قصائد للشاعر البرتغالي نونو غوديس
ترجمة خالد الريسوني
ميتافيزيقيا
أمام فنجان القهوة، يشعل
سيجارة، ليس راغبا في معرفة شيء
عن الإلهام، عن أبياتٍ شعريةٍ تعِسَةٍ،
عن وجهات تشبه وجهة الأنهار.
لربما لن يخيفه الزمن، أن يكون الموت
بالنسبة له مجرد فكرة لا تملك تحققها المرئي،
ألا تترك العيون لشيء ما من الحياة المجردة
والمتطابقة مع الروح أن ينجلي.
أحيانا يفكر أن يجيب على الأسئلة
التي تطرح عليه، لكنه يؤجل تلك اللحظة،
يفضل أن يواصل مكابرة الحاضر الصامتة،
كما لو كان الحاضر سيستمر، وكما لو أن القهوة
لم تبرد في الفنجان.
وجبة فطور
حينما أمضي باحثا عن الخبز صباحا
أعرف من الرائحة المنبعثة إن كان ثمة خبز أم لا.
وأمضي دوما مع الرائحة أو من دونها.
إن كان رغيف خبز منسي قد بقي
من خبزة البارحة أم أن الخباز
قد تذكر واحتفظ لي برغيف.
المخبزة هنالك في الأسفل تمكث في المنعطف،
هنالك من قبل كانت فتاة
ينشد الكل ودها لأنها كانت تضحك.
حتى الآن لا أحد يعرف لِمَ كانت تضحك
تلك الفتاة التي في المخبزة كانت تحيا،
أو على الأقل هل كانت جدية أم لم تكن كذلك.
وحينما كنت أضع الكيس فوق المنضدة
أشدد عليهم دوما أن يعدوا الخبز جيدا.
سيرة
وقع في الشهوة، في الخطيئة المحزنة
للحب، في لذة الهنيهة التي يطفئها
الزمن. تنازل للعزلة الموروثة من الليل
عن الزبد المجرد للحياة، ولج نهرا
من كلمات مسهبة، هاجرا أمن الضفاف.
عرف القفا الشاحب للوجوه،
أيقظ أجسادا لم يعد يذكر منها سوى برد
الظلال، رأى تدفق الغياب
في الأحاسيس التي يزل فيها الخريف،
لا مباليا، في ترقبات الابتهاجات الربيعية.
في الفصل الذي تستعيده الفتاة
المأتمية، في تلك الأثناء، شيء ما كان سيئا، لم
تضع المنبه على الميقات الصحيح، لم
تسمع الاسم الذي يومئ إلى اعتراف
المحبيين، كانت قد نامت وقتا قليلا ليلة البارحة
فسهت.
تبقى لها من كل هذا رواسب
أغنية: مكاشفة صدى صوت
دون كثافة الشفاه، مباغتة مثل صورة
خيول قديمة
في فراغ القصيدة.
ألوان
ثمة جدار أبيض، في كل الأصياف التي
أتيت بها من الذاكرة، يحلو لي
أن أكتب عنها، وأن تتمزق كما لو كانت
ورقة، أثناء الخريف يغدو
ذلك الجدار معتما، وأثناء الشتاء
تملأه الطحالب بكتابة غير مفهومة.
أعرف أين يوجد ومتى أكون في حاجة
للاستناد إلى ظله، غبار الجير
يعلق بأصابعي. يروق
لي أن أرى بياض الجلد، تحت أشعة
الشمس الكثيفة، وأن أقتنيها ببياض
الجدار، لكن لا العالم يختزل دائما
في شيء جد بسيط، ولا مشاكله
تختفي بطبقة بسيطة من الحبر.
فالواقع ليس أبيض مثلما هو
ذلك الجدار: أبدا يغدو
معتما أثناء الخريف ، ويمتلئ
بالطحالب في الشتاء ولا أحد
يبحث عنه أثناء الصيف
حينما تلونه الريح الغربية بالأحمر.
أدنِ فمك
أدنِ فمك من النبع
لن يهمك
إن كان صمتا فقط
ما يصل مسامعك:
هي موسيقى
أيضا، حاول مرة أخرى
أن ترفع يدك حتى أنفاس
النجمة الأولى،
حدقة العين
متنبهة لكل مقطع لفظي:
لست تملك بلادا أخرى، لست تملك
سماء أخرى،
بالفم، بالعينين،
بالأصابع جرب أن تلامس الأرض المليئة
لقلبك
مرة أخرى.
انحطاط
حينما سقطت روما أمام هجمات البرابرة،
كان بعد قد تم الحفاظ على حدود الإمبراطورية.
تأخر الخبر – في الواقع – أسابيع قبل أن يصل، وسواء
العبيد أو الأسياد فكروا جميعا أن الإمبراطور
ما زال محافظا على سلطانه، وأن العالم لا يترنح
في محاوره، وأن الشمس التي كانت تأتي من المشرق
لم تعرف في مسارها شيئا جديدا، وتساءلوا:
لماذا مواصلة الحركات اللا متغيرة للماضي؟
حينها صرخ الرسول المتسربل أسمالا
بالخبر المرعب. صمتت النساء ما عدا
تلك التي بكت حتى هبوط الليل، وبعدها
غادرت حتى لا يُعرَف شيء عن مصيرها. نظر الرجالُ
نحو البحر كما لو أن الحلول كامنة هنالك.
