قصور الحكام وذاكرة الشعوب: حين يغدو البناء هدماً!
محمد منصور
تابعت على قناة (الجزيرة) تقريراً مصوراً في الفترة الإخبارية (الجزيرة هذا المساء)، عن الجدل القائم حول (قصر الشعب) في رومانيا، الذي بناه الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو خلال عهد حكمه الأسود الذي دام خمسة عشر عاماً، والذي انتهى بثورة شعبية أطاحت به، وقدمته وزوجته إلى محاكمة نال فيها مع رفيقة دربه ‘إلينا’ حكم الإعدام بسرعة قياسية قل نظيرها!
التقرير الذي أعده من بوخارست السوري حسام الشحادات، يفتح الأفق واسعاً للحديث عن قصور الحكام، وعن الطريقة التي تبنى بها، والموارد الوطنية التي تستنزفها، والتدميرات التي تحدثها في ذاكرة الحجر والبشر… وخصوصاً حين تكون هذه الأوطان مكبلة بأنظمة ديكتاتورية، انهارت أمامها كل قوى وأشكال المحاسبة من القضاء إلى البرلمان إلى الصحافة إلى قوى المجتمع المدني، كما كان الحال في رومانيا- تشاوشيسكو، حينها يصبح حال الحاكم مع قصوره ومزارعه وأماكن سكناه، فوق الوطن والتاريخ وفوق الهوية المعمارية والجمالية التي بلورتها أجيال وتجارب وحركة حياة على مدى عقود أو قرون، والتي تسهل استباحتها والعبث بها في ظل أي نظام ديكتاتوري يعيش ترف السلطة المطلقة!
فقصر الشعب في بوخارست، الذي يعتبر اليوم ثاني أكبر مبنى في العالم بعد البنتاغون الأمريكي، أمر تشاوشيسكو ببنائه في ثمانينيات القرن الماضي، وقد ساهم في بنائه سبعة آلاف مهندس، وعشرون ألف شخص… وفي الوقت الذي كان فيه الرومانيون يعيشون ظروفا معيشية قاسية، وكان عليهم أن يقفوا في طوابير طويلة لساعات كي يحصلوا على بيضة، بنظام حصص قريب من مستويات المجاعة… وفي الوقت الذي كانت التدفئة توفر لهم لبضع ساعات قليلة في اليوم إن وجدت… كان تشاوشيسكو يبذخ على (قصر الشعب) بذخاً يفوق التصور… وخصوصاً إذا علمنا أن المبنى مؤلف من ثلاثة آلاف غرفة، وفيه خمسون ألف متر من السجاد وثلاثة آلاف وخمسمائة طن من الكريستال وآلاف الأطنان من الرخام والخشب التي نقلت من كافة أنحاء رومانيا لتشييد المبنى بممراته الطويلة وقاعاته المبهرة وأنفاقه السرية، التي تعكس حجم المخاوف الأمنية لدى الديكتاتور، كما تم حجز كل إنتاج البلاد من الحجارة ومنع استخدام الرخام لأغراض خاصة أثناء فترة بناء القصر!
وربما الحديث عن بذخ الإنفاق يهون أمام الكوارث الأخرى التي أحدثها تشييد هذا المبنى، فالأوطان قادرة على ترميم اقتصادها وتنمية مواردها حين تتعافى، لكنها لن تكون قادرة بالتأكيد على استعادة ما تم محوه وإزالته من ذاكرتها وتراثها، حيث تم هدم وسط بوخارست التاريخي بكنائسه ومعابده وفيلاته لإفساح المجال لإقامة هذا المبنى وأخلي نحو 40 ألف مواطن من بيوتهم التي هدمت لإفساح المجال لبناء القصر، وتم إيواء عدد كبير في مبان سكنية كئيبة متقشفة بنيت على عجل، وهي تحتل مساحات كبيرة في بوخارست اليوم كما يقول المعماريون، وقد أصابها الترهل وتداعت بعد عشرين عاماً فقط من تشييدها.
وهكذا تحولت بوخارست التي كانت في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، عاصمة أنيقة بشوارعها التي تحف بها الأشجار، وتميزها الفيلات ذات الطراز الخاص، التي صممها معماريون ذوو نظرة جمالية، إلى مدينة أخرى فقدت جزءاً أساسياً هاماً من ذاكرتها وطابعها، بعد بناء ذلك القصر العملاق في وسطها التاريخي… وتفاقمت المشكلات العمرانية والاجتماعية ولم توفر حتى الأزمة المرورية الخانقة من تداعيات الواقع الجديد الذي خلقه القصر!
واليوم ينظر الرومانيون إلى القصر الذي بني باسمهم، باعتباره يرمز للندوب التي خلفتها الديكتاتورية البشعة في ذاكرة وتراث عاصمتهم، ويرى بعض المعماريين أن القصر بأسواره وحواجزه وبواباته المغلقة والمسافات الطويلة التي يفترض أن تقطعها ذليلاً، هو نموذج للنظرة السلطوية للعلاقة بين الشعب وقادته.. وهو انطباع لم يخفف من وطأته تحويل قسم منه إلى مجلس للبرلمان ومتحف فني وقاعة اجتماعات ضخمة… ولذلك يصل الأمر ببعضهم إلى المطالبة بإزالته لأنه يذكرهم بحقبة يريدون نسيانها، وطي صفحاتها، وكل ما يذكرهم بها!!
تأملت هذه الحال، والمعلومات التي أوردها التقرير حول هذا القصر، وفي الذاكرة أمثلة عربية مماثلة عن قصور لحكام، كان لها الأثر المدمر نفسه، وتذكرت مقولة للكاتب الساخر محمد الماغوط في فيلم (التقرير) على لسان بطله عزمي بك المستشار: (أحياناً يكون البناء هدماً).
أجل لقد بني الكثير من الحكام الديكتاتوريين قصورهم، من دون أي تفكير باحترام خصوصية المكان، وحق مواطنيهم في الحفاظ على طابعه الذي يحبون، وشيدوا انجازاتهم، التي تم التهليل لها زمناً طويلاً واعتبارها رمزاً للبناء والتقدم والحضارة بلا إذن من أحد، لنكتشف بعد أن يدور الزمان دورته، وتنهار تلك الأنظمة… أن كل ذلك البناء كان هدماً… ليس هدماً للهوية والذاكرة وحسب، بل هدما لما هو أقسى وأفدح: الإحساس بالمواطنة والانتماء، وسرقة صورة الوطن الذي نحب!
القدس العربي