81 قصيدة تصبح ركائز ديانة
بعد عشرين عاماً من ولادة بوذا، ولد في الصين حكيم آخر، سوف يقود هذا ايضاً البشر نحو الخلاص: انه لاوتسو، اي “المعلم العجوز”. أوجه الشبه بين تعليمه وتعليم بوذا كبيرة. وفي الاجيال اللاحقة، درج أتباع التعليمين على تبجيل حكماء الطرفين، واستعمال الرموز ذاتها. عند لاوتسو، الاشراق هو الاتحاد بالتاو السموي، وعند بوذا، هو تحقيق النيرفانا. وكلا الطريقين يجمعان بين الفلسفة والدين والتحرر، مما يشجعنا على ربطهما معا. فإذا كان لاوتسو انطلق من التأمل في التناغم الطبيعي لتحديد الخطوط العريضة للتاوية، فإن بوذا استمد تأمله من ألم الانسان. وكلا الحكيمين قد استوعبا أفكاراً، كان لهما قبلهما، تاريخ طويل. الا ان الطريق الذي سلكاه في تعليمهما للتوصل الى التحرر، كان من اجتهادهما الخاص. كلا المعلمين كانا يريان ان مختلف أوجه الحقيقة، انما يصدر من “الفراغ”. كلاهما يعترفان بخداع الظواهر. غير ان لاوتسو لم يكن يشدد كثيرا على الألم الملازم للظواهر. وهما متفقان على النصح باتباع الدرب الذي يتجنب الحدود القصوى، وينبذ الثنائية. واذا كان البشر عند بوذا، مرتبطين بالألم، ما لم يبلغوا النيرفانا، فإن الكون عند لاوتسو، معرّض للتغيرات المتواصلة التي هي تجلّي أحدية، التاو السموي. كل شيء يحركه هذا الاحساس الأساسي بهذه الاحدية التي سيعود اليها يوما ما. فالموت لا يُحدث اي قطيعة مع التاو السموي. الموت ليس سوى حركة، سوى تغير. والعودة الى “الفراغ”، الى “التاو”، هي المسعى الاخير، ونهاية تعاليم الحكيمين بوذا ولاوتسو. ولكن، إن تكن سيرة بوذا معروفة، فإننا لا نعرف عن لاوتسو سوى القليل. وهذا القليل غير مؤكد. وحتى اسطوري. على ان المتفق عليه تقريبا، انه ولد في عام 571 او 300 ق. م. ويُروى انه شغل وظيفة امين لوثائق القصر الامبراطوري في العاصمة. وشاهد سقوط سلالة تشو الحاكمة. وحين لاحظ عجز التعليم في وجه انهيار القيم وبطء تفكك القوى الروحية، آثر الانسحاب من المجتمع، ليحقق توحده مع التاو السموي. فاجتاز السهول والحقول على ظهر ثور اسود، متبعا طريق الإشراق، حتى بلغ جدار الصين العظيم. وفيما كان يتهيأ لاجتيازه، تقدم منه قائد الحرس، ورجاه ان يبقى. وامام اصراره على الرحيل، سأله ان يكتب له تعليمه ليسترشد به. فاستجابه. وفي غضون ايام نظم 81 مقطوعة شعرية من خمسة آلاف كلمة، تجمع بين الشعر والحكمة والفلسفة، بأسلوب موجز، يسود معظمها الغموض، حتى لقد استخلص المفسّرون من دراستها نتائج يباين بعضها بعضا. وبعد جمع هذه المقطوعات في زمن لاحق، نُسّقت ورُقّمت وسمّيت “تاو تو كنغ” اي “كتاب الطريق والفضيلة” Tao To King (او كتاب الطريق وفاعليته، بحسب ترجمات اخرى). وبعد القرن الميلادي الاول تقريبا تحول هذا الكتاب الذي اجمع الصينيون على تقديسه الى ركائز ديانة رسمية، هي: التاوية. وهذه ظاهرة يتيمة، على حد علمي، في تاريخ الحضارات العالمية، يكون فيها للقصيدة هذه الطاقة العجيبة التي تحملها الى مراتب القداسة. وان هذه الطاقة الشعرية التي تصبغ هذا العمل المقدس، الى جانب فكرة التغيّر او التحول، ما أغراني بالحديث عنه. يقول الملمّون باللغة الصينية، ان قراءة هذا الكتاب في لغته الام، جد ممتعة. ومن يطلع عليه، لا يحار كثيرا في معرفة سر هذه المتعة، وأعني به تلك الطاقة او الصبغة الشعرية التي تسوده، والتي قلما يركّز عليها الباحثون والمفسرون، ولا اعلم لماذا؟ هل صغرت طاقة الشعر فيه، الى جانب الطاقات الأخرى التي يحفل بها هذا الكتاب، في نظرهم؟ اخال ان وفرة المقاطع “الاسرارية” المسبوكة في ايجاز ايحائي رفيع ذي ابعاد، هي التي كانت وراء انقاذ هذا الاثر من الانطفاء الذريع. لنقرأ معا: “خالدة هي روح الوادي./ هنا تقيم الانثى الغامضة./ وفي باب الانثى الغامضة، يقيم جذر السماء والارض”. ولنقرأ ايضا: “هذا الجوهر الواحد يسمى الظلمة./ إظلام هذه الظلمة، هو باب كل الافكار الدقيقة”. وايضاً: “إعرف الذكوري/ والتحق بالأنثوي/ وكن وادي العالم،/ فكل من هو وادي العالم/ لا تهجره الفضيلة الثابتة/ ويعود الى حالة الطفولة”، وغيرها كثير من الشواهد. اما من حيث النقطة الثانية، وهي مبدأ الحركة والتغيرات الدائمة لكل الاشياء، فإنها من الأفكار الصينية القديمة. قبل لاوتسو بزمان، عرف المفكرون الصينيون هذا المبدأ واعتبروه محرّك العالم ورديفاً للحكمة العليا. وكان معينهم الأول الـ”يي كنغ” Yi King اي “كتاب التغيرات”. وهو من اقدم الكتب الصينية المقدسة التي كانت سبب التطورات اللاحقة للفكر الصيني. وقد تأثر به لاوتسو بشكل واضح. وحين اخذ الغرب يتجه الى كنوز الشرق، افاق من نرسيسيته، وادرك ان هناك فلسفة في الشرق طالما اهملها. فمن هيغل، الى هايدغر، الى آخرين عديدين من المفكرين، والاعتقاد السائد ان الفلسفة لا تتكلم الا اليونانية، وانها لا تمارس وظيفتها كاملة الا في الغرب. وحدها اليونان موطن “اللوغوس”، ومن تبقّى من الشعوب لم يحبل بغير الاحلام والهذيان. لرأب هذا الصدع في الفكر الغربي، اخذت تتوالى الدراسات الشرقية والترجمات. ولعل اهمها ترجمة الـ”يي كنغ” الذي راج على الأخص في الولايات المتحدة الاميركية، وكان رفيق الهامشيين في اوروبا. لكن ما يلفتنا بنوع خاص، هو فكرة التغير المسيطرة عليه. واذا ما عرفنا انه أُلِّف في عام 3322 ق. م. يكون تقدم على هيراقليطس (500 ق. م.) بمئات السنين، في شأن مبدأ السيلان العام Flux الذي عُدّ اكتشافاً فلسفياً كبيراً في تاريخ الفلسفة الغربية وحكرا على اليونان طوال اجيال. “ليس ثمة مستقبل. ثمة دفق ابدي للحاضر”. على هذه الحقيقة، بل على اختبار هذه الحقيقة، تأسس الـ”يي كنغ”. ونقرأ كذلك في الحاشية الرابعة، الفقرة السادسة منه: “الرجل العظيم هو ذلك الذي يكون في انسجام بصفائه مع السماء والارض، وبتألقه مع الشمس والقمر، وبخطواته المنسقة مع الفصول الاربعة…”. ونجد هنا ايضاً انه يسبق الفلسفة الرواقية اليونانية القائلة: “عش منسجماً مع الطبيعة”. اكتفي بهذا القدر من حديثي. فغايتي تقتصر على أن اشير فقط الى اضمامة قصائد أخذت طريقها الى التقديس لتصبح ديانة. والى مبدأ التغيّر الذي أزاح هيراقليطس عن عرشه في مدوّنات الفكر الغربي. وقد اعتمدت في نقل المقطوعات الآتية من كتاب لاوتسو، “تاو تو كنغ”، على الطبعة الفرنسية الصادرة عن دار “غاليمار”، سلسلة بلياد، اشراف اثييامبل المعروف بتضلعه من لغات عدة، من ضمنها الصينية، وعلى طبعة الـ”يي كنغ” الصادرة عن “دار دونويل” الفرنسية.
