نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية: مقالة ضد العناد
ياسين الحاج صالح
كانت تسعينات القرن العشرين فترة صعبة إيديولوجيا على نظم الحكم العربية. تحققت في ذلك الوقت هيمنة عالمية لأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والليبرالية التي كانت مجموعات مهمشة ومقموعة فحسب تستند إليها، حتئذٍ، في المطالبة بإصلاح أوضاع بلدانها. كانت جوانب من سجل تلك الحكومات تعرض أمام محافل دولية مسببة لممثليها حرجا غير مألوف. لكن بالغريزة، ودونما تأخير، اهتدى موظفو حكوماتنا إلى حجة ذهبية في مواجهة المساءلات الخاصة بالحقوق السياسية والمدنية لمواطنيهم: “الخصوصية”. لمجتمعاتنا خصوصيتها التي تنبع من تراثها وعقائدها الدينية وهويتها المتميزة. يحصل أن يمضي الموظفون إلى القول إننا نسعى لتطوير ديمقراطية ونظم حقوقية خاصة بنا، أو قد يوحون أن نظمنا القائمة هي بالضبط ديمقراطيتنا الخاصة. على هذا النحو، تنزع سلطات استبدادية وفاسدة إلى استنتاج نفسها استنتاجا منطقيا وبالتمام والكمال من “خصوصيتنا”، لتكون هي الجائزة الفريدة التي استحققناها على تراثنا الخاص.
مضمر في هذا الطرح حتمية ثقافية صارمة: إن كانت أوضاعنا السياسية والحقوقية مختلفة عن غيرنا، ومتخلفة عن معيار عالمي يبدو محققا، فلأن لنا تراث وهوية مختلفين عن غيرنا. نحن مختلفون ثقافيا، لذلك نحن مختلفون سياسيا. لسنا متخلفين.
الغريب أن تيارا إيديولوجيا عالما تأدى إلى النتيجة نفسها تماما في السنوات ذاتها تقريبا (انتشر “جماهيريا” بعد 11 أيلول 2001)، لكن بطريق مختلف عن طريق الخصوصية، بالطريق العمومي إن جاز التعبير. ينكر هذا التيار الخصوصية مبدئيا، لكنه يتشكك في ملاءمة الديمقراطية لنا أو ملاءمتنا لها اليوم، بسبب مشكلات ثقافية ودينية عميقة في مجتمعاتنا المعاصرة، تتعارض مع الأسس العالمية للديمقراطية ومع قيمها العامة. الديمقراطية ثقافة وليست مجرد إجراءات، ودون احتياز هذه الثقافة ستفضي إلى سيطرة “الأصولية” و”طغيان أكثرية العدد” على قول جورج طرابيشي. هذا بالطبع غير مرغوب. ينبغي لذلك فصل الدين عن الدولة. أدونيس يضيف: وعن السياسة وعن الإبداع الفني والثقافي. مشكلاتنا السياسية لا يحلها صندوق الاقتراع لأنها في صندوق الرأس حسب طرابيشي. محتوى الصندوق غير محدد، لكن “الردة” و”الأصولية الإسلامية” و”الطائفية” متوفرة فيه يقينا. العلمانية، إذن، شرط الديمقراطية.
النظرية هذه قلما تذهب أبعد من ذلك. فيما عدا امتداح العلمانية، لا تقول كيف نعالج مشكلة صندوق رأسنا، ولا ما الذي يتعين عمله لإصلاح أوضاعنا السياسية والاجتماعية والثقافية، والدينية ذاتها. وهي لا تهتم بالسياسة العملية ومشكلاتها، ولا حتى بالسياسة النظرية والفكر السياسي. لكن السياسة التي يمكن اشتقاقها من هذه النظرية عند أبرز ممثليها السوريين (طرابيشي، أدونيس، وآخرين أقل شأنا) تقف عمليا إلى جانب الأوضاع السياسية القائمة، ليس ضد الإسلاميين وحدهم، بل ضد عموم المعارضين. أدونيس ينتقد هؤلاء الأخيرين بحدة مفاجئة. مرة لأنهم محض سياسيين، ومرة لأنهم الوجه الآخر للنظام (لا يتكلم على هذا بالانفعال ذاته مع ذلك)، ودوما لأنهم لا يخاصمون الإسلاميين كما يرغب. وما يمكن أن يقال مرة أو مرتين، لا يكتفي الشاعر الشهير بقوله عشرات المرات. لعل ثمة ما يضغط على روحه بكثافة واستمرار، فيدفعه إلى تكرار الكلام نفسه.
2
على اختلاف دوافع الخصوصيين والعموميين في الربط بين السياسة والثقافة (“الخصوصية”، أو بالضبط الدين، “الإسلام”) انتهيا إلى التوافق السياسي. على أن الحكومات معنية بسلطتها أولا وأساسا، وما الخصوصية غير ذريعة تسوغ بها سجلها الشنيع، وتساعدها على الوقوف في وجه هيمنة المطلب الديمقراطي. الثقافة لا تعنيها، خصوصية كانت أم عمومية، تراثا أم حداثة. والواقع أن الخصوصيين الحقيقيين هم الإسلاميون. هؤلاء يميلون أيضا إلى تعريف مجتمعاتنا حصرا بـ”الإسلام”، وتصورهم للديمقراطية إجرائي صراحة، مبني على أن “الأمة” إسلامية (أو أكثريتها الساحقة)، إذن ينبغي أن يحكمها “الإسلام”، عمليا هم.
أما العموميون، ممثلو “العام الشامل” (أدونيس)، فيبدو أن ما يحفز تفكيرهم هو الخوف من الإسلاميين. الخوف هذا مشروع بقدر ما يكون محددا في زمان بعينه ومكان محدد وأوضاع معينة (لنقل سورية اليوم، بسبب كذا وكذا). لكنه، أولا، يبدو خوفا مرسلا، مسترسلا، لا يخففه مر الزمان؛ خوف لا يريد أن يهدأ، كأنما لا يستغني عنه أصحابه. وثانيا، إن نظرية مبنية على الخوف وحده وسياسة قائمة على الخوف حصرا، إن لم تنحز إلى “الأمن”، لن تجد ما تأخذه عليه، أعني على السلطات التي تسيء معاملة الإسلاميين والمعارضين وعموم مواطنيها و..المفكرين.
الشيء الأهم أن الطرفين، الخصوصيين والعموميين، يشتركان في نظرية الحتمية الثقافية. الثقافة تحدد السياسة عند الأولين؛ وتغيير السياسة غير ممكن دون تغيير الثقافة عند الآخرين، أي أن تغيير الثقافة يحدد تغيير السياسة. السلطات تستنتج استبدادها من خصوصيتنا، والإسلاميون يستخلصون حاكميتهم من “الإسلام”، فيما يستنتج العموميون عسر الديمقراطية استنتاجا منطقيا من صناديق رؤوسنا. “السياسة جزء من الثقافة”، يقول أدونيس. ويوضح: الثقافة هي “الأساس والكل”، والسياسة هي “الفرع والجزء”.
وينزع العموميون عموما إلى تفسير الاستبداد والدكتاتورية في بلداننا بوجود ذهنية وقيم ثقافية مؤاتية للاستبداد. من يعتمد على نصوص أدونيس وحدها في معرفة الأحوال السورية ربما يظن أن الإسلاميين هم الحاكمين في البلد. يستخلص الشاعر المفكر الحال العام من “الإسلام”. ونصوص كتابه الأخير، “الكتاب الخطاب الحجاب”، ترجع الاستبداد في بلداننا إلى ثقافة إسلامية عامة أو تمثّلٌ عام للإسلام، قد يسمى مرة “الدين” ببساطة، ومرة “الرؤية الوحدانية”، وغالبا “الإسلام”. أما في كتيّبه “الهوية غير المكتملة”، وبعد أن يقول شيئا عن “الأب – الرئيس” الذي ينسب انتصارات الشعب لنفسه ويتنصل من المسؤولية عن الهزائم، يقرر بإيجاز حاسم: “تلكم هي بنية الشعب العربي”. ولا نجد شرحا لهذه البنية غير عبارة “البطريركية” التي يماهي بينها وبين “العالم العربي”. لا بأس. أين البرهان على ذلك؟ أين النظرية التي تشرح العلاقة بين السياسي والثقافي، وتثبت أن الأول متشكل بالثاني؟ النظرية “تقيم الحد” على الهوى والانطباع الذي قد يكون هو ذاته مشروطا ثقافيا واجتماعيا، ربما بـ”بنية الشعب العربي”.
وتفيد الخلاصة العملية لنظرية الحتمية الثقافية أن لا تغيير سياسيا دون تغيير ثقافي يسبقه. كيف؟ قلما يقال ما يزيد على ضرورة فصل الدين عن الدولة. هل يعني ذلك أن التغيير السياسي غير مرغوب إلى حين تتغير صناديق رؤوسنا وتأمن الدولة لانفصال الدين عنها؟ هذه هي السياسة التي تستخلص من النظرية. وليس في المواقف العملية لأصحابها ما يتعارض معها، أو حتى يضفي عليها شيئا من النسبية. يلزم أن نضيف فقط أن لب الثقافة يبدو دينيا عند العموميين، على سنة سبق إليها هنتنغتون. فالحتمية الثقافية هي في الواقع حتمية دينية. وليس من المفاجئ تاليا أن تبث الآداب العمومية عند القارئ الشعور بأن مجتمعاتنا في الواقع مجتمعات إسلامية بمعنى ماهوي يتجاوز الوصف البسيط. هنا أيضا لقاء مع الإسلاميين. ومع التيارات الغربية اليمينية.
هل لنظرية الحتمية الثقافية هذه نصيب من العلم، ربما يعدّل من محافظتها السياسية؟ جوابنا لا جازمة لسببين. أولهما عام: حول الحتمية، كل حتمية، تتكون عقيدة أو إيديولوجية أو ديانة، وليس تفكيرا علميا. الحتمية مبدأ انغلاق وثبات لأي تفكير، فيما التفكير العلمي مفتوح وقلما يكون ثابتا. وكلما تصلبت الحتمية في ضرب من القانون القطعي تكونت حولها إيديولوجية أشد انغلاقا وعصبة أشد تعصبا وسياسة أشد إرادوية وسلطة أشد استبدادا. الجبرية في التاريخ الإسلامي والشيوعية السوفيتيية أبرز مثالين. فهل نبالغ إن قلنا إن الحتمية الثقافية في أي من صيغتيها (الخصوصية والعمومية) تستعيد صيغة معاصرة لعقيدة الجبر الأموية، تسويغا لسلطات “أموية” قائمة؟ وثاني السببين هو الهروب المنهجي من تفاصيل الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والديني القائم. يُكتفى في كل حال بصور انطباعية عامة، بتحليلات تفتقر إلى الرهافة، بمعرفة لا تتجاوز الأوليات لأية وضع عياني محدد، بتساهل مفرط في البرهنة و(عند أدونيس) بروابط بلاغية بين الأفكار. يجري اختيار أمثلة من هنا وهناك لإثبات صحة العقيدة العمومية، لكن دوما ثمة الهرب من التفاصيل والمعلومات المضبوطة. ترى، أية معرفة علمية دون تفاصيل؟! دون اطلاع مدقق على سجل الوقائع المحال إليها، على الأوضاع السياسية والحقوقية، دون تحليل واضح حول الدولة، دون تحليل أساسي حول المجتمع؟! دون معرفة تتجاوز الانطباعات العمومية حول الحياة الدينية؟! دون هذه كلها لن تكون المعرفة غير إيديولوجية، مجموع عموميات، أساسها الهوى الخاص. وعند أدونيس بالذات ترتفع مقاطعة التفاصيل إلى تنزه مطلق عن الوقائع والمعلومات المضبوطة. الرجل لا يحيل ولا يوثّق ولا يبرهن ولا يفصل. ربما يخشى الشياطين التي تكمن في التفاصيل.
3
في النظرة العمومية تبدو الثقافة والسياسة، أو الدين والدولة، صندوقان منفصلان، كلّيتان متجانستان مصمتتان، ليستا علاقتين ولا نسبتين ولا عمليتين. ولا يتحول محتوى الصندوق السياسي دون تحول محتوى الصندوق الثقافي بالكلية. فلا يتصور التغير السياسي والاجتماعي كإصلاح، كعملية عقلنة، كفاعلية بشرية تراكمية، كمعالجة تجريبية لملفات متميزة وحلها. المنهج ذاته يلغي من الأساس إمكانية أي اقتراح سياسي عملي مهما يكن عادلا ومشروعا وبسيطا. لنقل مثلا الكف عن اعتقال مثقفين وناشطين لم تسل على أيديهم قطرة دم واحدة في أي يوم؛ لنقل إظهار بعض الجدية في ضبط نزاهة الانتخابات المحلية أو النقابية أو الامتناع عن فبركتها بفظاظة؛ لنقل إصلاح المدارس العمومية، أو اهتمام أكبر بمحو الأمية، أو أبسط بكثير تنظيف مجري بردى، أو عدم منع الشبان من إنشاء مدونات شخصية على شبكة الانترنت. نضع جانبا أحوال الاستثناء الخالدة، وإقالة الجمهور الخالدة بدورها من السياسة والشأن العام، والاحتلال الاستيطاني للدولة من قبل الفساد، والأشكال المتنوعة والخطرة من محاباة الأقارب. لا يعقل أن هذه المشكلات لا تعالج طوال سنين وعقود بسبب صندوق رأسنا الخاوي أو الممتلئ بالبضاعة الخطأ. ولا يعقل أنها لا يمكن أن تعالج قبل تنظيف هذا الصندوق وترتيبه من جديد. هذه جبرية مفرطة في جبريتها. بل عناد وغلو. أساسهما اشتقاق أحوالنا الراهنة بحذافيرها من شيء يحصل أن يسمى الثقافة المريضة أو “الإسلام” أو “الأصولية” أو “صندوق الرأس”.
طرح الأمر بصورة تخيير بين ديمقراطية ناجزة مستوفية لمقوماتها الثقافية المفترضة وبين “طغيان أكثرية العدد”، يخرج إصلاح الدولة والسياسة من التفكير، فيثبت الوضع الحالي. هذا الوضع بالمناسبة غير موصوف عند طرابيشي. الرجل لا يتدخل في “السياسة”.
هل يقول العموميون الذين ذكرنا بعض خاصتهم كل ذلك؟ إشكاليتهم تقوله بجلاء، ولا يوفر أي من مناحي نشاطهم البرهان على عكسه أو حتى على تحفظ عليه. لا يكاد يكون ثمة مناح أخرى أصلا غير “الفكر” لنشاطهم. يلاحظ منهم التجنب الوسواسي للشأن السياسي الراهن وإبداء الرأي فيه، إلى درجة الامتناع حتى عن أنشطة رمزية أضحت عناصر جوهرية لمفهوم المثقف في كل مكان: التضامن مع زملاء في محنة “سياسية” مثلا، إبداء رأي في شأن وطني عام، الاحتجاج على انتهاك حقوق فردية أو جماعية. لكنهم مجمعون على وعي ذاتهم بالتمايز عن “مثقفين شعبويين” يبدو أنهم يقولون إن الديمقراطية هي الحل والخلاص والمفتاح والنهاية. غير أن هذه خرافة تبسيطية، تنقصها كل التفاصيل التي تجعل منها شيئا آخر غير خرافة تقول شيئا عن العقيدة العمومية أكثر مما تقول عن أولئك الشعبويين الأشرار. وأول نتيجة تترتب على هذه الخرافة أن الاستبداد القائم يغدو غير مرئي. ومعه كل المقاومات الاجتماعية والسياسية والثقافية الموصومة بالشعبوية، هذا “الآخر” الضروري لبناء الهوية العمومية كهوية مفكرة و”مهرطقة”. قل لي من هو آخرك، أقل لك من أنت!
4
الأصل العقلي لإغفال مسألة إصلاح السياسة والدولة يتمثل دون ريب في أن إصلاحهما، أو أي عمل إصلاحي، غير متصور على أرضية مذهب الحتمية الثقافية، أو أية حتمية. كان الإصلاح السياسي مستحيلا، فكرة وممارسة، على أرضية الحتمية الاقتصادية الشيوعية في سبعينات القرن الماضي وما قبلها. وكانت فكرة الإصلاح سيئة السمعة كما نعلم، بينما تستأثر بالصيت المشرف فكرة الثورة. وكان عبد الملك بن مروان لا يرضى حتى أن يقال له “اتق الله”، فهو في كل ما يفعل نتاج التصريف الإلهي الذي لا يندُّ عنه شيء من شؤون هذه الدنيا. وعبد الله العروي يناقش بصورة مقنعة أن حتمية ابن خلدون (للدول أعمار “طبيعية”، والهرم إذا حل بالدولة لا يرتفع..) هي ما منعته من تصور إمكانية إصلاح الدولة (كتابه “مفهوم العقل”).
في جميع الحالات، الحتمية الاقتصادية والجبرية الإسلامية والحتمية العمرانية الخلدونية و”بنية الشعب العربي” الأدونيسية و”صندوق الرأس” الطرابيشي، لا مجال لاستقلال للسياسة. السياسي وكيل مسلوب الإرادة أمام مطلق يحتكر المبادرة والإيجابية (أو الإفساد والسلبية). هذا مناسب لجميع نظم الاستبداد، من معاوية بن أبي سفيان إلى البعثية السورية، مرورا بالشيوعية السوفييتية. الإصلاح ممتنع على أرضية “عقل المطلق” هذا (العروي أيضا).
السياسة الممكنة والمرغوبة هي “الثورة” التي تطوي، وحدها، صفحة الواقع القائم الآن، مبدلة إياه بصفحة جديدة مختلفة. لا يتداول القوم، الحتميون الثقافيون، مفهوم الثورة لأسباب تتصل بتدهور سمعته في العقود الأخيرة، لكن معادله الخلاصي موجود: “فصل الدين عن الدولة”. قبل الفصل (“الثورة”) لا شيء يجدي ولا شيء يمكن أصلا، وبعد الفصل لا شيء يبقى. المشكلات كلها تحل. أليست “الثورة” هي سياسة الحتميين دوما؟ حلول مطلق محل مطلق؟ أليست معادلا علمانيا للخلاص الديني؟ حين ينفي جورج طرابيشي أن العلمانية إيديولوجية خلاصية، خلافا للديمقراطية، فإن نفيه يبقى خطابيا، ملصقا على سطح مقاله، لا يمس بحال منابع الخلاصية فيه: الرؤية الحتموية للمجتمع والثقافة، وافتراض “صندوق رأس” اجتماعي عام، متماثل وفاسد، لا ينصلح شيء دون تغييره.
أما أدونيس فيقرر أن أحوالنا الراهنة “صفر”، ويوجِب “خلق” مجتمع وثقافة جديدين. يقول: “أعيش في مجتمع ينبغي إعادة بنائه كليا (..). مجتمع لا أجد فيه ما يستحق الدفاع عنه، ولا تبنيه. إنني أعيش في هذا المجتمع كما لو كنت أعيش في الدرجة صفر، اجتماعيا وسياسيا”. ثم يدعو إلى “الخلق”: “أن نخلق من الشعر الأعمق غورا، مجتمعا جديدا وثقافة جديدة، وعلاقات جديدة مع الآخر”. هذه هي “المهمة الملحة”.
ملحوظتان سريعتان: (1) “صفر” و”خلق”، أليس هذا هو الخلق من عدم؟ لم يعد يلزم إلا “البارئ المصور”. هل غير الطغيان يتأسس على نظرية للبدء المطلق كهذه؟ ألا يذكر ذلك بـ”إسلام” يجب كل ما قبله إلى “جاهلية”، هي عدم مستوٍ، “صفر”؟ (2) يحيل “الصفر” و”الخلق” والشعر الخالق إلى رومنسية خاصة، قد تسمى رومنسية القطيعة المطلقة، رومنسية خلاصية من نوع أدت نظائره جميعا إلى الإرهاب، من إرهاب الثورة الفرنسية إلى الإرهاب البلشفي وصولا إلى إرهاب بول بوت. الديمقراطية لا “تركب” على القطيعة المطلقة والصفر والخلق. وحال إثبات الديمقراطية عند أدونيس مثل حال إنكار الصفة الخلاصية على العلمانية عند طرابيشي: إثبات خطابي معلق على سطح المقال وغير ممتزج بإشكاليته.
5
وللحتموية وجهان: وجه تفاؤلي يقرر أن كل شيء سيتغير للأحسن إن تغيّر المحتِّم (إرادة الله، نمط الإنتاج، صندوق الرأس، بنية الشعب..)، ووجه تشاؤمي يقرر أنه إن لم يتغير المحتم فكل شيء سيتدهور وينحط. الثورة وإلا فالكارثة. الخلاص وإلا “خلاص”!
أو “الانقراض”. استعاد أدونيس مؤخرا رؤيا قيامية، أكد في مقال لاحق أنها عقيدة قديمة عنده، لا تتهيب الكلام على انقراض العرب. في زيارة له إلى كردستان العراق في نيسان الماضي صرح الرجل إن العرب والحضارة العربية ينقرضان. التهويل من طبائع الحتميات جميعا في صيغتيها التشاؤمية والتفاؤلية. لكن الأرجح أن انقراض العرب “وظيفة” لانقلاب المقاربة الأدونيسية إلى التشاؤم نظرا لإمعان العرب في الغفلة عن ضرورة “الفصل الكامل بين الديني والسياسي” الذي لم ينس أدونيس أن يدعو إليه في أربيل.
وتكاد تنفرد عقيدة الحتمية الثقافية بأنها لم تمر بمرحلة تفاؤلية. ولدت خائفة، قلقة، متوجسة من “أكثرية العدد”. لا تثق بأحد. ولا ينشغل بالها بكيفية بناء ثقة وطنية جديدة.
ولعل ملابسات الميلاد هذه تفسر تراجع العناصر الديمقراطية والعقلانية والنقدية عند المفكريْن اللذين نناقش أفكارا لهما هنا، واتساع مساحة المنفعل والمعتم والخائف والنخبوي فيها. والسياسي أيضا. تظهر كتابات أقدم لأدونيس وطرابيشي تفكيرا أكثر انفتاحا وثقة وصفاء وإنسانية. كتاباتهما الأحدث متوترة، عدوانية، عكرة، مغرضة؛ منسحبة كليا من الشأن الوطني، وسياسية جدا رغم ذلك.
6
المفارقة الغريبة أننا لن نجد شيئا يذكر عند كبار العموميين حول التغير الثقافي الذي رُهن به التغير السياسي. فقط الفصل بين الدين والدولة. لا شيء عن إصلاح التعليم، لا شيء يذكر عن الحريات العامة، لا شيء يذكر عن إصلاح الدين. هذا ربما يشير إلى السلبية الجوهرية لنظرية الحتمية الثقافية: ما ترفضه أوضح بكثير مما تدعو إليه (فتستكين عمليا إلى الوضع القائم). ويسلمها تشاؤمها ونخبويتها الصميمية وارتيابها بصندوق الرأس الاجتماعي وهلعها من “أكثرية العدد” لقنوط مخلِّّص. هذا العالم خطأ. فلينقرض ونخلص أخيرا!
لعل التشاؤم الثقافي هذا يفسر الفردانية المتطرفة للمعنيين. لكن ربما يفسر أكثر خصائص نقاشهم: منفعل، غير حسن النية (لا يلتزم بالاتساق ووضوح القصد، وغير منصف في عرض أقوال الخصم وحججه)، غير ودي، ولا صبر له على توضيح القضايا الخلافية. ودوما غزير التكرارات. هذا واضح من التكرار اللامتناهي عند أدونيس للأفكار عينها عن الأصولية والدين والعقل الديني والوحدانية. هل في ذلك ما يحيل إلى حتمية نفسية أو تثبّت نفسي من نوع ما؟ إلى ضرب من “إجبار التكرار” كان فرويد قرنه بالعصاب الوسواسي الذي وضعه في أصل الدين؟ إلى “رهاب” متعضٍ في النفس، لا إلى تخوف “موضوعي” قابل للعقلنة؟
يعزز هذا الافتراض أن الشاعر الشهير الذي لا يكف عن معاودة الكلام في الشأن نفسه، لم يتناوله يوما تناولا شافيا. لا نجد له بحثا منهجيا في العلاقة بين الثقافة والسياسة، بين الدين والدولة، ولا حتى عناصر أو اقتراحات من أجل بحث كهذا. ما قد يُستدل عليه من ذلك هو أن الدين ليس شأنا يدرس وينظر في أمره بأدوات البحث العلمي، يموضع أو يحول إلى “موضوع” تتشكل قبالته وضده ذات مستقلة، الذات العارفة أو المفكرة؛ بل هو شيء يمتنع الانفصال عنه، مقوم للذات وإن بالسلب، لا يستقيم أمرها من دونه، من دون رفضه بالطبع. هذا ضرب من تدين مقلوب، يحاكي تثبّت المؤمنين حول عقيدتهم الدينية.
7
الواقع أن لدينا مشكلة دينية أو دينية سياسية بالفعل. لا يكاد الأمر يحتاج إلى إثبات. في علاقته بالسياسة والدولة، أو في العلاقة بين الجماعات الدينية في مجتمعاتنا ذاتها، أو في علاقته مع العالم الحديث والمعاصر، أو في نظامه الذاتي واتساق قيمه، الإسلام المعاصر مشكلة عسيرة. ليس غرض هذه المقالة التوسع في هذا الشأن (تناولته في مواد منشورة وأخرى آمل أن تجد دربها للنشر في مقبلات الأيام). لكن التركيز الحصري المتكرر على المشكلة الدينية يجعلها في النهاية بلا أسباب، “علة ذاتها”. مثل ذلك قيل في الغرب بعد 11 أيلول 2001 وقبله عن “الإرهاب الإسلامي” كما نعلم. قالته التيارات الأشد تطرفا وعنصرية وعدوانية هناك، وأسس لسياسة “المحافظين الجدد” أيام إدارة بوش.
وإنه لبدهي أننا لا نفهم المشكلة الدينية إن عزلناها عن غيرها، أو جعلناها المحرك الأول لكل مشكلاتنا. بل إننا نطعن في صلاحية مفهوم التاريخ ومناهج الإنسانيات بهذا الضرب من الممارسة الفكرية التي تركز كل التركيز على عامل واحد معزول عن غيره، يفترض أن تغييره سوف يقود إلى تغيير كل شيء آخر.
وفوق أن التفكير العمومي لا يشرح لنا أصول المشكلة الدينية، فإنه لا يقترح ما يفيد لمعالجتها. ليس إصلاح السياسية والدولة وحده ممتنعا على أرضية مذهب الحتمية الثقافية، وإنما إصلاح الدين أيضا. يتعين الاعتراف بالدين كعلاقة دنيوية، كشيء قابل لأن يشرح بلغة الاجتماع والسياسية والاقتصاد والفلسفة وعلم النفس، وليس كجوهر للاستبداد (والطائفية عند طرابيشي)، من أجل أن نستطيع قول شيء عن إصلاحه. لكن لا يبدو أن العموموية معنية بذلك أصلا.
المفارقة الأولى، إذن، في النسخة العمومية لمذهب الحتمية الثقافية أنها لا تساعد نفسها. تفرط في الانشغال بـ”الإسلام” إلى درجة أن تجعله عجيبة، لغزا سحريا، خصوصية جوهرية، استثناء خارقا، لا يمكن توضيحه ولا إصلاحه. هنا التقاء نظري غير مفاجئ بالخصوصويين الأصلاء، الإسلاميين. الحكم على الجوهر وحده يختلف بين سلب مطلق وإيجاب مطلق. لكن الطرفين “تفاصليان” على حد سواء. يتفاصل الإسلاميون عن عالم جاهلي معاد لله، ويتفاصل العموميون عن عالم مستسلم لـ”الردة” والأصولية. هذا، قبل كل شيء، يجعل العلمنة ممتنعة. إذ لا نستطيع علمنة تفكيرنا والمساهمة في علمنة مجتمعاتنا بينما نتداول “الإسلام” كصندوق قائم برأسه، يتمايز عنه تماما صندوق آخر اسمه “العلمانية”. العلمانية وعي ذاتي بدنيوية الدولة والمجتمع، والدين ذاته، أي بكثرتها وتحولها واختلاطها وتركيبها وجوازها (نقيض حتميتها)..، يمتنع على أرضية أي منطق للماهيات أو الجواهر الثابتة، مثل “الإسلام” و”العلمانية” و”صندوق الرأس” و”بنية الشعب العربي”.
بالمناسبة، يشترك الحتميون الثقافيون في التسليم بأن “العدو الحيوي” للعلمانية هو “الإسلام”، وأن العلمانية قول في الدين أولا وأساسا وحصرا، وليس في الدولة. طرابيشي يعرض كتابا لموريس باربيه يرد فيه قصور العلمانية في العالم العربي إلى قصور الدولة، لكنه لا يبني على ذلك شيئا.
هناك مفارقة ثانية ألمحنا إليها فوق. ليست هذه النظرية الثقافية إلا سياسة، وسياسة مفرطة التبسيط كذلك. تتجنب السياسة بكل طاقتها، تتركها مساحة معتمة عن سابق اختيار منهجي (الثقافة هي “الأساس” وهي “الكل”)، لذلك بالذات تفشل في أن تكون شيئا غير سياسة. سياسة صغيرة وسيئة كذلك. الثقافة لا تتعمد ترك مساحات لا يضيئها التحليل والنقد.
والحال، كان يمكن للثفافوية أن تحوز صدقية أكبر لولا هذا الضرب النادر من التطهر السياسي، المفعم بالسياسة. غير أن التطهر هذا هو “فصلها النوعي”. نتكلم على ثقافوية لا على دراسات ثقافية لهذا السبب بالذات. الدراسات الثقافية لا تتكتم على السياسي فيها.
وقد نضيف هنا ملمحا أساسيا آخر إلى العقيدة الثقافوية الشائعة: وقوع المشكلة الغربية على النقطة العمياء في عينها. استطاع الأستاذ جورج طرابيشي أن يؤلف كتابا على “المرض بالغرب” دون أن يكتب ولو صفحتين عن السجل التاريخي الواقعي للعلاقة بين العرب والغرب المعاصرين. سيبدو مرض لوم الغرب، تاليا، شيئا جوهريا في “العرب”، وليس أمرا علائقيا وتاريخيا. دون السجل الواقعي، كيف نميز بين السوي والمرضي من تفاعل “العرب” مع الغرب؟ هل يمكن أن نتناول، مثلا، المرض النازي لليهود دون قول شيء عن التاريخ الفعلي للعلاقة بين اليهود والنازيين، دون ذكر الهولوكوست مثلا؟ تغيب أيضا كما قد نتوقع أية إشارة، ولو عابرة وخطابية، إلى العرض الآخر لمرضنا الغربي، “الغُراب” حسب اقتراح بديع لفواز طرابلسي: الافتتان المطلق بالغرب، التقمص اللانقدي لكل ما هو ما غربي. هذا شائع بدرجة لا تقل عن لوم الغرب، وجدير بالتقصي والنقد مثله.
الإغفالات المتكررة هذه تكشف الطابع النضالي والإيديولوجي للثقافوية. هذا أيضا يميزها عن الدراسات الثقافية النقدية. ولما كانت النضالية لا تبالي بالاتساق النظري، فلن يكون مفاجئا أن يستطيع محلل العصاب الجماعي العربي المزج بين اعتراض حازم على “ثقفنة” الصراع مع الغرب وبين ثقفنة متشددة للصراع من أجل الديمقراطية. الصراع غير الصراع، والثقافة غير الثقافة. واللامبالاة نفسها وراء تعايش الاعتراض الوجيه على لوم “الغرب” مع الجاهزية الدائمة للوم “العرب”. ونبرة التقريع الساخطة عند مؤلفيْنا وغيرهم تغرس الانطباع أن “العرب” جوهر خاص، “مضروب”، لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء في فساده. هذا الجوهر “ثقافة”. الدول والطبقات والأديان والطوائف والرجال والنساء والأطفال.. كل ذلك يختفي في ليل “الثقافة” الدامس. كله عند مقرّعي “العرب”… عرب! الأجهزة التي تعذب وتقتل، والسجناء الذين يعذبون ويقتلون، والسكان الذي يذلون ويحتقرون، كلهم “عرب”! أصحاب المليارات المسروقة والمودعة في “صناديق” مصارف خارج بلدانهم، والجياع الذي ينبشون في حاويات القمامة عما ينتفع به، والشعراء المرهفو الحس الذي يفسرون طغيان الطغاة بـ”بنية الشعب العربي”، هؤلاء كلهم.. “عرب”! إن لم يكن هذا تجهيلا للمسؤولية، فماذا يكون؟
8
لدينا مشكلة سياسية أيضا، أليس كذلك؟ ولأسباب نظرية وعملية يستحسن أن نفكر فيها كمشكلة مستقلة. نظرية لأن ذلك قد يدفع نحو تطوير أدوات مفهومية أكثر تنوعا وإرهافا لتناولها. وعملية لأن من شأن الاشتغال على مشكلتنا السياسية أو الانخراط في الصراع السياسي أن يساعدا على معالجتها (التمرس بها على الأقل)، ما قد يسهل معالجة مشكلاتنا الأخرى، الدينية وغيرها. هذا يحث على ترك المواقف المضارِبة، الدينية بالفعل، التي تجعل من حل المشكلة الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو الغربية هو المدخل الحصري لتناول المشكلات الأخرى. يحث أيضا على التفكير المركب، غير الحتمي حتما، الذي يُفترض أن يتدرب عليه المرء على يد كبار المثقفين. كيف لصناديق رؤوسنا أن تتطور بينما ندعى إلى تفكير تبسيطي، أقرب ما يكون إلى منعكسات شرطية، لا يقتضي من رؤوسنا أن تكون أكثر من “صناديق سوداء”، ترتد أمام المدركات السلبية (الدين وما إليه) وتقبل على مدركات إيجابية (العلمانية..)، دونما حاجة لأن تكون لها ذاكرة وبنية ذاتية ووعي ذاتي و.. ثقافة؟
لا مجال للتوسع هنا أيضا، أي في شأن المشكلة السياسية. نكتفي بالقول إن الدين ليس حلا لمشكلة الدولة. الإسلام ليس هو الحل. والدولة بالمقابل ليست حلا لمشكلة الدين. كل منهما يعاني من مشكلة معقدة، لا ترتد في حال الدولة إلى الاستبداد لتكون “الديمقراطية” وحدها هي الحل، ولا ترتد في حالة الدين إلى “الأصولية” لتكون العلمانية هي الحل. المشكلة تطال فكرة الدولة وبنيانها ومدى استقلالها بـ”مادة” خاصة بها، سياسة “الأمة” أو “الشعب”، كأساس لاستقلالها عن المجتمع الأهلي وعن السلطة كإحدى وظائف الدولة (وعن أية قوى دولية مهيمنة). هذا ما يؤهلها لتكون مقرا للسيادة الوطنية، سيادة الأمة. وتطال المشكلة الدينية موقع الدين ومفهومه وسلطته الذاتية أو استقلاله بنصاب خاص، الإيمان، كشرط أنسب لاستقلاله عن غيره.
هل في تحليلات العموميين ومواقفهم المعلنة ما يعين في طرح هذه المشكلات المعقدة ومعالجتها؟ الجواب هو لا جازمة هنا أيضا. القوم يفضلون الارتعاد هلعا أمام “الخطر الأصولي” على الالتزام البديهي بمطلب التوضيح المستمر وما يقتضيه من انكباب على السجل الواقعي للظاهرة المدروسة، وعلى الالتزام الشاق بمعرفة التيارات السياسية والفكرية الأخرى في مجتمعهم، وأولها الاعتراف بها.
ومن وجوه مشكلتنا السياسية المزمنة أنه لم يتحقق لمجتمعاتنا المعاصرة تقدم ذو بال على صعيد الاندماج الوطني، إن لم نقل إنها سجلت تراجعا صافيا في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة. أكثر مجتمعاتنا منشطرة اليوم إلى “أمتين”، وفي أكثرها ضرب من تقاسم السيادة بين “الدولة” و”الدين”، أو منح امتيازات سيادية للدين مقابل احتكار الحاكمين السلطة والخلود فيها؛ وأنه يمكن الكلام على دولة سلطانية محدثة في سورية وربما غيرها، وعلى ديمقراطية سلطانية: التعدد الأهلي أو المللية المحدثة، وعلى علمانية سلطانية تفصل بين “أمتي” الدين والدولة. يمكن الكلام أيضا على أزمة ثقة وطنية عميقة: يخاف السكان من بعضهم أكثر مما يخافون من حكامهم المستبدين. هذا يعقد مشكلة الاستبداد بأن يجعله “حلا”، والتغير السياسي المرغوب يغدو مشكلة خطيرة قد تطيح بالدول والمجتمعات معا. لكن الأسوأ أن الاستبداد يتكفل بتغذية أزمة الثقة ويرضى بتقاسم السيادة مع الدين من أجل تخليد احتكاره للسياسة والسلطة. أسوق هذه الاعتبارات الوجيزة فقط للقول إن السياسة داخلة جدا في “صناديق الرؤوس” و”بنية الشعب”، إن “الثقافة” و”الدين” غير موجودين خارجها، وإن الثقافوية فقيرة تحليليا إلى أقصى حد، فوق قدريّتها السياسية.
9
وبعد، ما الذي يقتضيه التقدم في تفكير أحوالنا الراهنة؟
قبل كل شيء حسن النية وسلامة القلب. لا شيء يثمر دون ذلك. وفي المقام الثاني “إقامة الحد” (تعبير إلياس مرقص) على الثقافوية وحتميتها، وعلى الحتميات جميعا بوصفها منابع للمطلقات والخرافات السياسية. والأهم الربط بين المعرفة النظرية والروح العملية الإصلاحية. المشكلة ليست في “صندوق الرأس” بل في منع الإصلاح فكرة وعملا، أي التدخل البشري لتحسين الأحوال البشرية. ليس ثمة حوائل جوهرية بين أي رأس وبين إصلاح الأحوال، بل إنه لا سبيل لانصلاح الرؤوس ذاتها، مهما تبلغ صناديقها من فساد، خارج الممارسة الإصلاحية، بما في هذه إصلاح الثقافة والدين و..الدولة. الإصلاح صيرورة تراكمية وتعديلية مفتوحة، والأوضاع الصالحة هي التي تقبل الإصلاح، فيما لا يمكن لأوضاع تنغلق دون الإصلاح إلا أن تكون فاسدة.
والسؤال العملي الذي يطرح من موقع إصلاحي هو: كيف ننتقل من حكم استبدادي فاسد إلى حكم تحرري أصلح، مقللين إلى أقصى حد من مخاطر تطابق الأكثرية الدينية والمذهبية مع الأكثرية السياسية، والأقلية السياسية مع الأقليات العمودية؟ ما هي الإجراءات السياسية والقانونية والتعليمية والإعلامية والثقافية، والقمعية، لتحقيق هذا الهدف؟ كيف نمنع تسرب منطق المجتمع الأهلي التنوعي ومنطق السياسة التعددي إلى موقع السيادة الواحدي تعريفا؟ كيف تكون الدولة واحدة وسيدة مع تعددية سياسية وأهلية غير مقيدة؟ وهل من سبيل لتجنب تطابق التعددين السياسي والأهلي؟ ما الذي يمكن عمله اليوم من أجل مزيد من التدامج الوطني، أو أقله للحد من تنامي الوعي الذاتي الفئوي؟ كيف يتاح لأعداد أكبر من السكان المشاركة في الحياة الوطنية من مواقع غير أهلية؟ وللمفكرين أن يتساءلوا أيضا عن النموذج الديمقراطي الأصلح لتجنيبنا الاستبداد والصراعات الأهلية ومخاطر الدولة الدينية: الديمقراطية الأكثرية لا تبدو ممكنة (يرجح أن تكون الأكثرية أهلية)، و”الديمقراطية التوافقية” وفيرة الأعطاب ومثبَِتة للطائفية؟ تفترض هذه الأسئلة فقط أننا لا نسلم بالواقع الاستبدادي الراهن، ولا نعتبر مساره الانحداري قدرا مقدورا، ينبثق حتما من “الثقافة”.
ثمة مطلبان إصلاحيان، وليس مطلب واحد: التخلص من الاستبداد، وتجنب تطييف أو تحزيب أو تديين الدولة. وكلاهما راهنان. الإصلاح الآن. غدا يتأخر الوقت. يتخلى العموميون عن مطلب التخلص من الاستبداد تجنبا لتديين الدولة. هذا تنازل خطر ولا شيء يبرره، يزيده خطورة ما يبدو من أنه ليس لدى المعنيين ما يقولونه على تحزيب الدولة. نضالهم لذلك لا ينجح. التحزيب يترك باب التديين والتطييف مفتوحا. يمكن إظهار الابتهاج بسحق الإسلاميين، لكنه لا يحل أية مشكلة.
النظير الحقيقي للعموميين في هذه الحيثية هم الإسلاميون. مطلب الإسلاميين هو التخلص من الاستبداد القائم، لكن تصورهم للدولة استبدادي، وللمجتمع مللي وذو تمركز إسلامي (سني في معظم البلدان العربية). غاية ما يتأدون إليه هو استبداد بطلاء إسلامي.
رهان الإصلاح أو التفكير العملي هو كيفية تحقيق هذه المطلبين المتعارضين معا. أية جهود وأية تسويات…وأية إيقاعات زمنية، وأية مواقع ومواقف للمفكرين..، تلبي هذا التطلع المركب والمتناقض؟ يمكن تعريف السياسة بأنها جهد لتحقيق مطالب متعارضة.
10
يصدر هذا التحليل عن جزع من العناد. العناد منتشر والقسوة في حاشيته. ولعله الوجه الذاتي للحتمية، استبطان منطق الحتم. النظام عنيد وقاس، لا يستجيب لصوت العقل ولا للمناشدات الإنسانية. الدين عنيد وقاس، وسند عناده هو “مقدر الأقدار”. المجتمع مجزأ وقاس، مقصى من لطف “الثقافة” ومتروك لعناد “الطبيعة”. المفكرون عنيدون ونرجسيون بإفراط.
مع ذلك الجهود الإصلاحية ليست معدومة، لكنها تحارب وتقمع. روح الانفتاح والتواصل والنسبية حية، لكنها تخنق. إرادة التعاون والعمل معا والعيش معا موجودة عند كثيرين، لكنها تهمش وتحبط. الوعي الوطني يجري تحطيمه بهمة عالية. كأنما أمر اليوم: انفصلوا، تباعدوا، تعازلوا، اكرهوا بعضكم بعضا! ما الذي يبقى غير المطلقات، سلطات المطلق وعقائد المطلق وفكر المطلق وسيكولوجية المطلق؟ وما تكون العلاقة بين المطلقات غير التنافي المطلق، يلام عليه النسبيون جدا، الفاقدون لكل حصانة، الذين يسهل حذفهم؟
خاص – صفحات سورية –