حينما ينتهي عالم، فليس الفراغ وحده
الذي يملأ القلوب بأعباء رَيْبَتِهِ،
تتلاشى الكلمات أيضا في الروح
التي تسائل الماضي، وبالنسبة لكل الجهات
حيث يُنظَر، يبدو أن الأفق ينغلق،
وحدها الأرض التي بعد تنتظر
أمطارالخريف الأول،
تهدي الجواب صمتا جافا
صورة جذور كسرها الصيف
واستراحة كهوف أشرعتها الحيوانات
بحثا عن ملجأ لمحاصرة الليل.
ضباب صباحي
يجعل الشتاء أسوأ
أحاسيسنا تتساقط من السحب: يقود
الاكتئاب والضجر والتعب كل
واحد منا نحو سرير اللامبالاة
في تثاقل الظلال. إلا أن أسماء الفصول
لا تتناسب دائما مع الجوهر الملموس
للأيام. صورة وابتسامة وجملة
تتعثر في انفعالات ما ترغب في قوله، إن
كان ذلك هو الحب فإنها تحوله إلى هنيهة، والحياة
التي كانت تبدو عابرة تتخذ شكل الأبدية،
كما لو أن العناكب قد نامت في خيوطها،
وقد حررتنا من نفاد صبر الزمن.
أطلب دائما قهوة، وأثناء ذلك أعشق الحركة
الناعمة من الخادمة، كما لو كانت تأخذ
من الآلة زهرتها السوداء، أرى هذه الأجساد
مثل مراكب راسية: بعضها ينتظر لحظة المد
للإبحار والأخرى تتحمل العطل اللامرئي
لمصبات الأنهار، دعتني لدخول أسطولها
المهزوم، لكن الباب ينفتح، وتهب في القاعة
ريح مباغتة، فأتنفس ذلك الهواء البارد الذي يقذف بي
إلى الخارج، حيث أعرف أنك تنتظرينني.
تأمل في الخرائب
حَطَّ في قاعةٍ بلا مذهباتٍ، وبلا كراسٍ:
خشبٌ عتيقٌ ومزهرياتٌ بورودٍ من البلاستيك، نوافذ
زجاجية مكسورة تتجه نحو الطَّريقِ السَّيَّارِ. لا ريحَ،
ولا بحرَ: ضجيجُ السَّياراتِ وَحْدَهُ كان يتسربُ من الشُّقوق
ليرتطمَ صداهُ بالسَّقفِ (خشبٌ يُرَى من خلال بقايا
الرُّخام الزائف). وبعدها، في الشارع علق بالحطام المهترئ
لدرابزيناتٍ قديمةٍ. وما بين الشجيراتِ التي تجتاحُ كلَّ شيْءٍ،
كان يتِمُّ إدراكُ مشهدٍ كانَ جديراً بأن يكون لوحة
رومانسية. الوادي، وقد غطته البيوت،
والجبال وقد اكتسحها سقط المتاع؛ تُخفي ماضي
قطعان ورعاة. لكن لربما هنا لم يُسمع قطُّ
عزف الناي. هذا البيت، قد اكتفى حقا
بحفظِ صمتٍ قديم حَوَّلهُ الاستعمال إلى بُقَعٍ
سَبيدجيَّةٍ في الذاكرة. والآن، يلتبس بدفء
الجدران؛
ويؤوي جُحُورَ الزواحفِ فحسب، التي تنكشفُ فقط
في الشتاء، مُتخفِّية عن الخليقةِ. لكن قدْ مَرَّ شَخْصٌ ما
مِنْ هُنا،
مُنذُ قليلٍ؛ وبَعْدُ ما زال ينبعثُ الدخَّانُ من جبل الأخشابِ، بينما
الشمس تتقدمُ مِنَ المشرقِ، حيث لا تتلاشى ألوانُ
الفجر الباردة، وحيث لا طائرَ يُحَيِّي
مولدَ النهار.
نونو غوديس: شاعر وروائي برتغالي ولد بميشلويرا غراندي بإقليم ألغربي سنة 1949، درس الآداب الرومانية في جامعة لشبونة الكلاسيكية، عمل أستاذا بالجامعة الجديدة للشبونة التي نال فيها درجة الدكتوراه سنة 1989، ومستشارا ثقافيا بسفارة البرتغال في فرنسا ومديرا لمعهد كامويش بباريس، كما سبق أن عمل من قبل وإلى حدود 1999 مديرا لمجلة طاباكريا التي يصدرها بيت فرناندو بيسوا. نشر العديد من الدراسات في نظرية الأدب وفي الآداب البرتغالية، والعديد من الأنطولوجيات مثل أنطولوجيا الشعر البرتغالي المستقبلي، وطبعات محققة مثل سوناتات أنطيرو دو كينطال، وهو يساهم بشكل دائم بمتابعاته النقدية للكتب في الصحف والمجلات، نشر أول ديوان شعري له سنة 1972 كما نال العديد من الجوائز الهامة في الشعر والرواية البرتغاليين، ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات كالفرنسية والإسبانية والإنكليزية والإيطالية. من أهم أعماله الشعرية: أغنية في كثافة الزمن 1992، تأمل في الخرائب 1995، حركة العالم 1996، نظرية عامة في الأحاسيس 1999، وغيرها…
القدس العربي