صفحات ثقافية

الشعر والموت

null
أمجد ناصر
مرت ذكرى رحيل الشاعر محمد الماغوط. الذين تذكروه قلة. هكذا، ربما، ستكون عليه حال الشعراء الراحلين في زماننا المأخوذ بأي شيء سوى الشعر. لكن حتى لو نُسي الماغوط، في ذكرى رحيله، فإن ذكره حاضر في القصيدة العربية الحديثة. لم يصدر كتاب يضم قصائد الماغوط الأخيرة، أو لعله صدر ولم يكتب عنه. قرأت، في مناسبات مختلفة، بعضاً من تلك القصائد واستوقفتني ‘ثيمة’ الموت عند شاعر ‘حزن في ضوء القمر’. بدا لي حضور الموت في قصائده الأخيرة واضحاً، بل مفارقاً لشاعر تكتظ مدونته بمفردات الحياة العضوية، بلا شبهة ميتافيزيقية تقريباً. هكذا، أيضاً، حضر الموت في الأعمال الأخيرة للسياب، دنقل، درويش. هؤلاء الثلاثة، تحديداً، كانوا يعانون أمراضاً مزمنة أو قاتلة. الماغوط لم يكن. لعله السأم من الحياة إذن. لعلها الوحدة أو الشيخوخة. لعله التعب من الصخب. عندما رأيت الماغوط، للمرة الاولى والأخيرة، وهو يتسلم جائزة سلطان العويس، كان يستعين بكرسي متحرك. لكنه كان يدخن كمراهق. يدخن في كل مكان حتى في الأماكن الممنوع فيها التدخين. كان شبح الموت يحوم حوله. كان يتوقعه. وربما يتمناه. فقد بدا زاهداً، نائياً، منصرفاً، فقط، الى لفافته وقيل الى كأسه. سأقف، هنا، أمام نص واحد من نصوصه المتأخرة بعنوان ‘مقطع من موت واحتضار سنية صالح’لما يحتويه، برأيي، من رموز وإلماحات جديدة على شعر الماغوط وسأحاول أن أقارنه بقصيدة للسياب تتناول ثيمة مشابهة.
لا يخاطب الماغوط إلهاً رمزياً وهو يتضرع اليه، بمزيج من القنوط والرجاء، كي يبقي على زوجته لبضعة شهور، بضعة أيام، يتناوب، وابنتاه ‘شام’ و’سلافة’، السهر عليها وتجفيف العرق المتدفق على جبينها! كلا، ليس إلهاً رمزياً ولا اسطورياً. إنه الله. فأمام رجاء كهذا تتجه المخاطبة الى الله القادر على تحقيق المعجزة. الله الذي يتوجه اليه المريض ليشفى، اليائس ليلوح له الأمل، المبتلى ليعبر برزخ المحنة. انه ‘إله آل البيت’ الذي تموت الحبيبة عند أقرب نقطة منهم (كما يعبر في القصيدة)، إله الحسين الذي تشبه جراحه، بحسب الشاعر، آلام الحبيبة المحتضرة. إله تلتمس شفاعته من خلال رموز اسلامية صريحة لا التباس فيها. هذه المخاطبة، وقد دنا الاستحقاق الكبير، عودة الى الايمان الأول الذي يسكن الوجدان الشعبي. استذكار لرموزه. كأن الشاعر، الذي عبر نتاجه عن محتوى علماني، يتقمص صورة جدته وهي ترفع يديها الى السماء دعاء أو ضراعة.
كان ‘المقدس’ غائبا، حسب ظني، عن أعمال الشاعر المنهمك في مشاطرة الفقراء والمقهورين سخطهم وانَّاتهم الحرّى. كان الطغيان الأرضي وفساد مواضعات المدينة العربية هما الهدف الذي سدد اليه الشاعر الغاضب قبضته المهددة بنزق طفولي طافح. معجم الماغوط أرضي. مشبع بالوجع والغضب. مكتظ بمفردات الحرية، وشعره خال من الرموز الدينية والأساطير (عكس الموجة التموزية التي رافقها). إنه يحيل الى ما هو يومي. يكاد لا يعرف القلق الميتافيزيقي. ليس المقدس في القصيدة التي وضعها الماغوط عن احتضار سنية صالح وموتها هو نفسه الذي يمر الاطفال من أمامه كـ’الملاريا’ في شوارع المدينة القاسية من دون أن يعيرهم اهتماما، كما هو الحال في ‘حزن في ضوء القمر’، بل المقدس الذي تلهج به السنة من تنوء اجسادهم بالمرض وأنفسهم بالبلوى وتنسد أمامهم الآفاق. يقول الماغوط مناجيا الله: يا رب. لا يستخدم كلمة أخرى في التوجه الى المقدس قد تتماهى مع غيره. يا رب. إنه النداء الذي لا يحتمل الالتباس. نداء بسيط وعفوي ليست له دلالة سوى ما يتضمنه من شحنة رجاء مباشرة. نداء يصدر من الجوارح لا من الفكرة. ثم يختار للنداء موعدا يتوافق مع توقيت اسلامي يمكن أن يتحقق فيه الطلب: ليلة القدر. فما يطلبه الشاعر يحتاج الى معجزة وليلة القدر طاقة للمعجزات. إنه مستعد، بعد أن يتوجه بالنداء الى الله أن يكون ‘خادماً مطيعاً’ لإرادته، بل منفذاً لهذه الإرادة حتى وان كانت على شكل زلزال أو بركان وفيضانات تصيب ‘أكثر الاكواخ والأحياء فقرا’. مستعد أن يفعل أي شيء بما في ذلك ايقاظ ماركس وانجلز من قبريهما ليعترفا، وهما الملحدان اللذان يريان التاريخ جدلاً مادياً وفعلاً ارادياً بشرياً، أن كل ما يحدث بمشيئة الله! ولكن، يقول الشاعر، ‘أبق لي على هذه المرأة الحطام’، لبضعة شهور، لبضعة أيام فقط، نتناوب السهر عليها وتجفيف العرق المتدفق على جبينها فهي ظلنا الوحيد في هذه الصحراء، نجمنا الوحيد في هذه الظلمات’. هذه هي كلمات الماغوط بالحرف.
قد يكون حضور الموت المفاجىء هو الذي يستدعي الميتافيزيقيا التي ليست موضع تفكّر الانسان الذي لم يتوصل الى فهم لغز الموت، ناهيك عن معرفة ما بعده. عرفنا هذا عند أكثر من شاعر، لعل أبرزهم من السابقين السياب، ومن اللاحقين درويش. أفلم يقف السياب، المتقلب بين الشيوعية والقومية، وهو على سرير المرض أمام لحظة كهذه؟ يمكننا أن نصغي الى النبرة الدينية العميقة لشاعر ‘الأسلحة والاطفال’ في اواخر قصائده. لنأخذ قصيدته ‘سفر ايوب’ مثلا. إنه يتخذ من أيوب قناعا ‘مكشوفا’ له. أيوب الذي ابتلي بالداء وضرب مثالا على الصبر والاحتساب. كانت الأمراض التي قرّحت جسد أيوب وجعلته ينزّ بالصديد امتحانا ليس لقدرته على الصبر فقط بل على إيمانه أيضا، لأن المرض ‘عطية الله’. نسمع السياب يئن من وراء قناع أيوب قائلا: لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم، لك الحمد ان الرزايا عطاء وان المصيبات بعض الكرم ألم تعطني انت هذا الظلام وأعطيتني انت هذا السحر؟ فهل تشكر الارض قطر المطر وتغضب ان لم يجدها الغمام؟ هذا ضرب من تقبل الألم والمصيبة يتجاوز الرواقية الى الإيمان الديني الذي ينص على ان كل ما يصيبنا هو من الله. انه ليس مجرد تقبل فلسفي للقدر والتعايش مع استحقاقه، بل إيمان بأن الألم والرزء هما نوع من الامتحان الإلهي. الفارق بين السياب والماغوط يكمن في أن الاول يكتب عن مشارفته على الموت بينما يكتب الماغوط عن احتضار الحبيبة. المرض داخلي عند الاول بينما هو خارجي عند الثاني مهما كانت درجة القرب التي تربطه بمن يعانيه، لذلك تختلف درجة الضراعة بين المخاطبتين. هناك فارق آخر بين قصيدتي السياب والماغوط. انه فارق في شكل القصيدة. يختار السياب لقصيدته شكلا شعريا شبه تقليدي. بينما تقترب قصيدة الماغوط من شكل الخاطرة. لكن الاثنتين تجتمعان في التخفف، ما أمكن، من المبالغة في التصوير، الزخرف اللغوي، الترميز، أي باختصار مما يمكن أن نسميه ‘اللعب الفني’. فهذا لا مقام له هنا، لا وظيفة يلعبها. انهما يختاران شكلين بسيطين لتوجيه النداء لا يصرفانه عن غايته.
ولكن اذا كانت القصيدتان تختلفان في الشكل، وهو فارق معلوم بين شاعر ‘قصيدة نثر’ وشاعر قصيدة موزونة، فإن الاثنتين تجتمعان في المسعى نفسه: الرجاء. فالمعجزة يمكن أن تتحقق، أو يظل الأمل بتحققها قائما حتى في قلب ظلمة الموت. السياب الذي يعاني موته الشخصي يبدو لنا أوضح في هذا السياق، فهو ليس على سرير الموت بعد، يفصله عن تاريخ القصيدة المكتوبة في بريطانيا سنة 1962 عامان، فيما يكتب الماغوط عن احتضار، ثم موت الحبيبة. هنا ينقطع الرجاء عند الماغوط في الوقت الذي يظل قائماً عند السياب لذلك يختم قصيدته قائلا: لك الحمد يا راميا بالقدر ويا كاتبا بعد ذاك الشفاء.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى