عند نهاية مدارالطفولة
حكايات البؤس السوري
الحكاية السابعة
عند نهاية مدارالطفولة
رفيق شامي
جانيت كانت شريكتي في أولى مغامراتي خارج سور أسرتي وأول من أعطاني عن غير قصد منظاراً سحرياً يُبعد المسافات والأشياء بدل أن يقربها.
لم أدرك أنني أمتلك لغة ثانية، إلا بعد أن تحدثت معها بالآرامية ولم تفهم ما قلته، رغم فهمي لكل قصصها العجائبيــة وأحلامها التي كانت ترويها لي بالعربيـــة. ..ظننت بادئ الأمــر أنها غبية وشعرت بحزن عميق لأنها كانت أحب طفلة إلي من أطفال الجيرة في ذاك البيت الدمشقي الكبير، الذي احتضن خمس عائلات ، عندما بحت لأمي بهمي ضحكت وقالت:”جانيت فهمها قد بلد بس ما بتفهم آرامي إحكي معها بالعربي.”
بلحظات رأيت نفسي أهبط من علو شاهق وسط جمهرة من الغرباء. كدت أسقط مغشياً علي جزعا.
في حدود غرفنا وذاكرتي، كانت الآرامية والعربية قريبتان تسيلان جنباً إلى جنب ، تعلمت الفصل بينهما دونما عناء ، قد لا يفهم آخرون خارج حدود العائلة ما قلت لهم، لكن جانيت بوجهها ناصع البياض وعينيها المليئتين بالأسئلة كانت أول إشارة سجلتها ذاكرتي.. أن هناك من لا يفهمني.
كانت جانيت ذكيــة في كل ما تقول وتفعل، مما دفع أمي للتنبؤ بأنها ستصبح يوما ما دكتورة… كل مَن له قيمــة كانت أمي تصنع منه دكتوراً مستقبلياً.
وأخطأت أمي في تقديرها كما بينت الأيام فيما بعد.
لأن تنبؤها إعتمــد المنطق وحده.
كان أهل جانيت فقراء: أبوها يعمل طباخا في فندق بمرتب زهيد، وأمها خياطة لفقراء الحي المسيحي يَقلبون الثوب ويقصونه عدة مرات ليستروا به جيوشهم الجرارة… كانت أمها أُمية، لكنها امتلكت عبقرية السخرية وكأنها توأم للماغوط، لم أسمع أمي والجارات يضحكن بغبطة إلا عند أم جانيت، كن يحملن القهوة معهن كنوع من المشاركة، لمعرفتهن مدى فقر المضيفة وليسرقن لحظات بهجة، كاستراحة بين جولتين في حلبة صراعهن اليومية.
كنا نطلق جميعا على ذويها “أبو وأم جانو” وجانو هذا تحوير لجانيت يعطي اللفظ نكهة ذكورية، فأبو ليلى يصبح “أبو الليل” وأبو فاديا “أبو الفداء” وهكذا إلى آخر ما هناك من تمويه ذكوري إستمر في دمشق حتى مطلع السبعينيات.
آنذاك فتحت الكنيسة نافذة فضاء للأطفال الفقراء، فزارت جانيت مدرسة كاثوليكيــة للبنات، ولأنها متفوقة تابعت دراستها الثانوية في مدرسة راقيــة للبنات دون مقابل ، كنت واثقاً أن نبؤة أمي ستتحقق – لا محالة.
كانت جانيت الإبنة الوحيدة، وكنا جميعا نحسدها لدماثة أخلاق ذويها وتربيتهم الرحيمة، تحت سقف غرفتهم الوحيدة ساد سلم حقيقي – وليس ذاك الذي يمُثل أمام الغرباء لحفظ ما يُسمى بماء الوجه – بينما دارت في بيوت الجيران رحى حرب ضروس بين الأجيال. شعب من الأطفال عديم الحقوق مشتت تحت سقوف أربعة طغاة ، كنا نفهم بعضنا دون شروح فالأطفال لا يموهون الهزيمة بزخرفات لغوية، هيكلية، قذافية أو فلحوطية، بل يسمونها هزيمة، ومتى غادرت الطفولة قلوبهم يبدأون بالتجميل والتزوير. و أعتقد أن طغاتنا ليسوا سوى تكبير صادق لطغاة العائلة وشعبنا برمته ليس سوى طفل دون حقوق.
الطفولة في حينا كانت سلسلة من الهزائم اليومية يتخللها فترات راحة كما في السيرك، حيث تتباعد العروض المخيفة بفواصل يأتي فيها دورالمهرج بعد عرض الوحوش الضارية ليمنح الجمهور فرصة التقاط الأنفاس. فترات الراحة تلك كانت عند غياب طغاة المدرسة والعائلة. كانت تلك اللحظات القليلة وحشية الجمال، تملك سحراً غريباً.. فهذا الصعلوك يتحول لساحر، وذاك لمصارع أو ممثل، وآخر لراوي أو مطرب، ورابع لمغامر يصبح طرزان بممثله جوني وايسميلير مقارنة به تلميذ مهذب في دير كاثوليكي. حتى أننا إخترعنا لغة لا يفهمها البالغين… حيلة بسيطة تكمن في استبدال أول حرف من كلمة بحرف ثابت مثل الجيم وحشو كلمة لا معنى لها في الحديث سوى أنها تحمل الحرف الذي حذف في مطلعها. جدي بيروت جوح راسي تعني بدي روح (أريد الذهاب) وهي هنا كتابةً أسهل للفهم من تفسيرطلاسمها محكية بسرعة دمشقيــة.
وكان الجارالوحيــد الذي يفهم كل ما نقوله رجل قادم من المستقبل يدعى أمين.
كل منا كان يتحول للحظات إلى آخر جميــل كبير.
كان كل منا يحلم علناً، وبصوت يصم الآذان بما سيفعله عندما يعبرإلى عالم البالغين في نهاية مدار الطفولة.
كنت أُدَّرِس كل من يحتاج من أبناء وبنات الحي دون مقابل (اللهم إلا فنجان القهوة التقليدي)، وحلمت أنني عند نهاية مدار الطفولة سأصبح أستاذاً للكيمياء في مدرسة دمشقية، وكاتباً يحكي قصصاً لأطفال حيه كل مساء ، ويختار أفضلها لينشرها لأطفال آخرين.
ــ عيسى كان أجملنا ، مقارنة به يبدو عمر الشريف بشعاً (وهو كذلك منذ قرأت كتاب إدوارد سعيد الحزين الرائع
Out of Place. A Memoir عن طفولته وعن عمر الشريف وصعقت لما تخفيه مظاهر الرجال الجميــلة من بشاعة خلق). كان عيسى معشوق النساء ولم تخف ذرائعهن على أحد في البحث عن مناسبة لضمه أو التصبب عليه، والصبابة تعادل نصف ضمة.
ــ يوحنا كان أكثرنا مسالمة، والوحيد الذي رفض كل أنواع العنف حتى في المُزاح. كان يكره كل مظهر عسكري. في منتصف الستينات عُسكرت المدارس، ووقف يوحنا وهو لم يبلغ بعد سن الرابعة عشروحيداً يرفض التدريب العسكري.
ــ جريس كان أمهر خبير كهربائي عرفه الحي، عبوساً لا أذكرإلا ضحكة واحدة يتيمة أفلتت من حلقه عندما تكهرب أبوه وسقط عن السلم.
ــ سمعان صاحب الأنف الأكثــر حساسية للعطور، والذي بدأ بمزج وتطوير عطورات وهو في السابعة. في العاشرة بدأ بالتجارة، حزين على الدوام سميناه العامودي.. نسبة إلى القديس سمعان العامودي ، الذي اشتهر مع طائفة من المهابيل بالعيش على رأس عمود حتى سقط ميتاً ( صارت مازوشية الحياة فوق العواميد الشاهقة موضة في ذلك الزمان وحتى لمن يصاب بدوار نتيجة العلو الشاهق بنوا له فوق درابزينا ليقيه من السقوط).
ــ إيليا الطفل اليهودي، الذي فضل دوماً اللعب في حينا عنه في حيه المجاور، كان خبيرنا في كل أنواع المنسوجات، وأوقحنا في الحديث الجريء عن الأهل… نظرته الساخرة للذات وجدتها في صفحات الكتاب العالميين فيما بعد، من أمثال الألماني توخولسكي و الكاتب والممثل الأمريكي وودي ألن.
ــ إلياس عبقري الأرقام، الذي سبق أساتذة الرياضيات في كل عملية حساب معقدة، حتى صاروا يتحاشون سؤاله. وهو أول من علمني أسراراً في الرياضيات لم أرها في كتاب، إلا عند دراساتي العليا للرياضيات والفيزياء في المانيا ( قواعد غاوس Gauss).
