صفحات مختارةموفق نيربية

صوت البيض المكسور

موفق نيربية
«لاحظ أحدهم أن الرجال والنساء كانوا يُقدّمون قرابين للعديد من الآلهة في العصور القديمة، وبدلاً من هؤلاء، أحلّ العصر الحديث الأوثان الجديدة: الإيديولوجيات، فأن أتسبب بالألم أو أقتل أو أمارس التعذيب هي أعمال مُدانة عن حق؛ ولكنني إذ لا أقوم بذلك خدمةً لمصلحتي الشخصية، بل لعقيدة في الاشتراكية أو القومية أو الفاشية أو الشيوعية أو التعصّب الديني أو من أجل التقدم أو إنجاز قوانين التاريخ، يكون كل شيء في مكانه. آمنت أغلبية الثوريين، بشكل مكشوفٍ أو مستور، أنه للتوصل إلى العالم المثالي لا بدّ من كسر البيض، وإلاّ فلا يمكن صناعة العجة… يتمّ تكسير البيض حتماً- بشكل عنيف غير مسبوق في زماننا- لكن العجة لاتزال بعيدة المنال، بل تستقر على مسافة يستحيل الوصول إليها. هذه أحد تجليات «الأحادية» غير الملجومة كما أدعوها؛ ويسميها البعض «التعصب»؛ لكن الأحادية جذر كلّ تطرف». إيزايا برلين- حول التعددية- 1998.
أصبحت أغلبية الناس المحكومين في منطقتنا بيضاً مكسوراً، يكاد يتفسّخ، وهو معذور حين يفعل، أنا نفسي ردّدت هذه الجملة الرهيبة حين كنت شاباً صغيراً، قبل أن يُقال إن هذا غير صحيح، وقبل أن يُقال أيضاً إن هنالك ما يشبه ذلك قد يحصل تحت غطاء شعارات الانتقال إلى الديمقراطية، نقول إنه صحيح كذلك، حين تتحول الديمقراطية إلى إيديولوجيا محضة، والليبرالية إلى عقيدة متطرفة ونخبوية لا ترى إلاّ ذاتها. ينتظر القوميون تحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين وتصفية الهيمنة وردّ العدوان عن خصوصيتنا الحضارية، ولا يرون مانعاً من تأجيل قضايا الإنسان والمجتمع الذي يعيشون فيه قليلاً، أو يتساهلون فيها أمام راهنية القضايا الأكبر التي لا تنفكّ جاثمةً فوق صدورنا. يُعجَب الحكام بهذه الطريقة، ويعتمدونها في سياساتهم الداخلية. وينتظر اليساريون- الأنقياء- زوال الإمبريالية وتحلّل الولايات المتحدة وفشل الرأسمالية، كما يعملون من أجل الدفاع عن خبز الفقراء والكادحين وحصولهم على حصتهم المشروعة من الثروة الوطنية. يربطون ذلك بمسألة الديمقراطية والحريات، بطريقة غائمة تحيلها عملياً إلى منزلة هامشية أمام كلّ طارئ، لا ينفكّ يطرأ. لا يمانع الحكام، ما دام ذلك خارج الصفحة التي تخصهم، أو ما دام يصلح للزينة والتشاوف واستعادة التاريخ وتزيين المائدة.
كما ينتظر الإسلاميون سطوع الحق الأبلج، الذي يدعم ويؤسس العالم الجديد-القديم كما يتصورونه أو يختارون خصائصه انتقائياً من بين التواريخ والتفسيرات المتعددة. والمسألة في النهاية «سياسة» قبل أيّ شيء آخر. أما حين يصلون إلى قضية الديمقراطية والحريات فيدعمونها بشروط تقعد بها، ويضعون فوقها ما يجعلهم فوقها، ويستخفّون بمسائل الظلم والقمع إلاّ توظيفاً، أو حين لا يمسّ بسياساتهم المعينة في اللحظة المعينة. أيضاً لا يرى الحكام في ذلك خطراً، ما بقي سلمياً لا يدخل حقلهم. في حين ينتظر الليبراليون أمواج الخارج العارمة، أو «وعي» الداخل وارتفاع مستواه العقلي والعقلاني ومعارفه الحديثة، والنظرة الفوقية لدى هؤلاء، المرتبطة في أذهان الناس بمنظر الغليون والقبعة الغربية والابتسامة الهازئة، تعادل قمعاً معنوياً، يضرب قيمة الحرية، بل يتساهل مع انتهاكها أيضاً على مذبح الشدة مع التخلّف، أو مذابح «العلمانية» حين تتحوّل إلى جهاد أو حرب مقدسة، والليبرالية حين تغدو مثالاً مطلقاً أو مجرداً. هذا أيضاً قد يخرج منه ندماء للسلطة، لا مناضلين ضد طغيانها وتخلفها عن سرعة دوران الكوكب. الغائب والضحية الكبرى هو البيض صحيحاً ومكسوراً، ذلك الشعب الذي ينشغل أيضاً بلملمة قشوره وكسوره، أو بما ينشغل به المنشغلون أعلاه، بعد اقتناعه بأن خلاصه باهتمامه بالآخر، وأن فوزه الروحي وانتصار «أمته» أكثر أهمية من قضاياه الصغيرة، التي لا تعدو التقدم والحرية والديمقراطية وتحديث الدولة والمجتمع، وضمان حقوقه في العيش الحر الكريم.
تحتاج المسألة إلى رؤية تنطلق من قيمة التعددية، ومفهوم المواطنة التي تعني نظاماً للحقوق والواجبات بين الدولة والفرد، وقيمة المسؤولية عن العمل المباشر من أجل ذلك، بل الاستعداد لتحويل بعض التضحيات العرضية إلى تضحياتٍ ذات معنى.
تحتاج أيضاً إلى إرادة، أصبح افتقادها سبباً في كلّ خسارةٍ للزمن. هذه الإرادة بديل ضروري للتذمّر والشكوى، لكنها لا تأتي بإرادة أيضاً، بل تنبع من أرضها، وفي ظروفها. لابدّ أنها سوف تتشكّل في أيام لا يتوقعها أحد ولا يستطيع التنبؤ بها، إلاّ من أسعفته المصادفة الخلاقة.
بعد الإرادة هنالك الهمة والعزيمة والفعل، وعندئذٍ يغدو كلّ شيء ممكناً… قد يكون ذلك حلماً، ولا مانع من اعتباره كذلك، ما دام لا يعني النوم، فلسنا بيضاً مكسوراً إلاّ استعارة أو كناية.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى