مجزرة قرية بلغة التركية: من الأفواج الحميدية إلى حراس القرى
بكر صدقي *
كان لأهالي قرية بلغة (ولاية ماردين جنوب شرقي الأناضول) التي تعد نحو مئة نسمة، موعد، في أوائل أيار (مايو) الجاري، مع مجزرة تقشعر لها الأبدان، حين هاجم خمسة رجال مقنعين حفلة عرس في القرية وقتلوا 44 شخصاً، ولم ينج سوى ثلاثة جرحى ظن القتلة أنهم ماتوا.
ثمة إجماع بين من تناولوا الحادثة في الصحافة المكتوبة، على أنها سابقة في الحياة العامة في تركيا، وفي حين برّأ وزير الداخلية بشير آتالاي حزب العمال الكردستاني من الاشتباه بضلوعه في المجزرة، استبعد معظم المعلقين الطابع الثأري العشائري أو الخلافات الدموية على «الأرض أو العرض»، وهي الأسباب التقليدية الشائعة في جرائم القتل في تلك المنطقة الريفية ذات الغالبية الكردية. فجرائم الثأر أو الشرف أو الناجمة عن خلاف على ملكية الأرض، لا يخفي فيها القاتل وجهه، لأن الدافع معنوي أصلاً ويشترط الجهر والإعلان، فضلاً عن أنها لم يسبق أن بلغت أبداً هذه الوحشية في عدد الضحايا كما في جنسهم وأعمارهم (نساء وأطفال) كما في دقة التخطيط والتنفيذ.
وبرغم إلقاء سلطات الأمن القبض على عشرة أشخاص يشتبه في صلتهم بالجريمة، بقي القتلة ودوافعهم مجهولين، ذلك أن الموقوفين آثروا الصمت وإنكار التهم الموجهة إليهم.
هل هي حادثة سياسية إذن؟ فالحياة السياسية التركية معجونة بالعنف والاغتيالات الفردية والجماعية، وثمة 17 ألف جريمة قتل قيدت في سجلات القضاء التركي ضد مجهولين، استهدفت في غالبيتها أكراداً في جنوب شرقي الأناضول، يعتقد أن للجيش والمخابرات التركية أو بعض جهات فيهما دوراً فيها.
وحضور البعد السياسي، وإن مداورةً، في محاولات تفسير المجزرة بفاعليها ودوافعها، له ما يبرره في أن سكان القرية المنكوبة ينتمون جميعاً إلى «حراس القرى» وهم مجموعات مدنية مسلحة من أكراد المنطقة مرتبطة بالأجهزة العسكرية والاستخبارية، تم تسليحها لمواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، تشكلت في عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال، وما زالت قائمة إلى اليوم. عدد «الحراس» غير معروف بدقة، لكن عدد الجرائم التي ارتكبوها – المعروف منها – يتجاوز 12 ألف جريمة. فهذه المجموعات غير الخاضعة للانضباط العسكري، والمحمية من الدولة، غالباً ما استخدمت السلطة الممنوحة لها لاعتبارات شخصية أو عشائرية، مصالح أو خصومات أو أعمال ثأرية، معتمدة في ذلك على أن العقاب لن يطالها، وهو ما كان يحدث فعلاً.
يضاف إلى الإفلات من العقاب، المنافع المادية التي حصل عليها حراس القرى، طيلة العقود الثلاثة المنقضية. ففضلاً عن المرتب الشهري والسلاح والذخيرة، وفضلاً عن مشاركة كثيرين منهم في أعمال تهريب المخدرات التي تشرف عليها مافيات نافذة لها امتدادات مفترضة داخل صفوف الجيش، استفاد كثيرون من الاستيلاء على ممتلكات من تم تهجيرهم من آلاف القرى الكردية (تتحدث المصادر عن أكثر من 4 آلاف قرية) التي أحرقتها قوات الجيش والدرك وأفرغتها من سكانها الذين فروا إلى المناطق الغربية من البلاد، في ثمانينات القرن الماضي، بذريعة العمليات العسكرية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني. فقد لجأت السلطة إلى سياسة الأرض المحروقة بسبب فشلها في السيطرة على مناطق آهلة بالسكان يتمتع فيها الحزب الكردي المسلح بنفوذ شعبي واسع.
التفسير الأقرب إلى المنطق الآن لمجزرة قرية بلغة، هو أن المهجرين قسراً خارج منطقتهم، عادوا في السنوات القليلة الماضية، وفشلت إحدى العائلات العائدة إلى القرية المنكوبة في استعادة أراضيها الزراعية التي استولى عليها حراس القرى في غيابهم، بالوسائل السلمية والقانونية، ومن المحتمل أنها ارتكبت هذه المجزرة بدافع اليأس من إنصاف الدولة لحقوقها، وكان الهدف منها القضاء على عائلة جلبي (من حراس القرى) قضاءً تاماً ليتسنى لها استعادة ممتلكاتها.
أعادت المجزرة إلى واجهة الاهتمام العام، إذن، موضوع حراس القرى، بين دعاة إلغاء هذه المنظمة الميليشيوية والمدافعين عن ضرورة بقائها، ومن هؤلاء الأخيرين هيئة قيادة الأركان التي قال المتحدث باسمها إن إلغاءها يشكل خطراً على الأمن القومي.
وتعود فكرة تشكيل ميليشيات كردية لمواجهة حزب العمال الكردستاني إلى فلسفة حكم قائمة على مواجهة الخطر الكردي بالأكراد أنفسهم، منذ أنشأ السلطان عبد الحميد الثاني «الأفواج الحميدية» -نسبةً إلى اسمه- من بعض العشائر الكردية السنية، وكانت الغاية من إنشائها مواجهة الخطر الروسي في الشرق وصعود الحركة القومية الأرمنية. لكن تلك الميليشيات كثيراً ما استخدمت السلطة الممنوحة لها لتصفية الحسابات مع عشائر كردية أخرى، وخاصة تلك المشكوك في ولائها للسلطة المركزية. كان من اللافت أن الدولة استبعدت العشائر الكردية العلوية من الانضمام إلى صفوف الأفواج الحميدية، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى أن العلويين كانوا مهمشين مبدئياً في دولة إسلامية يشكل المذهب السني الحنفي مذهبها الرسمي. وإذا كانت جمعية الاتحاد والترقي التي فرضت الدستور على عبد الحميد الثاني، في الثورة المشروطية (1908)، وباتت هي الحاكم الفعلي، قد حلّت رسمياً الأفواج الحميدية، فقد اضطرت إلى إعادة تجميع العشائر الموالية في منظمة «الميليس» (الميليشيا) التي لعبت دوراً مهماً في حروب البلقان (1912 – 1913). واستمر التمييز بين عشائر موالية وأخرى غير موالية، في الحقبة الجمهورية، فاستخدمت بعض العشائر التي كانت سابقاً ضمن الأفواج الحميدية في ترهيب الأرمن وتهجيرهم إبان الحرب العالمية الأولى (1915)، كما في قمع عدد من حركات التمرد الكردية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. وهكذا حين قررت الدولة تشكيل ميليشيا حراس القرى، في عقد الثمانينات، كان المرشحون الأكراد لعضويتها معروفين لدى استخبارات الدولة لكونهم يتحدرون من تقليد عمره قرن منذ الأفواج الحميدية.
إذا صحت المعلومات المتواترة بصدد «طبخ» الدولة لحل سلمي للمشكلة الكردية، فسوف يكون حراس القرى إحدى المشكلات الفرعية الخطيرة التي على الدولة إيجاد مخرج معقول لها. فالأمر يتعلق بأعداد كبيرة من الأشخاص المتورطين في اضطهاد أبناء جلدتهم والتنكيل بهم في حماية الدولة وأجهزتها، وهناك تراكم للأحقاد يمكن أن يؤدي إلى أعمال ثأرية. لذلك قد يتطلب أي حل سلمي للمشكلة الكردية نوعاً من المصالحة الوطنية ليس فقط بين الأكراد والدولة، بل أيضاً بين الأكراد أنفسهم.
* كاتب سوري.
الحياة