ــ سميرة عالمة النفس بنظارتها السميكة، التي حولت عينيها لدوامتين يغوص فيهما كل من يحدق النظر فيها، فيصاب حيالها بما يشبه الدوار. كانت تفسرأية ظاهرة وخاصة الأحلام بما في داخل النفس ( أي بنظرة إلى ما حدث في الماضي وليس كتفسير الأحلام العربي السائد آنذاك التي تعتبر الحلم نظرة إلى المستقبل وتنبؤ لما سيحدث) وكأنها إبنة لفرويد دون أن تسمع بإسمه.
ــ ناديا الرياضيــة، التي كانت بقوة ثلاثة صبيان تلقيهم أرضاً، وتقول أنها تلتهمهم بدون ملح، بدءاً من الرابع كان عليها إجهاد نفسها بعض الشيء… حلمها الكبير التغلب على كل مصارعي الأرض واحداً بعد الآخر في حلبة مصارعة تحت الأضواء، وتعلق بعدها نياشين فوزها على صدر أمها وكانت أمها فخورة بها إلى حدود العبادة.
ــ مروان حَلال المشاكل، الذي تدرب في البيت لأن أبوه ” نسونجي” وأمه تريد الطلاق، لكنها ككاثوليكية لم تستطع لذلك سبيلاً.
ــ بطرس الاقتصادي، الذي يشرح لك أية مسألة من سوق الخضار وحتى مانهاتن.
ــ يوسف الطيار، الذي حلم بالتحليق فوق عباد الله ومعمورته وقرر أن يبني بنفسه شركة طيران تنفق أرباحها بإلقاء كميات هائلة من الشوكولاته فوق أحياء الفقراء في العالم..
ــ جميل المخترع، الذي كان بعبقرية لا مثيل لها يحول كومة من الخردوات إلى آلة.
ــ سلوم الناقد السينمائي، الذي تابع كل أفلام دمشق بمثابرة مدهشة، يحضر إلى ذاكرتي كلما شاهدت فيلما سيئاً فهو أول من قال لي: الفيلم السيء يدربك على النقد.
كنا جميعا في تحول مستمر، قبل عبور البوابة إلى عالم البالغين ….
إلا جانيت فقد بقيت جميلــة. كانت تنظر إلينا بشفقة من يعلم ثمن الوقت المهدور في طفولتنا… كانت مجتهدة إلى حدود الإنهــاك، صبورة وعنيــدة بلطف يموه إرادتهــا الحديدية.
وعبرنا البوابة ولم ندرِ أن وراءها جهنم!!… لم ندر أننا سنبكي شوقاً لطفولــة كنا نتسابق للتخلص منها.
لاحقتني التقاريرمن الجامعة إلى درعا فالسويداء، ثم إلى قرية الشجرة في نهاية العالم على الجبهة، وهل يصدق كائن بشري عقلاني أن أحد التقارير كتبه مديرالمدرسة بحقي لأني رفضت إدعائه في نقاش دار بين الأساتذة عن أسباب هزيمتنا المشينة عام 1967 فلم يجد هذا الغبي سوى تفسير أن السوفييت لم يعطونا الشبكة الواقية، وهي شبكة من معدن سري ينشروها فوق بلادهم لتلتقط كل الطيارات التي تحاول إختراق حرمة أجوائهم!!. كنا جميعاً مبعدين إلى “سيبيريا السورية” كما سماها س. ل. الذع الأساتذة لساناً. وس. ل. هذا همس فيما بعد في آذان بعض منا ممن تناوله تقرير المدير. قريب له في مخابرات الجبهة كان يستلم التقارير ويمزقها لأن س. ل. كان ينال حصة الأسد فيها. كان ليبرالياً ملحداً وكان المدير في شبابه من الإخوان المسلمين إبتزته المخابرات بعد إعتقال وتعذيب.
وأنقذت نفسي ولساني لأسقط في براثن المنفى بعيدا عن كل ما أحب… بعيداً عن دمشق وأمي.
* عيسى أصبح ممثلاً من الدرجة الرابعة، لأنه لم يحظ بأية عناية فنية.
* يوحنا رفض حمل السلاح وطرد من المدرسة بأمر خاص من وزارة التربية، ولم يفر… يا إلهي كم بطل وبطلة في هذا الوطن!.. بعد سنتين سيق ( هذا هو التعبير الرسمي، لأننا في نظر الطغاة قطيع يُساق) للخدمة العسكرية، فرفض أن يحمل السلاح وحُوِل من قَبِل قائد المعسكر الحكيم للعمل في المطبخ… لكن قائداً جديداً للمعسكر صب من الأسبوع الأول لتوليه السلطة جام ساديته وعقده النفسية على يوحنا، ولم يعلم أن صاحبنا يملك قلب فهد جريح… بعد تعذيب وحشي نقل يوحنا إلى المستشفى ومن هناك إلى تدمر ولم يخرج.
* جريس هاجر إلى السعودية وانتزع من الرمال الساخنة لقمة عيش لإخوته التسعة مدة عشرين سنة ، ليموت وحيداً غريباً بعد أن أوصلهم لبر الأمان.
* سمعان درس الحقوق ونسي العطور، لأن جارة قالت له أن سحنته الحزينة وصمته لا يصلحان لبائع عطور، وبما أنه لم يمتلك قدرة على الكلام تتطلبها المحاماة غادر مكتب المحامي الشهير، الذي بدأ التدرب عنده، فدخل سلك الشرطة وانتقل تحت إمرة البعث إلى المخابرات، وقيل الكثير عن ساديته في الإشراف على التعذيب، وقد وضع الأخوان اسمه في قوائمهم السوداء… اختفى بعد تسريحه بسنوات.. ويقال أنه مدرب للمباحث في اليمن.
* ايليا هرب إلى قبرص ومنها إلى إسرائيل.
* إلياس لم يستطيع لفقر أهله المدقع أن يدرس في الجامعة، توظف في البنك بمرتب ضئيل واعتقل في الثمانيات بتهمة انتمائه لتنظيم شيوعي، عذب بوحشية وخرج في أواسط التسعينيات نصف مشلول.
* سميرة أجبرت بعد ضرب مبرح وهي لم تتجاوز العشرين على الزواج بإبن عمها الذي تكره… انتقلت إلى الشمال ومات خبرها.
* ناديا اغتصبها أستاذ الرياضة، وأجبر دون قضاء بمسدس على صدغه أن يتزوجها… أنجبت – انتقاماً – عشرة أطفال وصار زوجها بوظيفتين، أستاذا في النهار وعامل فندق في الليل ، استدارت ناديا واكتنزت كيقطينة.
* مروان سحقه النزاع الدائم بين أبيه وأمه الثائرة أبداً لكرامتها والوحيدة في كفاحها، إذ أن محاولتها الفريدة باللجوء لأهلها باءت بالفشل، فلقد أعادها أخوها قسراً لذلها متحزباً بذكوريةً لصهره… صار مروان يخشى مواجهة الناس خجلاً واختفى بريق عينيه… هام على وجهه ، ويقال أن سيارة دهسته على طريق حلب.
* أما بطرس فقد بدا وكأنه على الطريق إلى مانهاتن ولم يدر بعد أن البعث سيأتي… أسس في أواسط السبعينات شركة مع صهر أو إبن أخ للسلطة ظاناً أن هذا الطريق الأقصر لمانهاتن، لكنه اعتقل فجأة وصودرت كل أمواله المنقولة والغير منقولة…”راح خرى سمك” كما يقال في حينا، أي دون أن يترك أثر.
* يوسف الطيار سقط 1973 شهيداً في معركة جوية فوق الجولان، دون أن يتمكن من إلقاء لوح شوكولاتة واحد.
* جميل اخترع عدة آلات صغيرة، ثم قرر أن يتحدى التأخر فصمم طائرة صغيرة وأمضى السنين باحثاً لاهثاً عمن يساعده مادياً لتسجيل الإختراع ولفتح معمل خاص. فطائرة كهذه.. قد تكون صالحــة ليس فقط كلعبة، وإنما أيضاً لأغراض عسكرية. “وبعدها ومتى توفرت لي النقود” أكد لي في مطلع كل حديث طويل وأوراق تحمل تصاميم دقيقة وأختام وطوابع أنه سينتج أول طائرة سورية للركاب…. فشل فشلاً ذريعأ في إيجاد من يصدق اختراعه، ناهيك عن إيجاد من يساعده… وطار عقله.
* سلوم عمل كناقد مسرحي وسينمائي لفترة في جريدة يوميــة للبعث، ثم في جرائد لبنانية عديدة ثم اعتقل وهو يحاول الهروب إلى بيروت واختفى أثره.
يقال أنه حاول تهريب فيلم وثائقي خطيـــر والله أعلم!!.
* وأما جانيت فقد بدأت دراستها الجامعيــة للطب وأصبح وقتها أضيق فأضيق، لكنها كانت تمنحني بكرم لحظات تروي لي فيها خططها الطبية الإجتماعية لتحويل حينا الشعبي إلى قدوة صحية. .. “للسويسريين والسويدين؟” سألتها ساخراً فضحكت بوجهها الملائكي. “ليش لا؟” قالت بعزم وثقة.
فجأة همس أحد شبان الحي في باص مزدحم وأنا في الطريق من الجامعــة إلى البيت، أن جانيت أسلمت من أجل صحفي بعثي أصبح مسؤولاً في التلفزيون السوري، وأضاف جملة لم أفهما إلا بعد سنين… “نقص عددنا واحدة من أذكى وأجمل خلق الله”، قالها بأسى العاشق الخاسر ….كان الرجل شيوعياً مثلي!!… احترت في أمره وهو الملحد عن قناعــة أكثر من حيرتي بهذا الخبر المفاجىء.
كان عويل أمها، .. الذي لم أسمعه من قبل.. يملأ الفضاء ويُسمع حتى منتصف الحي، وظن كثيرون أن جانيت أو أباها قد أصابهم مكروه، عبرت باب البيت المفتوح ( آنذاك كانت أبواب بيوت الحي كلها مشرعة) وعجبت لجمهرة من نساء الحي يهدئن خاطر أم جانيت، كانت أمي وعدة جارات يشاركنها البكاء.
” ليش أنا يا ربي؟” كانت تصرخ… هذا النداء الذي اعتدته من أمهات عند موت مفاجئ لابن أو بنت في ريعان الصبا.
استغربت النواح على إمرأة ذكيــة غادرت حدود الطائفــة، لتعانق بحبها الكون الإنساني ولتصرخ بمثالها في وجه مقابر العداء وهاوية الكره الطائفي.
جانيت ثارت على العائلة والطائفة والمجتمع ورجال الحي الذين حلموا بها زوجة.
كم ثورة تقوم بها إمرأة في خطوة كهذه ؟
الثورات تثيربطبيعتها الغبار وتبهر العيون بضوئها الوهاج فتختفي تفاصيل الأشياء.
هذه طبيعة كل الثورات، صغيرة كانت أم كبيرة… منذ أول ثورة لعبيد مصر، إلى القرامطة فالثورة الفرنسية والبلشفية والصينية وحتى كوبا، كان حفاري قبور الثورات يرافقونها منذ ولادتها دون أن ينتبه لخطرهم أحد لكثرة الغبار والضوء الساطع.
جانيت لم تعرف بضميرها البريء أن للثورات ــ حتى الصغيرة منها ــ وجه آخر مُدمِر.
ولأن مغادرة الدين لاتجري في بلادنا إلا في إتجاه واحد على حساب الأقليات الدينية يشعر المسيحيون واليهود حتى الغير متعصبين بخسارة كلما أعلن أحد أبناء الطائفة إسلامه.
أبو جانيت هرب من الحي خجلاً… تاركـاً بجبن منقطع النظير زوجته لألسنة الشامتين… يقال أنه هرب لأمريكا، ويقال ويقال، وبقيت الخياطة في لباس الحداد، ورفضت كل محاولات جانيت للصلح في السنين التي تلت، وخسر الحي تلك الضحكة المدوية لخياطته.
مآسي بحجم السماء، لكنها تصيب صغار الناس.. لا تهم أحداً سوى من تقع فوق رؤوسهم.
قابلتها صدفة بعد سنة في حي المهاجرين، كانت نحيلة باهتة اللون مثقلة بالهموم ولم ترغب بالكلام عما يثقل كاهليها، لكنها أكدت لي أنها لا تعتقد بالإسلام ولا بالمسيحية، وهذا ما جعل تلبية طلب زوجها وحبيبها سهلاً، كي لا يخرج عن عائلته المحافظــة. وأردفت أنها تعتقد كالفيلسوف الصوفي إبن عربي، الذي خرجت لتوها من زيارة ضريحــه أن الحب هو الدين الوحيد لكل البشر ورددت لي بيته الأكثر شهرة:
أدين بدين الحب انى توجهت ركائبه
فالحب ديني وإيماني.
بعد أربع سنين وثلاث أطفال ، هرب الصحفي البعثي إلى بغداد.. ويقال أنه أنقذ رقبته في اللحظة الأخيرة في دمشق ليخسرها بعد تصفية صداميــة في بغداد ويقال ويقال…
في بغداد اختفى أثره.
وجانيت؟
لم تدفع لحسن حظها حياتها ثمن ثورتها كما هو المعتاد في مجتمعنا.
لكنها بقيت مع أطفالها في فقر مدقع
شاهداً على نقص عقول الرجــال.
بقيت
وحيدة وراء بوابة الجحيم في نهاية مدار الطفولة.
خاص – صفحات سورية –
الحقوق محفوظة للكاتب ولصفحات سورية