتمع، والارتفاع بمستوى الوعي المطلوب لممارسة حق حرية الرأي والتعبير بين أفراده.
هذا من حيث المبدأ، لكن عملياً لا يمكن انتظار عملية التربية والتثقيف حتى تؤتي أكلها تماماً، ليبدأ بعدها الأخذ بنظام الديمقراطية، والاعتراف للفرد بحق حرية الرأي. تبني هذا الرأي يمثل مغالطة فادحة، وذلك لسبب بسيط، وهو أنه لا يمكن زرع قيم الديمقراطية، واحترام حدود ومسؤوليات حرية الرأي، وما يرتبط بهما من أخلاقيات، خارج إطار تطبيق الديمقراطية، والعمل بمقتضى حق الفرد في حرية الرأي. فالممارسة هي الأداة المكملة لعملية التعليم والتربية والتثقيف. ومن دون تطبيق للديمقراطية، وبشكل تدريجي، لا يمكن أن تنتشر القيم والأخلاقيات التي تتطلبها. هل يمكن القول، مثلا، بأنه لا يمكن أن يبدأ التعليم في مجتمع أمي قبل أن يتعلم أفراده مبادئ القراءة والكتابة؟ كيف يمكن أن يتعلم أفراد هذا المجتمع مبادئ القراءة والكتابة من دون مدارس، والانخراط في عملية تعليمية؟ وفي السياق نفسه: كيف يمكن نشر ثقافة الديمقراطية من دون الانخراط في عملية سياسية تأخذ بقيم وضوابط الديمقراطية؟ لا شك أن الديمقراطية ثقافة قبل أن تكون نظام إجراءات يحكم العملية السياسية. لكن هذه الثقافة والقيم التي تتأسس عليها لن تتبلور إلا في سياق سياسي يعمل على إيجاد هذه الثقافة، وتجسيدها داخل المجتمع.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى