صفحات مختارة

مفهوم الدولة لعبد الله العروي: أخطار الإنـحلال قوية في المجتمعات العربية

خالد غزال
في مجتمع عالمي تجتاح فيه العولمة كل شيء وكل مكان، وتهدد بنتائجها مواقع الدول القومية لمصلحة ما بات يعرف باسم “القرية الصغيرة”، وفي زمن انفتاح الاسواق واكتساحها الحدود الاقليمية، وظهور نظريات في شأن السوق العالمية على حساب الاسواق المحلية، تبدو الصورة في العالم العربي ابعد ما تكون عن هذه التطورات، حيث لا تزال الدولة بمؤسساتها وقواها حاجة ماسة لإدارة المجتمعات وشرطا لمسار تطورها. شكل قيام الدولة العربية واحدا من مظاهر التحديث العربي بعد الاستقلالات في مطالع الخمسينات من القرن الماضي في اعقاب التحرر من الاستعمار، ولكن خلافا لما شهدته الدولة في المجتمعات المتقدمة في الغرب والشرق، تعيش الدولة العربية في حال من التقهقر والتراجع لمصلحة البنى العصبية من عشائرية وطائفية وقبلية واثنية، وهو تراجع يضع المجتمعات العربية اليوم امام اعادة انتاج التخلف، ويهدد وجودها وكياناتها من خلال انزلاقها الى حروب اهلية مدمرة بدأت طلائعها تتجسد واقعا على الارض. تحتل المناقشة حول الدولة في العالم العربي اليوم حيزا واسعا في الادب السياسي العربي ويقع كتاب “مفهوم الدولة” (المركز الثقافي العربي، الرباط) للكاتب المغربي عبد الله العروي في قلب هذا السجال.
يعرض العروي لأبرز من ناقشوا موضوع الدولة في الفكر السياسي، سواء من الزاوية الفلسفية ام من الزاوية السياسية، ويخص في هذا المجال كلا من هيغل وماركس، من دون تجاهل نظريات حديثة تناولت الموضوع. بالنسبة الى هيغل، يرتبط مفهوم الدولة بحرية الذات التي تعطي الفرد الحرية في فعل ما يراه، شرط التزامه المطلق تطبيق القانون العام. “فحق الذات في الحرية، يشكل نقطة التحول بين التاريخين القديم والحديث. والكيان السياسي الذي يستحق ان يسمى دولة، بمعنى الكلمة عند الفيلسوف لا عند المؤرخ، هو الذي يحتمل التناقض ويتجاوزه، بل يجعل منه وسيلة للمحافظة على الوحدة”. في المقابل، فإن الدولة تمثل بالنسبة الى المجتمع المدني ومعه الاسرة، ضرورة خارجية و”قوة متعالية”، بحيث يجب ان تتكيف قوانينهما ومصالحهما مع طبيعتها، في الوقت نفسه يكون الأمن الغاية الأخيرة لهما. وهي نظرة تنطلق من كون قوة الدولة كامنة في وحدة الغاية العامة مع المصالح الخاصة التي يرمز اليها كلٌّ من الاسرة والمجتمع المدني.
يذهب ماركس ابعد من هيغل في قراءة واقعية وملموسة لمنطق قيام الدولة، مرتبطة بفلسفته السياسية الهادفة الى تغيير العالم وبناء الشيوعية التي تضمحل فيها الدولة وفق النص الماركسي. خلافا لهيغل، ترى الماركسية ان الدولة ليست سلطة مفروضة على المجتمع من فوق، و”ليست واقع الفكرة الأخلاقية او مرآة وتجسيد العقل كما يدعي هيغل”، بل هي إنتاج تطور المجتمع البشري في مرحلة معينة من تقدمه، ومن محصلة التناقضات التي تعتمل داخل هذا المجتمع بفعل تطور الانتاج والقوى المنتجة وتكونها في طبقات تتسم مصالحها بالتناقض وتؤدي الى الصراع في ما بينها، مما يستوجب قيام سلطة مستقلة في الظاهر، تسعى الى تخفيف حدة هذا الصراع عبر وضعه في نطاق النظام العام. فالدولة وفق ماركس هي تلك السلطة الناشئة عن المجتمع والمتعالية عليه والساعية دوما الى اكتساب مزيد من الاستقلالية في اداء مهماتها عن مجمل الطبقات السائدة والمتصارعة. لكن ماركس يذهب الى ان كل دولة، ما عدا الشيوعية، هي دولة الطبقة السائدة، وفي المجتمع الحديث هي دولة الطبقة البورجوازية، التي ستضمحل لاحقا عند تحقق الشيوعية.
في تناوله للدولة العربية، قديمها وحديثها، يرى العروي ان الدولة العربية التي قامت بعد الفتوحات الكبرى في الزمن الاسلامي الاول والمراحل التي تبعته، كانت مبنية على اساس اجتماعي محدد يهدف بشكل رئيسي الى المحافظة على توازن القبائل والعشائر والأسر التي كانت المجتمعات العربية الاسلامية تتكون منها في ذلك الزمن. ويذهب الى تحديد “العناصر المكوّنة لما نسميه الدولة الاسلامية بأنها: الدهرية العربية، الاخلاقية الاسلامية، والتنظيم الهرمي الآسيوي”. وينفي ان يكون الاسلام قد عرف دولة اقتصرت “ايديولوجيتها” على العصبية وحدها، كما يذهب الى ذلك بعض الفقهاء والمؤرخين، بل كان هناك دائما تلازم بين عناصر ثلاثة هي العصبية والشرع والعدل.
يربط العروي بين تكوّن الدولة العربية الحديثة، بالمفاهيم التي قامت عليها، وبنمط الدساتير التي وضعتها، بالغزو الاوروبي للمنطقة العربية خلال العهد العثماني وما فرضه من تحديث لبنى الدولة عبر الاصلاحات والامتيازات التي اعطيت للقوى الغربية، مقرونا بنوع الافكار الليبيرالية التي رافقت هذا التدخل الاوروبي في المنطقة. لكن المذاهب الغربية المشبعة بالفلسفة الليبيرالية كان عليها ان تتأقلم مع البنى التقليدية القائمة ونمط الثقافة والتشريعات الموروثة وخصوصا منها ارث الدولة السلطانية على المستويين الفكري والنظري، وهو ارث مشبع بالقهر والاستبداد واستغلال الموارد. وهذا ما يفسر قيام دول تفتقر كثيرا الى الحرية الفردية، بحيث اعطى هشام جعيط وصفا لها بالقول “ان الدولة العربية لا تزال لا عقلانية، واهنة، وبالتالي عنيفة، مرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائرية، وعلى بنية عتيقة للشخصية”. لذا يشدد العروي على ان وجود دولة حقيقية يبقى مرتبطا بوجود “ادلوجة دولوية”، لأن كل ناظر اليوم في احوال الدولة، في واقعها الراهن وفي مستقبلها، يدرك بكل بساطة ان الاجهزة الامنية القائمة لا يمكنها ضمان الاستقرار “في عالم تتعدد فيه النزاعات العقائدية وتتحارب فيه الدول بالاجهزة وبغيرها، بل تعتمد فيه على الضغط النفساني والنقد الايديولوجي اكثر مما تعتمد على الحرب الساخنة”.
بعد اكثر من خمسة عقود على تكوّن الدولة العربية، تبدو البيروقراطية القائمة والممثلة لمفهوم الدولة وممارستها، بعيدة عن تجسيد العقلانية، بل لا تزال تجسد العلاقات الموروثة وتسعى الى تأبيدها بشكل افعل. نجم عن ذلك ان نظرة الفرد العربي الى السلطة الموروثة عن الماضي، لم تساعد حتى اليوم في تركيز الكيان القائم وتحويله مجتمعاً سياسياً بالمعنى الدقيق للكلمة. هكذا فشل العرب في تحقيق الدولة العربية الواحدة في العقود السابقة، وهم اليوم مهددون بانحلال الدولة القطرية.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى