المشهد المكتمل بعد 7 حزيران
سليمان تقي الدين
اكتملت صورة المجلس النيابي العتيد مع اكتمال اللوائح والتحالفات والشعارات والبرامج. ونكاد نقول إن رئاسة مجلس النواب والحكومة المقبلة كذلك. حسم القانون الانتخابي الجزء الأكبر من النتائج وحسمت التحالفات الباقي. اتفاق «الدوحة» يعيد تشكيل السلطة في لبنان، بما عكسه من توازنات في الداخل والخارج. سقطت مقولة الشعب مصدر السلطات. هناك مجلس وكلاء الطوائف أو مجلس ملّي هو الذي يقرّر مصير البلاد. النظام اللبناني محكوم بالوصاية ولن يخرج منها إلا بإزالة ركائزه الطائفية وإطلاق المبدأ الدستوري الأساس في الديموقراطية: الشعب مصدر السلطات.
طالما نحن في نظام طائفي فالهواجس المتعلقة بالتوازنات والحصص مشروعة، بل هي محرّك كل النزاعات والمنافسات. الحديث المتجدد اليوم عن المناصفة والمثالثة لا يخرج عن منطق النظام. عملياً نحن في ثنائيات طائفية متقابلة تكوّن الموالاة والمعارضة. وإذا كان من وصف صريح لاتفاق الدوحة في شقه السياسي فهو قائم على احترام مرجعية المشاركين كلٌ في طائفته ومذهبه، ورسم حدوداً واضحة للاختراقات ومحاولات التدخل.
الأكثريات الطائفية أو المذهبية في كل دائرة انتخابية هي التي تقرّر مصير الدائرة الانتخابي، ولم يشفع وجود بعض الضحايا والحرص لدى بعض الأطراف لإنقاذهم بتفاهمات لاحقة في معالجة تفاصيل في هذه الدائرة أو تلك. فلم يكن ممكناً القبول بأشكال من الشراكة خرقاً لقاعدة الحصرية وإلا كان قبل المؤتمرون في «الدوحة» النظام النسبي وجنّبوا أنفسهم أولاً هذه المشادات والمعارك الثانوية.
على أي حال ما كُتب قد كُتب والأزمة مفتوحة منذ الثامن من حزيران على توزيع السلطة لأننا أمام مطلب صريح ماروني في استعادة الدور الفاعل وشيعي في تكريس المشاركة. ولا نعرف نظاماً مركباً من مجموعات طائفية يستطيع أن يدير نفسه بعدة رؤوس ومرجعيات ومواقع نفوذ وتأثير متقابلة وسلطات دستورية متعارضة غير متعاونة. فلا المساواة ممكنة فعلاً ولا الغلبة ممكنة عملياً. وما يمكن أن تعالجه المؤسسات ينقضه الشارع. لكن الأدهى هو أن لدى المجموعات الطائفية وممثليها مشاريع سياسية تعلن صراحة عن رغبتها في تعميمها في عملية صراعية مفتوحة.
لسوف نشهد الكثير من تكسير الفخّار على طريق امتحان احتمالات التغيير الموعود، حتى لو كان هذا التغيير محصوراً في جملة من المطالب الإصلاحية التي تهم جميع اللبنانيين، كإصلاح القضاء أو مكافحة الفساد، أو مراقبة الإنفاق وترشيده أو إعمال مبدأ المساءلة والمحاسبة. لكن كيف ستكون الأمور مع إعلان الرغبة في الانتقال إلى «الجمهورية الثالثة» وما تعنيه من تعديلات دستورية وإعادة نظر في الصلاحيات أو حتى إعادة تنظيم وتقنين المؤسسات. ومن الواضح أننا أمام مشروعين سياسيين يغتذيان من نزاعات المنطقة التي لم تحسم بعد وجهتها ولن تحسم هذه الوجهة قبل إيجاد حل عادل لقضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، مهما شهدنا من حوارات وهدنات وتفاهمات. ولا يمكن توفير الحماية للبنان والاستقرار الأمني والسياسي وبالتالي الإنعاش الاقتصادي إلا بإجماع وطني على قواعد ومعايير ومسلمات توفر الضمانات لجميع الفئات وتوسّع قاعدة الحقوق الخاصة بالمواطنين العابرين لشبكة المصالح الطائفية. نظرياً هذا الأمر ممكن من خلال تطبيق «الطائف» ما بعد مرحلته الانتقالية التي أقرت المناصفة تمهيداً لتجاوزها. لكن الإصرار على البقاء في المحاصصة الطائفية مهما كانت طبيعتها، لن تشكّل قاعدة للوحدة الوطنية. ولسنا نجد اليوم قوى تحمل مشروع الدولة بهذا المعنى رغم الترداد المبتذل لهذه الفكرة وهذا المطلب.
إذا كانت الأمور على هذا النحو فلن تكون المؤسسات الدستورية إطار الحوار الوطني وحل المشكلات، بل ستزداد الحاجة أكثر إلى هيئة الحوار التي ينبغي إعادة تكوينها على صورة ومثال المجتمع اللبناني وبالتالي على نطاق أوسع من حدود الشركة الخماسية التي تتوزع السلطة.
إن معيار النجاح في هذه المهمة هو الاعتراف للبنانيين بمشاركتهم من داخل ومن خارج الأطر الطائفية. إذا لم ينكسر هذا الحصار الطائفي فعبثاً نبحث عن صيغة لبناء لبنان الدولة والوطن، وسنظل نعيش في الهدنات الطائفية والمصالحات المحكومة بالوصاية مهما تبدلت مرجعياتها، من «الطائف» إلى «الدوحة» وغداً في مدن أخرى. ولن تكون سيادة مهما ادّعاها البعض إلا بتحرير الإرادة اللبنانية من القوى التابعة ومن نظام التبعية الطائفي والولايات غير المتحدة التي يعمق وجودها اليوم.
السفير