وداعا أيها الأمير.. خواطر في خسارة صديق كبير
رفيق شامي
يا هول المفاجأة. أتيت للبيت منهكا بعد سفر متعب ووجدت الخبر على مسجل تلفوني الآلي: صوت صديقي عصمت إميرالاي يخبرني أنه مسافر لأن عمر في حالة صحية خطيرة. أول ما طرأ لبالي كسوري عتيق أن هذا الإنسان الكبير تعرض لهجوم من سفلاء لم يخجلوا من إهانة العديد من المثقفين الرائعين كسمر يزبك ونبيل سليمان وغيرهم ولا حتى كان لديهم حس بالخجل من مهاجمة ثلة من الشبيبة المسالمة في حي باب توما الذين وقفوا يحملون الشموع تضامنا مع إخوتهم المصريين…
لم أبالغ بخشيتي خاصة وان لسانه المغلف بحرير التربية الرفيعة كان أمضى من الفولاذ الدمشقي… هذا لمن يملك أذن وعقل ليسمع ما يقوله الرجل ويفهمه… تجولت بين كل المحطات… لا شيء يذكر عن سوريا ولا تزال مصر تحتل الصدارة وبجدارة وإستحقاق في كل الأخبار، مصر وشعبها العريق الذي إفتتح القرن الواحد والعشرين بأول ثورة سلمية في التاريخ، ثورة يشترك فيها شعب بكامله دون عنف ليطرد طاغية وحرامي كبير مع بلطجيته ومخابراته الدموية.
كم هللنا عمر وأنا على الهاتف بعد شرارة الثورة التونسية المجيدة وكم عصر قلبنا الخوف قبل أيام عندما ناقشنا إمكانيات محتملة للإلتفاف على الثورة المصرية يقشعر لها البدن…
ذهب عمر دون ضجيج، كعادته رقيق الخطوة مبتسما… هذه هي ذكرى وجهه عند وداعه في مانهايم عند آخر لقاء قبل أن يعود لدمشق في نهاية العام الماضي بعد زيارة طويلة لأخيه وكانه اراد وداعنا نهائيا…
…لم يفارقني الإنطباع طوال فترة لقاءاتنا أن قلب عمر متعب منهك، لا تكفي إبتسامته لتغطية جروحه التي سببها “ظلم ذوي القربى”…كان يردد كلما مدح أحدهم أفلامه: “سبع سنين لم أخرج فيلما واحدا”. اليوم يرقص من كم فمه فقد ذهب مقلق مضجعه، يرقص وكأنه حرر الإسكندرون. يا لقبح مكممي افواه شعبنا وذلهم أمام أعداء الوطن.
لم أفلح بالوصول لعصمت ولا أجاب أحد على رنين الهاتف في دمشق… فجأة سمعت صوت هاتفي في مكتبي وقلت هذا عصمت عسى الأمر خيرا… كان صوته مكسورا كالزجاج بالف شظية أخبرني من مطار فرانكفورت أنه مسافر لدفن أخيه… صعقني الخبر ولم أجد سوى بعض نتف من كلمات الحب والصداقة لهذا الصديق لأعزيه في مصيبته فأخوة عصمت لعمر كانت من نوع خاص جدا. عصمت الصوفي الهادئ والخطاط والفنان الرائع لعب منذ وفاة الأب المبكرة دور الأخ والأب والصديق الوفي لعمر أميرالاي…
تعرفت على عصمت في عام 1974 في مدينة هايدلبرغ حيث طلب مني تقديم أمسية لأفلام أخيه عمر وكان الحضور جيدا والأفلام نقدية وبإنتاج مؤسسة السينما السورية التي حجبتها ومنعت عرضها فيما بعد… وما أن إنتهيت حتى صرخ أحد البعثيين (أصبح فيما بعد تاجر سلاح وسيارات) أن ما اقوم به خيانة للوطن… قلت له هذه أول مرة اسمع بها ان عرض فيلم من أفلام مؤسسة السينما السورية صار خيانة لمجرد كونه نقدي… ضحك الجمهور على الأهبل، لكنه لم يفعل إلا بما أوعزت له به السلطات وهذا الجنون سيصبح فيما بعد قانون السلطة العربية المقدس الأول: كل نقد لمساوئ وأخطاء وإجرام السلطة يعتبر خيانة للوطن السوري إن لم يكن خيانة للعروبة والكرة الأرضية برمتها.
وظللت أكرر ذلك لعمر فيما بعد مبتزا ضحكته الجميلة: كنت أقول له أنني صرت خائنا لأول مرة عبر أفلامه وفيما بعد تكررت خياناتي بالروايات التي كتبتها وبمحبتي لدمشق وكرهي لكل من يبعدني عنها.
عمر أميرالاي سيظل بيننا بأفلامه التي لا تهرم لأنها فن رفيع، سيظل بإبتسامته وكرمه وذكائه وحرصه على الوطن وعلى دمشق بالذات… عمر كان معلما بفلسفة خاصة وجرأة منقطعة النظير ليس فقط ضد أية سلطة بل ضد كل ما هو ثابت حتى ولو كان ذلك في ذاته… وكم أغناني الحديث معه عندما كان يلقي عصا ترحاله عند أخيه بقربي ونلتقي لنكمل ما بدأنا بنقاشه… وفي تلك اللقاءات إكتشفنا أننا كنا نزور نفس المدرسة “الكلية البطريركية في حارة الزيتون في الحي الدمشقي المسيحي” وكم كنا نضحك لذكرى أساتذة وكهنة كانوا قساة إلى حدود غير معقولة… وفي تلك المدرسة بالذات درس أولاد نوري الشعلان المهرب الكبير وزعيم قبيلة بدوية ومرافق لورنس العرب عميل المخابرات البريطانية… وتريد الأيام والصدف أن يقتل والد عمر وعصمت أثناء مطاردته لإبن الشعلان هذا…
… عاد عمر إلى دمشق بعد جهاد مثمر طويل في فرنسا صنع فيه إسما كبيرا له…عاد ليمنع القائمون على إدارة مزرعة سوريا بمنعه من العمل. سبع سنين عجاف… وكنت آمل بسبع أخرى خيرة لكن عمر ليس يوسف التوراتي… لم يكل ولم يمل… ولم تخرج تظاهرة لأجل الديمقراطية والحرية ولا صدر بيان لمثقفين إلا وكان عمر بينهم وآخرها قبل أسابيع تضامنا مع شعبي تونس ومصر… لم يترك ثغرة إلا وظفها لمصلحة الحرية وكنت أقول له أحيانا “أنت سيد الثغرات” فيضحك ضحكته الخجولة الجميلة… ويتهمني بالمبالغة… لكني كنت محقا فكيف لي تسمية تجربته الرائعة التي سعى فيها مع صديقه الحميم أسامة محمد لإيصال أفلام سورية رائعة لأهلنا في الجولان وللحوار مع المشاهدين عبر الأقمار الصناعية مباشرة محطمين كل الأسلاك والحواجز وحقول الألغام… اليس هذا إستغلال ثغرات بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالعبقرية…
ثم أتى هاتفه يخبرني أنه بصدد تجميع كتب عربية للجولان فعرضت عليه مع عصمت أخيه مئات الكتب وتعهدنا بتجميع أضعافها في المانيا…
كان حضوره لألمانيا فرح لنا جميعا وكان يهتم وبفضول السينمائي بكل التفاصيل التي يحاول كل إنسان إخفاءها لتظل الصورة التي يعطيها للآخرين توافق تخيله لنفسه… عمر حدد لي أهم نقطة في عمل السينمائي الوثائقي أن ينظر إلى الإنسان خلف القناع… وأنا أتذكر الآن والألم يعصر قلبي كيف كان يحنو على كل صديق وكيف كان يفتح صدره حتى لخصومه… كيف كان يصغي بتركيز لكل ما يقوله أحد الحاضرين في هذه الأمسية السينمائية أو تلك… عندما كرمه السوريون في المغترب الألماني بالإحتفال بأفلامه بعرض خاص في سينما في مدينة مانهايم الصناعية تكفلت تقديم الفيلم وترجمة الحوار مع الجمهور… وصرت كل يوم أتلفن له وأنا أحضر الكلمة وأجوبة وأسئلة… وكان يضحك ولا يعتقد أن الناس ستتذكره. وغصت القاعة بالحضور الذين كرموه وكان لي الشرف الكبير أن أرافقه وأن أتمتع بهدوء حضرته الجميل… وثقته بكل ما قام به… وفرحت معه لأن أحدهم أنزل أخيرا أفلامه على اليوتوب حيث يمكن مشاهدتها… وهذه كانت قفزة إلكترونية فوق حاجز االصمت الذي قامت به مؤسسة مهترئة جاهلة يسمونها خطأ وزارة الثقافة… وما أن إنتهى الحفل السينمائي حتى بدأ الجزء الأهم في كل لقاء مع عمر أميرالاي. الفرح بشخصه… هناك بعض من المفكرين والفنانين من الأفضل لك ألا تقابلهم لأن عملهم الفني الرائع بعكس شخصيتهم الصعبة إن لم نقل المهترئة كذبا وخداعا… أما عمر فكان كإنسان رائعا كريما محبا للمرح والحياة…
سافتقد ضحكتك ياعمر…
يا إلهي، ما هذه الدنيا السخيفة أن يموت عمر ويبقى هؤلاء الحقيرين من أمثال حسني مبارك وبن علي وبوش ونتانياهو وكل القرطة البالية…
… راح عمر وما يفيد البكاء، خسرت سوريا ودمشق أحد أفضل أبناءها الرائعين ممن نقدوا الأوضاع السيئة لأنهم يحبون سوريا ويعشقون دمشق، كل أفلامه تنطق بالحب لكل قادر على الرؤية والسماع… وسيظل صوته الحنون الذي رافق أغلب أفلامه يراود ذاكرتي… يذكرني دوما ألا أفقد الأمل فدمشق كبيرة بأهلها وأبنائها وبناتها وتستحق الصبر والإستمرار بالأمل…
.. عمر سيكون ثالثنا كلما قابلت أخيه عصمت فعمر سيعيش في قلبي مادمت حيا.
رفيق شامي: روائي – المانيا
الشرفاء و المرههفون هم الذين يرحلون. عمر العزيز رحل مسرعا يا اصدقاء