نحو الدولة الوطنية لمواجهة الطائفية
طارق عزيزة
في النصف الأول من القرن الماضي نشأت في الأوضاع الدولية توازنات استراتيجية أفرزت تغييرات جيوسياسية ومعطيات جديدة غيرت على نحو كبير مسار التاريخ المعاصر. كان من تمظهراتها الأساسية اندثار دول أو تعديل حدودها إضافة إلى ظهور دول جديدة وقوى عالمية لم يكن لها في السابق فاعلية في المجتمع والسياسة الدوليين. ويمكن رصد تلك التحولات وتقسيمها إلى مرحلتين: الأولى سبّبت الحرب العالمية الأولى وعاصرتها ثم تلتها، وكان عنوانها الأبرز إعلان وفاة الرجل المريض وقتها (الدولة العثمانية) وتقاسم تركته، وإعادة توزيع النفوذ بين القوى الأوروبية على ضوء نتائج الحرب. المرحلة الأخرى وهي الأهمّ نسبياً: تلت الحرب العالمية الثانية ورافقت ما سمّي الحرب الباردة وصعود حركات التحرر الوطني. كان من أبرز ما لحق المنطقة العربية من تطورات في المرحلتين التي أسلفنا تشكل وظهور ما بات يطلق عليها في الأدبيات القومية ثم في غيرها لاحقاً الدولة القُطرية. تعاملت التيارات القومية معها في الغالب كحالة شاذة ومعيقة لدولة الوحدة العربية المنتظرة، وفي أحسن الأحوال حالة عارضة ومؤقتة في صيرورة التحول إلى الوحدة العربية. عدا عن الصفات التي ألصقت بها وبنشأتها من قبيل أنها صناعة استعمارية وذات حدود مصطنعة ويرتبط مستقبلها بالتالي “بدحر الاستعمار وتصفية مصالحه والقضاء على عملائه في المنطقة”. في حين تم تناولها من قبل آخرين من حيث هي دولة النظام العربي الوظيفي التابع ضمن معادلات الحرب الباردة ومصالح قطبيها العملاقين.
ومع أواخر القرن الماضي ونهاية الحرب الباردة وما رافق ذلك من تغييرات بارزة في خريطة العالم الجغرافية والسياسية كثر الكلام عن نهاية دور الدول الوظيفية في منطقة الشرق الأوسط. تزامن هذا مع تعرية الدولة القُطرية وانكشاف أزماتها المزمنة بعد زوال توازناتٍ كثيراً ما اعتمدت عليها الأنظمة العربية في بقائها واستمرارها. تلك النظم المساهمة في خلق الأزمات والعيش على الابتزاز من خلالها. ثم ليشتد الحديث ويتناول بلهجة أكثر وضوحاً أنظمة تلك الدول مطلع القرن الحالي. ووُضِعت سيناريوهات لإعادة رسم خريطة المنطقة مع احتلال العراق وتموضع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة كفاعل أساسي مباشر دون حاجة لوكلاء أو وسطاء.
إن أبرز الأزمات التي تعاني منها المجتمعات و”الدول القُطرية” في المنطقة العربية ـ كما نرى ـ تتمثل في تمزق الهوية الوطنية إن لم نقل بعدم تبلورها. ويتجلّى ذلك بوضوح من خلال الانتماء للجماعات القبْلية (بتسكين الباء) القبل دولتية من تنويعات العشيرة والقبيلة والطائفة والجماعة العرقية أو الإقليمية. من حيث أن اللجوء إلى تلك الانتماءات بدءاً كان تعويضاً من قبل عامة الناس ـ ونتيجة ـ لفقدان شعور الانتماء للدولة الوطنية الحديثة، حلم النهضة الموؤود. وبالتالي سعياً موهوماً لتحصيل حقوق مفقودة بسبب غياب فاعلية المؤسسات الدستورية المختلفة وتلاشي دورها بعد تغوّل السلطات وإكمال ابتلاعها لمختلف مفاصل الدولة والمجتمع. عزز ذلك اعتماد النخب الحاكمة داخل الدولة على الولاءات الجزئية بمستوياتها المذكورة كافة، ما يؤدي إلى أن تمثّل تلك المستويات تدريجياً هوية نهائية قي وعي الأفراد وبديلاً واقعياً عن المواطنة. ولا يقل كارثية عن هذه المشكلة ما يعتقده الإسلاميون على اختلاف مشاربهم حلاً، من حيث طرحهم لفكرة الهوية الإسلامية. وليس آخرهم الشيخ صلاح علي النائب الثاني لرئيس مجلس النواب البحريني وهو من الإخوان المسلمين حيث اعتبر أن الإسلام “يمثل جوابا حاسما لمشكلة الهوية” في مداخلته أمام مؤتمر تحت عنوان (الهوية الوطنية في الخليج العربي- التنوع ووحدة الانتماء) عقد على مدى يومين في البحرين منتصف الشهر الماضي. وقد عبر كثير من المشاركين فيه عن مخاوف طائفية من خلال مداخلات عدة. ويؤكد قولَنا ما أورده سيد القمني باستفاضة حيث يشير إلى أفكار الإسلاميين وتوجهاتهم في مسألة المواطنة والهوية منبهاً لخطورتها. من ذلك الحديث عن ((. . فكرة الوطن الجماعة وصولاً إلى تكفير فكرة الوطن الأرض لأنها تقسيم لبلاد المسلمين)). (( كل من كان غير مسلم . . ناقص المواطنة لأنه ليس عضواً في الوطن الجماعة. ومنذ أن قرر سيد قطب أنه (لا وطن لمسلم ولا جنسية . . ولا اعتزاز بوطن ولا أرض) وفكرة الوطن الجماعة تتصاعد وتنتشر)). (( إن المناهج السعودية مثلاً ترى أن (الفكرة الوطنية هي عقوبة لبعض الشعوب الإسلامية) التوحيد ـ ثالث ثانوي)). (سيد القمني، أهل الدين والديمقراطية، الطبعة الأولى، دار مصر المحروسة، القاهرة 2006، ص 215 وما بعدها).
ونستطيع أن نسحب الكلام ذاته على التعصب للمذاهب داخل الإسلام، وهو ما لمسناه بشدة في عراقٍ يريده بعض المتعصبين سنّياً وآخرون في الجهة المقابلة شيعياً. أدواتهم القتل والتهجير الطائفيان والضحية الإنسان العراقي وهويته الوطنية والعراق بلا أدنى شك. ولنا في لبنان من غير حاجة للشرح المثال والعبرة المستمرة لسرطان الطائفية وما ينتج عنه. من هنا أمكننا اعتبار الطائفية واحدةً من أخطر ما نواجه إن لم تكن الأخطر. ويمكن في سياق حديثنا أن نستخدم تعريفها كالآتي: الطائفية هي التصرف أو التسبب في القيام بعمل بدافع الانتماء إلى مجموعة دينية معينة. (نيكولاس فان دام، الصراع على السلطة في سوريا، الطبعة العربية الثانية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995، ص 7). ما يدفعنا للوقوف ملياً أمامها بما لها من تأثيرات سياسية بالدرجة الأولى من حيث قيام الأحزاب الطائفية بتعزيزها، وسحب الطائفة من حالتها الطبيعية أو العادية إن جاز التعبير بما هي عليه كعنصر ضمن التكوين الاجتماعي بتمايزات تفسيرية وسلوكية في إطار إحدى الديانات السائدة في المجتمع. وتحوّل الطائفية وأحزابها بالتالي الطائفة قسراً إلى فاعل سياسي جمعي بديل عن الأفراد المنتمين لها وخيارهم الحر الواعي. فتُختصر المصلحة الوطنية بمصلحة الطائفة والهوية بالانتماء لها ويحتكر الحزب الطائفي الطائفة لتصبح مصالحه هي مصالحها العليا. وتحل الطائفة حتى محلّ دينها الأصلي، ويسمو الحزب على الوطن ويتحول الوطن إلى سؤال عبثي. لتصبح الصراعات المسلحة بين الطوائف لغةً للتخاطب السياسي في المرحلة التالية بما يرافقها من أيديولوجيات تبثها الأحزاب الطائفية المختلفة لتدّعي زوراً أن خلفية الصراع استرداد حقوق اجتماعية أو اقتصادية أو حمايتها والمحافظة عليها.
ندعم قراءتنا بما يخلُص إليه الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز في سياق وصفه للتركيب الاجتماعي العربي: ((.. في جوفه عالم زاخر بحقائق اجتماعية فسيفسائية: طوائف وعشائر وقبائل وملل ونحل تخترق نسيجه بل تعرّضه للتمزيق، ويقف على أعتاب كل حقيقة من هذه الحقائق السوسيولوجية مشروع حرب أهلية صامتة أو مشروع كيان سياسي مضمر!)) (بلقزيز، العنف والديمقراطية، الطبعة الثانية، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2000 ، ص 89).
إننا وإن كنا متفقين مع القائلين بإفلاس الأنظمة القُطرية التي تستحق عن جدارة كل ما يمكن أن توصف به من استبدادها وتخلفها وفئويتها وفسادها وعمالتها وارتهانها للخارج وما إلى ذلك . .، فلن نختصر الدولة القُطرية وأقول هنا الدولة الوطنية بتلك الأنظمة. إنّ الرهان لبناء دولة حديثة لن يكون على الفراغ ولا من ممر الطوائف وأحزابها التي نستطيع الجزم أنها لن تنتج غير سلطات طائفية على شاكلتها. فالدولة القُطرية العربية بصورتها الراهنة تشكل مناخاً خصباً لنمو النزعات الأصولية والحركات الطائفية بقدر ما تكون فاشلة وآيلة للتفكك والانهيار. وهي ذاتها في صيغتها الوطنية العلمانية الديمقراطية ستكون الحصن الأخير في وجه كل مشاريع العودة بالتشكيلات الاجتماعية في المنطقة إلى ما قبل الدولة العثمانية، خارجية كانت أم داخلية. ويمكن أن تُصاغ الهوية الوطنية الجامعة لمواطني الدولة المأمولة بناءً على معطياتها الجغرافية والتاريخية بل وحدودها “التي وضعها الاستعمار”!! تلك الهوية التي تشكل المستوى الحقيقي للانتماء الوطني الحديث في صيغة المواطنة بما تنطوي عليه من مدلولات لرابطة قانونية وسياسية. تحترم في الوقت ذاته وبحيادية وعلى قدم المساواة “الخصوصيات” المفترضة ضمن النسيج الاجتماعي الوطني على قاعدة التنوع الثقافي. والعمل الجاد يكون نحو التأسيس لإعادة الاعتبار للدولة الوطنية ـ القُطرية سابقاً ـ والتأكيد على بنائها وفق معايير العصر وقيم الحداثة فيما لو أردنا الاندماج بالعصر الحديث وتجنب الانقراض التاريخي ونحن نوشك عليه. وليس من المجدي هدر الجهد الفكري أو السياسي في خانة التبشير بزوال الكيانات السياسية القائمة سواء على مذبح الفدراليات التابعة لقوى إقليمية أو الإمارات الإسلامية التي تريد سحبنا إلى قبورها وتسبغ علينا ظلامها. سيكفل اندماج وطني من النوع الذي ندعو إليه تبلور هوية نستطيع الانطلاق منها والحوار كمواطنين متساويين سياسياً وقانونياً. يجُبُّ انتماؤُنا الوطني كل ما دونه من منابتنا الدينية أو الطائفية أو غيرها مما يمكن لتسميتها أن نستعير من أدونيس عنوان أحد كتبه (الهويات القاتلة).
مةقع الاوان