صفحات العالمما يحدث في لبنان

الأمن والانتخابات والدولة المستضعفة

سليمان تقي الدين
حصاد الصحوة الأمنية المفاجئة العديد من شبكات التجسس الإسرائيلية. الأمن قرار سياسي بالدرجة الأولى، ومن ثم معلومات وتقنيات. من الواضح أن السلطة انتبهت للخطر الإسرائيلي خاصة في لحظة نشاط هذه الشبكات بالتزامن مع المناورات الإسرائيلية الضخمة والشاملة التي تنطوي على احتمال عدوان واسع أو عمل عسكري ما.
في مسألة الأمن الوطني لدينا تاريخ طويل من المعاناة. منذ الانتفاضة الشهيرة على جهاز الشعبة الثانية العام 1970 فقدنا الوجهة السياسية بالدرجة الأولى ثم فقدنا التنظيم الفعّال. وبعد فوضى الحرب لجأنا إلى الأمن المستعار. لكن الاختراق الإسرائيلي لم يكن ظاهرة فردية وعابرة. لقد استطاعت إسرائيل أن تؤطّر مجموعات كبرى وأن تتعاون مع أحزاب وجماعات. فقد المجتمع اللبناني خلال الحرب المناعة الوطنية. لم تساهم الدولة في مواجهة هذه الظاهرة على المستويين السياسي والأمني. «عفا الله عما مضى» أغلق الملفات على زغل وعلى الجراثيم الممتدة في الجسم اللبناني.
أخشى ما نخشاه أن مطاردة «العملاء» ما زالت مقتصرة على مستويات معينة، ومكافحة هذا الوباء ليست بالمستوى المطلوب. ثمة بيئة سياسية تزدهر فيها العمالة. ثمة مناخ سياسي مريض سهّل هذه الانزلاقات. ثمة خطاب سياسي وسلوك أسقطا الحرم عن إسرائيل، ورفعا عنها الحظر الوطني وثقافة العداء والمواجهة. على الأقل هناك مَن برّأ ساحتها من الاشتباه بالجرائم الكبرى ومَن أعلن صراحة مهادنتها حتى لا نقول التصالح معها.
السياسة عطّلت القانون، عطّلت المسلّمات الوطنية، جوّفت قانون العقوبات وجوّفت معاني الوطنية. نحن الآن مجتمع في ضياع، منقسم، بل مشتّت إلى هويات طائفية ومذهبية وعائلية وحزبية لا يجمعها وثاق.
الدولة أعجز من أن تنظم السير فكيف بالدفاع عن الوطن! من مظاهر الاهتراء الذي يصعب ضبطه وتنظيمه فوضى الانتخابات العارمة.
في العادة أن القوانين ضابط السلطة. لدينا قوانين عصرية ولا نملك سلطة تطبيقها. الهيئات المشرفة على الانتخابات الرسمية والأهلية والدولية تحصي المخالفات في الخطاب السياسي في المؤسسات الإعلامية وعبر «الجرائم الانتخابية» الأخرى، الرشوة والتزوير واستخدام واستغلال السلطة… إلخ. هذه ليست انتخابات، من بابها إلى محرابها. الانتخاب تعبير عن إرادة حرة واعية. تسعى القوانين إلى توفير المناخ الملائم للتعبير عنها. لا يمكن أن تكون انتخابات بهذا المعنى ووفق هذه المقاييس والمعايير في ظل التجييش الطائفي والمذهبي واستحضار لغة الدم والقتل والثأر. ليست انتخابات هذه التي يسود فيها منطق الخوف والتخويف وتدخل المرجعيات الدينية والمال السياسي والسلاح الظاهر والمخفي. هذه ليست ديموقراطية التي فرزت المواطنين بين أربع مقاطعات طائفية ومذهبية وسياسية.
إذا نحن انطلقنا من المخالفات التي سجلتها الهيئة المشرفة الرسمية وهيئات المجتمع المدني، فقد صارت هذه الانتخابات باطلة من أساسها، قبل أن تصل إلى رقابة المجلس الدستوري المعطّل من أجل التوافق على تعطيله أصلاً بتحويله إلى أحد المجالس الملية السياسية.
كيفما تناولنا مشكلات البلد نصطدم بالجدار الطائفي. قد تكون لدى هذه الفئة أو تلك الكثير من الأفكار والاقتراحات الإيجابية لكنها لا تصرف في الحساب الطائفي. العلة ليست في «الديموقراطية التوافقية» التي يسميها البعض بسذاجة أو خبث «هرطقة دستورية». إنها تجميل لفظي واضح لصيغة المشاركة بين المجموعات. مَن يسعَ إلى تجاوزها يجب أن يفكّر بالبديل الفعلي الذي يؤمّن تفعيل إرادة جميع اللبنانيين، وليس لدينا من وصفة لذلك حتى الآن إلا المساواة في الحقوق والواجبات التي ينهض عليها المواطن الحر المستقوي بدولة القانون على حساب ملاذه الطائفي. من دواعي العجب أن ينتقد مثقفونا أو متكلّمونا «التوافقية» وقد تخلوا عن نقد الطائفية. التوافقية صيغة عرجاء لإدارة البلد، أما الطائفية فهي صيغة لتدميره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى