هموم التنين الصغير
رزان زيتونة
جميع الشرور والمظالم قابلة للتأويل وإعادة التأويل لتمسي خيرا أو عدالة من نوع خاص أو ممارسات غير محددة المعالم ولا تقتضي اتخاذ موقف منها سلبا أو إيجابا؛ طالما أن الضرر لا يصيب ذات الشخص أو أحد أصوله أو فروعه المباشرين، فالدنيا بخير وعامل المناعة الذاتية يشكل طاردا للمنغصات كلها القادمة عبر العالم الخارجي.
ويبدو أن أجيالا عديدة نشأت على مبادئ التربية التي اعتمدها والد «التنين الصغير»، تلك الشخصية اللطيفة من شخصيات الرسوم المتحركة التي عرضت قبل سنوات طويلة، وكان جلّ أملها في «الحياة» أن تعمل في مجال الإطفاء.
وإذ يهرع التنين الصغير للمساعدة في إطفاء حريق صارخا «هناك حريق في البلد»، ينهره والده، التنين الكبير بالقول «ما دخلك أنت يا ولد»!
ويبدو أن «المبادئ» التي تضمنتها أغنية المقدمة في المسلسل الكرتوني ذاك، لقيت هوى في نفوس الآباء والأمهات، وأمست حكمة تتناقلها أجيال وراء أجيال. فأصبح الكل آباء والكل أولادا وفقا للموقف وحسب المقتضى. الآباء حين يتمثلون دور التنين الكبير في توزيع النصائح من نوع «الهس» و«الصه» وعدم التدخل حيثما تكون هناك حرائق أو دخان ينبئ بحريق ما. ولا يرتبط ذلك بحال من الأحوال بمفهوم الخصوصية واحترام نطاق الحياة الخاصة للآخرين. فالتنين الكبير لا يجد بأسا في التدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الآخرين، بدءا من طريقة ارتداء ثيابهم إلى ذوقهم في الطعام إلى عدد أطفالهم. ولا يمل ولا يكل من تقييم سلوك الآخرين وفكرهم وحرصه الشديد على ألا يختلفوا عنه حتى لو كان في قرارة نفسه يتمنى لو أنه هو من لا يختلف عنهم. مبدأ عدم التدخل يطبق فقط حين يتعلق الأمر بما يجلب صداعا أو يخلق احتمالا للإصابة به من قبيل ما يتعلق بالشأن العام وهمومه. ويغدو الجميع «الولد» بغض النظر عن واقعة يتمهم في أغلب الأحيان! وبغض النظر عن عمرهم أو جنسهم أو درجة تعليمهم ومستوى وعيهم، بحاجة للنصح والتوجيه والردع والمشورة النفسية أحيانا، طالما أنهم تمثلوا التنين الصغير، ولم يصبروا على رؤية الحرائق تندلع أو تكاد فيما يهمس متمثلو التنين الكبير بكوني بردا وسلاما وهم يغلقون أبواب دورهم دونها معتقدين أنها لن تطولهم يوما.
والتنين الصغير «ولد عنيد» في وصف والده الكرتوني فقط، أما في الحياة الواقعية، فهو مجنون وغريب الأطوار ويتدخل فيما لا يعنيه ويناطح الصخر ويأتي لنفسه بالبلوى وأخواتها. هذا على الرغم من أنه في أحاديث النميمة المغلقة، يظهر كل الآباء بمظهر التنين الصغير، تذمرا وغضبا وانعدام رضا واختناقا بدخان كثيف يتسرب من جميع الثقوب التي لم يجدوا وسيلة لغلقها، إنما بغير رغبة أو استعداد للمشاركة في تغيير واقع الأمور التي يتذمرون منها.
والتنين الصغير، لا يفهم سبب اغترابه هذا عن محيطه، وسبب الفجوة الكبيرة في رؤية الأمور بينه وبين الآخرين. يستعين حينا بالكواكبي وما رآه في طبائع الاستبداد من فساد للعقول والنفوس وتسيد الخوف والامتناع عن كل اعتراض أو انتقاد أو جهر بالرأي. أو هو يبحث عن تفسير في تعب الناس وقلة حيلتهم وصراعهم اليومي من أجل البقاء على قيد الأمان. أو يعزو ما هو واقع إلى التأثير البالغ الذي أوقعه التنين الكبير في نفوس من تعهدهم تربية وتنشئة وتثقيفا!
ومع ذلك، فهو لا يجد في ما سبق كله سببا لنعته بما ينعت به والنظرة التي ينظر بها إليه من قبل أولئك، على منطق لا يطفئون النار ولا يتركون أحدا يطفئها! ولا يعلم كيف يتقلبون بين السكينة والغضب وبين النعيم والجحيم من لحظة إلى أخرى، ما بين الأبواب المغلقة والأبواب المشرعة، ولا ماذا يريدون وإلام يطمحون ومن هو مثَلهم ومن هو مذمومهم.
والتنين الصغير، يفضل بلا منازع، عالم الرسوم المتحركة، لأنه أوسع وأرحب وأكثر عقلانية واتزانا وأكثر «تنينية» أو إنسانية إن شئنا القول، وحيث لا يضطر إلا لمواجهة والده التنين والذي يستسلم في النهاية لحماسه وإيمانه. وهو فضلا عن ذلك، يحمل إمكانات أكثر بما لا يقاس، ليكون ذاته بمعزل عن هذا الاضطراب والتشوش الذي يلفه حيث يدير وجهه في عالم الواقع، عالم الرسوم غير المتحركة أبدا.
* كاتبة سورية