I
التاو الذي يمكن أن نحدّده
ليس التاو الأبدي.
الاسم الذي يمكن أن نسمّيه
ليس الاسم الأبدي.
مَن بلا اسم: مصدر السماء والارض.
مَن له اسم: أُمّ جميع الكائنات.
وهكذا عبر العدم الثابت
نتوخّى التأمل في سرّه،
وعبر الكائن الثابت
نتوخّى التأمل في منفذه.
هذان الاثنان الناجمان عن جوهر واحد
لا يختلف أحدهما عن الآخر الاّ بالاسم.
وهذا الجوهر الواحد يُسمّى الظلمة.
إظلام هذه الظلمة،
هو باب كل الافكار الدقيقة.
II
يعرف كل الناس أن الجمال جميل.
وهذا ما يشكّل قبحه.
ويعرف كل الناس أن الخير خير.
وهذ ما يُشكّل نقصه.
الوجود والعدم يتوالد أحدهما من الآخر.
السهل والصعب يتكاملان.
الطويل والقصير يتشكلان أحدهما من الآخر.
العالي والوطيء يتلامسان.
الصوت والرنين يتناغمان.
القَبْل والبَعد يتلاحقان.
لذا يعتمد الحكيم
عدم العمل
ويمارس التعليم بدون كلام.
وتنبثق كل الكائنات
بدون أن يكون صانعها.
إنه ينتج ولا يتملّك.
يعمل ولا ينتظر شيئاً.
وبعد أن يُنجز عمله، لا يتمسك به.
ولأنه لا يتمسك به،
عمله لا يزول.
III
لا تُكرّم الحكماء،
لئلا يتنازع عليهم الشعب.
ولا تقدر خيرات مُكتسَب عسير
لئلا يسرقها الشعب.
ولا تعرض ما يثير الاشتهاء
لئلا ترتبك الضمائر.
قوام حكم الحكيم أن يُعرض عن
عقول الناس،
ويملأ بطونهم،
ويُضعف طموحهم،
ويقوّي عظامهم.
الحكيم يعمل دوماً بحيث
لا يحوز الشعب معرفةً ولا رغبة.
كما يعمل بحيث لا تجسر
طبقة الاذكياء على العمل.
إذذاك لا شيء يخرج على الحكم.
IV
التاو الفارغ الذي نستعمله
لا يمتلئ أبداً.
يتعذّر سبره كهاوية،
ويبدو أنه مصدر كل الكائنات.
إنه يُثلِّم شِفارها،
ويحلّ كُبَب خيوطها،
ويصهر أضواءها،
ويوحّد ترابها.
عميقُ هو، ويبدو أنه دائم أبداً.
لا أعرف ابن مَن هو:
الظاهر أنه جَدّ الآلهة.
V
السماء والارض بلا رحمة:
إنهما تعاملان كل الكائنات مثل كلابٍ من قش.
والحكيم بلا رحمة:
إنه يعامل الشعب مثل كلبٍ من قش.
أليس الخلاء بين السماء والارض
أشبه بكُور حدادة؟
إنه لا يفرغ أبداً،
برغم فراغه من الداخل.
كلما حرّكناه، ازداد زفيره،
وكلما تكلمنا، وقعنا بسرعة في المأزق.
الأفضل أن ننطوي على ذواتنا.
VI
خالدةٌ هي روح الوادي.
هنا تقيم الأنثى الغامضة.
وفي باب الأنثى الغامضة،
يقيم جذر السماء والارض.
بارعةٌ ومتواصلة هي، وخالدة كما يبدو.
عملها لا ينضب أبداً.
VII
السماء تمتد والارض تدوم.
وإن تستطيع السماء أن تمتد والارض أن تدوم،
فلأنهما لا تعيشان لنفسيهما.
لذا، يمكنهما أن يمدّدا وجودهما
هكذا يضع الحكيم نفسه في المؤخرة،
لكنه باقٍ في المقدمة.
إنه يُهمل أناه،
وأناه تُعنى بحاله.
أليس لأنه مجرّد من حب الذات،
يستطيع اذاً أن يصون منافعه الخاصة؟
VIII
الطيبة السامية كالماء
القادر على حِباء كل الكائنات
ولا ينافس أياً منها.
وهو إذ يشغل الموضع الذي يأنف منه
كلُّ انسان،
إنما يكون جدّ قريب من التاو.
إنه يشغل البقعة المناسبة؛
قلبه كامل كهاوية؛
يعطي بمحبة تامة؛
يتحدث بأمانة تامّة؛
يحكم بنظام تام؛
يؤدي دوره بقدرة تامة؛
ويعمل في الاوقات المناسبة.
ولعدم تنافسه مع أحد،
فلا مأخذ عليه.
IX
من يمسك كأساً مترعة ماءً،
ليس كمن يرفضها.
السيف الذي نطرّقه ونشحذه
لا يمكن أن يحتفظ طويلاً بحدّه.
غرفة ملأى بالذهب واليَشب
لا يمكن أن يحرسها أحد.
من يتباهى بثرائه وأمجاده
يجتذب المصيبة.
ما إن تُنجز عملك، اعتزل:
تلك هي شرعة السماء.
X
إذ تُعانق الوحدةَ ذاتُك الروحية
وذاتك الجسدية،
هل يمكنك ألاّ تتخلى أبداً عن وحدتك؟
إذ تركّز طاقتك وتبلغ
الليونة، هل يمكنك أن تصير مولوداً جديداً؟
إذ تنقّي نظرتك الأولية،
هل يمكنك أن تكون بلا دنس؟
إذ تُحبّ شعباً وتحكم دولة،
هل يمكنك ألا تعمل؟
إذ تفتح أبواب السماء وتُغلقها،
هل يمكنك أن تقوم بدور الأنثى؟
إذ تعرف كلّ ما يدور
داخل أطراف العالم الأربعة،
هل يمكنك الإستغناء عن كل معرفة؟
أَنتجْ وارعَ:
أَنتجْ بدون تملّك،
واعملْ بدون انتظار شيء،
وقُدْ بدون إكراه،
هي ذي الفضيلة الأوليّة.
XI
ثلاثون شعاعاً تتلاقى في قبّ دولاب
لكنّ الفراغ المتوسط
هو الذي يخوّل العربة أن تقوم بعملها.
نضع الخزَف لنشكّل منه أواني،
لكن استعمالها،
رهن فراغها الداخلي.
تُفتَح في مسكنٍ
أبوابٌ ونوافذ،
لكنّ الفراغ أيضاً
ما يسمح باستعمال المسكن.
وعليه، فإنّ “ما له وجود” يُكوِّن
قدرةَ كلّ شيء؛
بينما “ما لا وجود له” يُكوِّن وظيفته.
XII
الألوان الخمسة تُعمي
نظر الأنسان،
الأنغام الخمسة تُصمّ
سمعَ الأنسان،
الطعوم الخمسة تُفسد ذوق الأنسان،
السباقات ورحلات الصيد تُضِلّ
قلبَ الأنسان،
والبحث عن الكنوز يُحرّض
الأنسانَ على اقتراف الشرّ.
لذا يهتمّ الحكيم بالبطن
لا بالعين (يرمز البطن الى متطلبات الإنسان الطبيعية، وترمز العين الى الرغبات الاصطناعية التي يختلقها ذكاء الإنسان).
لذا يدع هذه،
ويختار ذاك.
XIII
“الحظوة وزوال الحظوة
أشبه بمفاجأة”.
“أَكرم مصيبتك العظيمة
كما تكرم جسدك”.
ما معنى “الحظوة وزوالها
أشبه بمفاجأة”؟
الحظوة ترفع وزوالها يخفض.
من ينال الحظوة
يبدو كأنه فوجئ؛
ومَن يفقدها يبدو أيضاً
كأنه فوجئ.
هذا هو معنى “الحظوة وزوالها
أشبه بمفاجأة”.
ما معنى “أكرمْ مصيبتك العظيمة
كما تُكرم جسدك”؟
أي أنّ لي جسداً،
فلو لم يكن لي جسد،
فبأيّ مصيبة قد أُبْْتلى؟
هكذا، كلّ من يُكرم جسده
من أجل الناس يمكنه التوكّل على الناس؛
ومن يحبّ جسده من أجل الناس
يمكنه الوثوق بالناس.
XIV
ننظر اليه، ولا نراه،
فنسمّيه اللامنظور.
نصغي اليه، ولا نسمعه،
فنسمّيه اللامسموع.
نلمسه، ولا نحسّه،
فنسمّيه اللامحسوس.
هذه الحالات الثلاث ذات الجوهر الطلسمي،
تمتزج أخيراً في حالة واحدة.
وجهه الأعلى ليس مشرقاً،
وجهه الأسفل ليس مظلماً،
سرمديّ، ولا تمكن تسميته.
وعليه، فهو ينتمي الى مملكة اللاأشياء.
إنه شكلٌ بلا شكل، وصورة بلا صورة.
إنه هارب ويتعذّر إمساكه.
نقابله، ولا نرى رأسه،
نتبعه ولا نرى قفاه.
فمن يملك تاوَ الزمنِ الغابر
يهيمن على الحوادث في أيامنا.
إنّ القدرة على معرفة ما كان في البدء،
هي عقدة التاو.
XV
القدماء الذين تمرّسوا بالتاو،
كانوا جدّ نُبهاء، جدّ بارعين،
وجدّ أُصلاء، وجدّ شاملين،
بحيث لا يمكننا أن نسبر أعماقهم.
ولأننا لا يمكننا أن نسبرهم،
نجهد لكي نتصوّرهم.
كانوا محترسين كمن يعبر
نهراً في الشتاء؛
حذرين كمّن يتخوّف من جيرانه؛
محتشمين كمدعوّ الى مأدبة؛
متحرّكين كجليد على وشك أن يذوب؛
منكمشين كقطعة خشب خام؛
مضطربين كماء موحل؛
وواسعي الجوانب كالوادي؛
فمن يستطيع أن يُسكّن الماء الموحل،
يصبح هذا الماء صافياً تدريجاً.
ومن يستطيع أن يحرّك الماء الصافي،
يصبح هذا الماء منعشاً تدريجاً.
ومن يحتفظ في ذاكرته بهذه المقاييس،
لا يشاء أن يكون مليئاً.
ولأنه لا يشاء أن يكون مليئاً،
يمكنه أن يتحمّل الاستعمال بدون أن يتجدّد.
XVI
توصّلْ الى ذروة الفراغ،
واحتفظ بحميّة صفائك.
أمام الهيجان المتزامن
لجميع الكائنات،
لا تتأمل الاّ في عودتها.
سيعود كل من كائنات العالم
المتعدّدة الى جَذْره.
والعودة الى الجَذْر، تعني الصفاء؛
وأن تكون صافياً، يعني أن تعثر على القدر.
والعثور على القدر، يعني الدائم.
ومعرفة الدائم، تعني الإشراق.
مَن لا يعرف الدائم
يتسبّب بتعاسته بغير ما تبصّر.
ومَن يعرف الدائم يحيط بكل شيء.
ومَن يحيط بالاشياء يمكنه أن يكون شاملاً (في روحه).
ومَن هو شاملٌ يمكنه أن يكون مَلكيّاً.
ومَن هو ملكيّ يمكنه أن يكون سموياً.
ومَن هو سموي يمكنه أن يتّحد مع التاو.
ومَن يتحد مع التاو يمكنه أن يعيش طويلاً.
فلا يتعرّض للتهلكة
حتى آخر العمر.
XVII
الرئيس الأعلى هو ذاك
الذي يعرف الشعب أنه موجود.
ثم الذي يحبّه
الشعب ويمدحه.
ثم الذي يخشاه ويحتقره.
فإن تكن ثقة (الامير بالشعب)
غير كافية،
يفقد (الشعب ثقته بالامير).
وإن احترس (الرئيس الأعلى)
من الكلام، مستغرقاً في تفكيره،
عند إنجاز عمله،
وتأدية مهمته،
يقول الشعب: “ذلك ما صدر عني تلقائياً”.
XVIII
حيث ينهار التاو العظيم،
تمثُل العدالة الانسانية.
حيث ينبثق العقل النيّر،
يمثل الخداع العظيم.
حيث لا يتفاهم أفراد الأسرة الستّة (هم: الأب والابن والاخوان الكبير والصغير، والزوج والزوجة)،
يمثل البرّ والحبّ الأبوي.
حيث عائلة الامير
في عتمة الليل والفوضى،
يمثل الوزراء المخلصون.
XIX
تخلَّ عن الحكمة، واطرح المعرفة (أي الاستزادة من العلم بالعالم الخارجي ومظاهره المتعدّدة، من دون الاهتمام بالوحدة التي تكمن وراءها. وغالباً ما يقصد لاوتسو بالتعلّم، آداب السلوك التي بلغ عددها 3300 قاعدة، والتي كان على الصينيين أن يتعلمّوها)،
فسيجني الشعب مئة فائدة.
تخلَّ عن الانسانية، واطرح العدالة،
فسيعود الشعب الى البرّ
والحبّ الأبوي.
تخلّ عن المهارة ومنافعها،
فسيختفي اللصوص وقطّاع الطرق.
إذا لم تكفِ هذه المبادئ الثلاثة،
قمْ بما يأتي:
تأمّل في البسيط واحتضن الطبيعي،
وحُدَّ من أنانيتك واكبحْ رغباتك.
XX
كل من يطرح التعلّم
لن يُصاب بهمّ.
أيّ فرقٍ بين النعم واللا؟
أي فرق بين الجمال والقُبح؟ (يدحض لاوتسو كل درس تاريخي كانت توصي به المدرسة الكونفوشيوسية في زمنه. وقد اصطلح جميع المعلّقين على مقطوعات لاوتسو الشعرية، أن هذه المقطوعة أشبه باعتراف رومنطيقي يعلن فيه حيرته وعذابه)،
لا يمكننا ألا نخشى
ما يخشاه الآخرون،
لأن كل تعلّم فائق الحدّ
وبلا نهاية.
كل الناس متحمّسون كأنهم
يحتفلون بذبيحة عظيمة،
أو كأنهم يرتقون شرفات الربيع.
وحدي أنا أظل هادئاً
بدون أيّ حركة،
كمولود جديد لا يعرف حتى البسمة.
أشبه بشيء معلّق في الهواء،
أنا كمن لا مكان له يستقر فيه.
كل الناس لديهم ما يزيد على حاجتهم،
وحدي أنا خالي الوفاض.
ذهني ذهنُ غبيّ
لأنه جدّ بطيء.
كل الناس ذوو بصيرة،
وحدي أنا في الظلمة.
كل الناس ذوو ذهنٍ حادّ،
وحدي أنا مضطرب الذهن.
أتموّج كالبحر،
وأعصف كالريح باستمرار.
كل الناس لهم أهداف واضحة،
وحدي أنا ذو عقل بليد كفلاّح.
وحدي أنا أختلف عن الناس الآخرين،
لأني أقدر كثيراً “رضاعة الأم” ¶
هنري فريد صعب
النهار الثقافي