قراءة في كتاب “لبنات” لعبد المجيد الشرفي
خالد غزال
في كتابه “لبنات” الصادر عن “دار الجنوب للنشر – تونس” يطرق عبد المجيد الشرفي أبواباً تمسّ واقع مجتمعاتنا العربية والإسلامية في الصميم، ويسعى إلى تفسير موضوعيّ للأسباب الكامنة وراء أزمة استعصاء المجتمعات العربية على الحداثة، متسائلاً ومساجلاً حول ما إذا كان الاستعصاء مطلقاً وأبدياً أم في الإمكان اختراق هذه الجدران العربية الضخمة والعازلة، التي تقفل على عقولنا وعلى مسار تطوّرنا. يعالج مسائل تتصل عن عيش العرب مع الحداثة، ويقارن واقع السلفية بين الماضي والحاضر ويضيء عوامل الثبات والتبدل فيها، ويتطرق إلى قضية العلمنة في المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة، وإلى واقع المؤسسة الدينية في زمننا الراهن، والدور الذي تلعبه في جوانبه السلبية عامة وحدود المساهمة الإيجابية، ويناقش مسألة ساخنة تتصل بما إذا كان الإسلاميون عامة والمنضوون في سياق الحركة الأصولية هم ضحايا التحديث أم أعداؤه الألدّاء. وفي بحثه عن سبل التفسير وإمكانات الإصلاح، يعرض إلى جملة مواضيع تتصل بالمنهج الذي يراه مناسباً وعلمياً في قراءة الإنتاج الديني، فقدم نماذج عن كيفية القراءة التي تحكم العقل الإسلامي، ومدى الاجتهاد وحدوده في هذا المجال، وصولاً إلى الإضاءة على قضية الإسلام والعنف التي تشغل اليوم ليس فقط المجتمعات الإسلامية بمقدار ما باتت قضية عالمية تطرح أسئلة ملحة حول الإسلام وعلاقته بهذا الجانب من زاوية النص والممارسة. مواضيع حارّة وحسّاسة اقتحم الشرفي مجاهلها، تأتي في سياق مشروعه الفكريّ المتصل بمعالجة معضلات المجتمعات العربية والإسلامية ودور الفكر الديني الإسلامي في هذا المجال.
هل تستحيل الحداثة في مجتمعاتنا العربية استنادا إلى التجربة التي مرّت بها هذه المجتمعات ولا تزال؟ السؤال غير مفتعل بالنظر إلى المحاولات التي جرت في هذه المجتمعات، وظلت أشبه ما يكون بالقشرة الخارجية، لتنفجر لاحقاً مع انفجار مشروع التحديث العربي تحت وطأة العجز الداخلي عن مواجهة تطور مجتمعاته ومتطلباتها، وتحت وطأة الهجمات الخارجية الاستعمارية والصهيونية والهزائم التي ألحقتها بهذه المجتمعات والآثار السلبية التي انعكست على مشروع التحديث. لا يغيب عن الشرفي رؤية العوامل الموضوعية لاستعصاء الحداثة عندنا مقارنة بنجاحها في المجتمعات الغربية، لأن التحديث في العالم العربي “لم يقع كما في الغرب بتأثير تطور ذاتي، وإنما كان دوماً مرادفاً للمحاولات الرامية إلى تحقيق النماذج الغربية بكل ما يترتب عن فرض أنماط أجنبية أو استيرادها من مشاكل وردود فعل”. يتصل هذا الاستعصاء على التحديث والحداثة بعوامل تتصل بدرجة التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وانعدام تحقق الاندماج الاجتماعي وغياب الوعي السياسي التسووي والمعترف بالمواطن أولا بوصفه قاعدة السلطة، وفي غياب الديمقراطية لصالح أنظمة الاستبداد. وهي عناصر مسؤولة عن وصول هذه المجتمعات إلى حائط مسدود في استكمال ما يتطلبه التحديث من خطوات على صعيد التطور والتغيير، فنجم عن هذا الانسداد والغربة عن العصر.
لا ينفصل صعود الحركات الأصولية والسلفية، وسعيها إلى اكتساح المجال العام العربي والإسلامي، عن أزمة استعصاء العرب في استكمال مشروع التحديث وتصدعه. بل إنّ هذا الصعود الإسلامي والسلفي يمثل أعلى ذرى تجلّيات هذا الانهيار، بحيث تسعى حركات الإسلام السياسي اليوم إلى إعادة مجتمعاتنا إلى ماض اندثر، وتضع العرب والمسلمين في قالب حديدي تحجر فيه على الفكر غير الماضوي، وتمنع الإفادة من مكتسبات الحداثة والعصر على جميع الصعد. إنّ عجز هذه المجتمعات عن خوض معركة تغيير البنى السياسية والاجتماعية ومواجهة الفكر السائد بالنقد وتحقيق الإصلاحات وعلى رأسها الإصلاح الديني، والتصدي للاستبداد السياسي.. وهي عناصر شكلت القاعدة في تطور المجتمعات الغربية، ووصلت بها إلى هذه الحداثة التي ترجمت نفسها في مختلف الميادين، مثل هذه التحولات والصراعات لم تلامسها المجتمعات العربية في الصميم، بل ظلت عناصر التحديث والحداثة قشرة خارجية، كان من السهولة بمكان زوالها وتهافت صموده في وجه التحولات والهزائم. مما لا شك فيه أنّ هذا الانهيار ترك فراغاً في مجتمعاتنا، هذا الفراغ يستحيل بقاؤه معلقاً، فمن قوانين الطبيعة أنّ قوى ما ستملؤه مباشرة. في غياب قوى التقدم والتغيير المنهارة أو التي جرت إبادتها من قبل أنظمة الاستبداد، وفي غياب أفكار قادرة على التصدي لمواجهة الهزائم مقترنة بغياب قواها، كان لا بدّ لقوى الماضي أن تعود لملء هذا الفراغ وتقدم فكرها السلفي بوصفه المشروع البديل القادر على إنقاذ المجتمعات العربية والإسلامية من المعضلات المستعصية التي تعيش في ظلها، فكان شعار “الإسلام هو الحل” الشعار الجامع لكل الحركات الأصولية والسلفية، بصرف النظر عن تفاوت التعبير وحدته، أو بعض التمايزات في الوصول إليه.
إذا كانت الحركات الأصولية اليوم تدق باب إلغاء مظاهر التحديث الجزئية التي شهدتها المجتمعات العربية والإسلامية، وعلى الأخص منها ما اتصل ببعض مظاهر العلمنة التي لم تخل قوانين دولة عربية وإسلامية من التعاطي مع بعضها إلى هذا الحدّ أو ذاك، وإذا كانت هذه الحركات تسعى إلى فرض قوانينها التي تدعي أنها تمثل الشريعة الإسلامية، وقد بدأت فعلا في إجبار عدد من الأنظمة على اعتمادها، فإنّ هذا “الفشل العلماني العربي” لا يعني مطلقا فشلاً للعلمانية بوصفها سبيل الخلاص الرئيسي للمجتمعات العربية، وطريقاً لتجاوز التخلف متعدّد الوجوه. يحمل الإسلام أوجهاً متعارضة في مقاربته مسألة العلمنة وفق ما يرى الشرفي حيث يقول : ” إنّ في الإسلام جانباً قابلاً للتطور في اتجاه العلمنة هو معقولية الشريعة: إن القوانين والقواعد الأخلاقية في الإسلام مثلما هي الحال في التوراة ليست مؤسسة على نظام كوني خارج الزمان.. إنها أوامر ملموسة من لدن الله الحيّ بلّغها النبي”. لكن المعضلة كمنت ولا تزال في السلطة الدينية المتحالفة دوما مع السلطة السياسية في استخدام الدين في تكريس هذه السلطة واستغلاله في شتى الميادين، بما نزع عن الدين جوهره الروحي والأخلاقي والإنساني، وحوله إلى أمور دنيوية خالصة أقحم نفسه في شؤون أبعدته عن دوره الفعلي. ويذهب الشرفي إلى القول بوجود عاملين مهمين يدفعان في اتجاه العلمنة، أولهما اكتساح النماذج الغربية لمجتمعاتنا من خلال وسائل الإعلام ونمط التبادل، والثاني المتصل بما تشهده هذه المجتمعات من “خلل المرتكزات الرمزية المعتمدة في أنماط العيش التقليدية ذات الطابع الديني”.
هل يبرّر الإسلام عنف الحركات الإرهابية والأصولية، وهل يحمل الإسلام في جوهره دعوة لاستخدام العنف؟ سؤال لم بعد بالإمكان الهروب من مواجهته في ظل ممارسات الحركات الأصولية التي تضرب بعنفها مجتمعات عربية وغير عربية تحت عنوان تحقيق ما يدعو إليه الدين الإسلامي، وعلى الأخص كتابه المقدس أي القرآن. يتصل الأمر في كيفية قراءة النص الديني، صحيح أنّ القرآن يحوي آيات تنص على استخدام العنف ضد غير المسلمين، وهي الآيات التي تستند إليها هذه الحركات في تنفيذ إرهابها. نزلت هذه الآيات في مرحلة محددة من التاريخ الإسلامي متصلة بالحروب التي كان الإسلام يخوضها لفتح بلدان وتثبيت دعوته في شعوبها. تقادم الزمن هذه الآيات ولم تعد صالحة لزمننا. تقع المشكلة في كيفية النظر إلى النص الديني وقراءته، فإذا كان المسلمون سيظلون مصرين على التعاطي مع النص في وصفه كتلة واحدة وكتاباًً منزلاً من الله لا يمكن حذف شيء من نصوصه، وأنه صالح لكل زمان ومكان، بهذا المعنى يصبح الإسلام مؤيداً لهذا العنف الذي يستند أصحابه إلى ما ورد في النص القرآني. لكن هذه الصفة تزول عندما يجري التعاطي مع النص الديني في جوهره الروحي والإنساني والأخلاقي، وهي النصوص الصالحة لكل زمان ومكان، وكون ما يعرف بآيات الأحكام لها سياق تاريخي معين، مما يعني عدم صلاحيتها في زمننا الراهن، بذلك تنتفي عن الإسلام كدين واقعة تبريره للعنف الناطق باسمه راهناً. لا ينفصل الوصول إلى هذه القراءة ووضعها موضع التنفيذ عن المسار المطلوب ولوجه لتحقيق الإصلاح الديني ونقد الفكر الإسلامي والتراث المتولد عنه من أجل تبيان ما يزال يحمل صفة راهنية يمكن الإفادة منه، والتخلي عما تجاوزه الزمن.
تقع المسائل المشار إليها، إضافة إلى ما أثاره كتاب “لبنات” من قضايا في صميم الدعوة إلى مشروع نهضوي شامل مختلف الجوانب، تحتاجه المجتمعات العربية والإسلامية من أجل أن تخرج من ماضيها الذي يأسرها في قفص حديدي، ومن أجل دق باب الحداثة والتحديث والدخول في العصر. إنها معركة تكوّن قوى هذا المشروع وقدرتها على الفعل في سبيل الوصول إلى تحقيقه.