نزلاء السجن الأكبر
حسام عيتاني
كلما خرج معتقل سياسي أو سجين رأي عربي من زنزانته، قيل إنه خرج من سجنه الأصغر إلى السجن الأكبر.
يشهد على صحة العبارة هذه أن سجناء الرأي العرب الذين يغادرون معتقلاتهم، وآخرهم الكاتب السوري ميشيل كيلو، يعودون إلى حريتهم المفترضة وأحوال بلادهم تماماً على ما تركوها عليه. والأسباب التي ساقتهم إلى السجون مازالت على حالها. ما ينطوي على نذير لهم بأنهم لم ينتقلوا، عملياً، سوى انتقال طفيف في المكان وحسب.
وحتى في حالات سقوط النظام، يكون الوقت قد فات لتمتع المعتقلين السياسيين السابقين بما تبقى لهم من عمر وحرية. هكذا كانت الحال مع صدام حسين الذي أفرج عن معتقلي سجن أبوغريب سيئ السمعة (في عهدي البعث والاحتلال معاً) محاولا تعزيز التأييد الشعبي لحكمه عشية الغزو الأميركي للعراق، ليتبين لاحقاً أن الأكثرية العظمى من المُفرج عنهم تتألف من سجناء الحق العام وليتبين أيضا أن جل السجناء السياسيين قضى نحبه في حملات ‘تبييض السجون’.
لا عزاء للمعارضين العرب سواء كانوا من دعاة العمل الديمقراطي السلمي على غرار ميشيل كيلو الذي اختار القلم والكلمة وسيلتين وحيدتين في عمله ونشاطه، أو من الناشطين السياسيين الذين تعج السجون العربية بهم، أكانوا من أنصار التغيير بواسطة صناديق الاقتراع أو من خلال اللجوء إلى العنف، على أهمية الفوارق بين الجانبين.
وتتطلب الوجهة التي تتعامل بها السلطات العربية، السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي، معالجات مطولة قد لا يكون المجال متاحاً لها هنا. لكن يمكن القول إن هذا المناخ الخانق من العداء للكلمة- من كراهية النقد الواعي والصادر عن هاجس تحصين البلاد والمجتمع وتحسين وسائل الدفاع عنهما والتحذير من مخاطر دفعهما إلى طريق الفراغ الاخلاقي والقيمي الممهد لسقوطهما سياسيا في لجج العدمية أو العبثية- يستدعي التساؤل عن المبررات التي تقود إلى رفض كل رأي مختلف بغض النظر عن دوافع مَن يعبر عنه. وهو رفض يجاوز حدود التجاهل والتسفيه والامتناع عن الحوار والمناظرة العقلانيين، إلى حدود الإلغاء الجسدي والتدمير المعنوي.
ليس من دولة عربية تستطيع الاعتزاز بسجلها في تعامل سلطاتها مع معارضيها بأنواعهم المختلفة، سواء في المجالات السياسية أو حتى ‘الجندرية’. القمع والإقصاء هما الأداتان المفضلتان في الالتفاف على المشكلات التي يحاول المعارضون، عادة التنبيه إليها.
بيد أن الذرائع التي ترفعها السلطات في مجال تبريرها لسلوكها القمعي، لا تنفك تتطور وتتزايد. كانت الحجة المفضلة لدى الأنظمة العربية تقول إن الوقت غير مناسب لطرح مطالب تتعلق بالحريات العامة والخاصة، فيما تخوض الحكومات صراعاً وجودياً مع العدو الإسرائيلي، وهي الذريعة التي وجدت التعبير الأفضل لها في شعار ‘لا صوت يعلو فوق صوت المعركة’.
بعد التغييرات الكبيرة التي طرأت على موقع الصراع العربي- الإسرائيلي في منظومة السياسات العربية، نجد اليوم تنويعات مختلفة باختلاف الأنظمة من ‘ممانعة’ أو ‘معتدلة’، يمكن اختصارها بفكرة يقول أصحابها إن أي ضغط في اتجاه توسيع هامش الحريات في العالم العربي سيؤدي إلى انهيار النظام، وإن البديلين الوحيدين هما الفوضى أو التنظيمات التي تهتدي بنهج تنظيم ‘القاعدة’ وما يدخل في بابه.
صحيح أن البنى الاجتماعية العربية لم تحقق بعد الشروط اللازمة للانتقال إلى حكم ديمقراطي ناجز وتام (وهذا حديث طويل وذو شجون)، إلا أن أسلوب الابتزاز الذي تعتمده الكثير من الحكومات العربية بوضعها نفسها على الحافة والتهديد بالانتحار وبنحر مجتمعاتها معها إذا لم يجرِ التغاضي عن كل ممارساتها وفسادها، لا يفعل، في واقع الأمر سوى تسريع تراكم عوامل الإحباط والاغتراب عن شرائح واسعة من المواطنين العرب، خصوصا لدى الشباب منهم، الذين لا يجدون أفقا للتعبير عن طموحاتهم سوى العنف أو الهجرة.
انضم ميشيل كيلو، إذن، إلى نزلاء السجن الكبير، إلى مواطني العالم العربي المتطلعين إلى الحرية من دون أن يجدوا الجرأة أو الأداة اللازمة للقبض عليها وزرعها بين ضلوعهم، هذا إذ إن الحرية ‘مطلوبة’ في هذه البلاد.
*كاتب لبناني