صبحي حديديصفحات العالم

نتنياهو في واشنطن: لا جديد داخل الشرنقة العتيقة

null
صبحي حديدي
‘حين يكون المرء مصاباً بالسرطان، فإنه لا يكترث بخدش في القدم’، يقول هاجي بن ـ أرتزي، شقيق زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والقيادي البارز في ‘الحزب الديني القومي’، أو (المفدال)، الذي حلّ نفسه الخريف الماضي، وانضمّ أعضاؤه إلى حزب ديني متطرف آخر، هو ‘البيت اليهودي’. أمّا السرطان فهو الخطر النووي الإيراني، الذي يتهدّد الدولة العبرية في وجودها؛ وأمّا الخدش فإنه فكرة الحلّ القائم على دولتين، إسرائيلية وفلسطينية. ومع ذلك فإنّ بن ـ أرتزي، المقيم في مستوطنة بيت إيل عن سابق قصد وتصميم، يرفض هذا الخيار الثاني حتى إذا كان محض خدش في القدم، ويعلن أنّ إقدام صهره نتيناهو على القبول به سوف يجعل منه خائناً بحقّ التوراة، ليس أقلّ!
ومن محاسن أقدار الصهر والنسيب معاً، أنّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما لم يحرج ضيفه نتنياهو إلى أيّ مستوى قريب من ارتكاب الخيانة، أو الخدش في القدم، حين اكتفى بالعموميات والتأتأة الدبلوماسية في كلّ ما يخصّ الحقوق الفلسطينية، وصال بلاغةً وجال خطابةً في التشديد على التزامه المطلق بأمن ‘إسرائيل، الدولة اليهودية’. ولقد بدا أنّ أوباما ونتنياهو قد اتفقا، ضمن صيغة مكتومة من التواطؤ المكشوف، على أن يتناسيا ما دار بينهما من حديث أثناء زيارة أوباما إلى إسرائيل، حين كان الأخير محض مرشّح للرئاسة، وكان نتنياهو زعيم حزب ‘ليكود’ الطامح إلى هزيمة ‘كاديما’. آنذاك، روى نتنياهو للصحافة، انزوى أوباما ونتنياهو بعيداً عن الحشد، فقال الأوّل للثاني: ‘أنت وأنا نشترك في الكثير. لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور’.
وإنّ غداً لناظره قريب، في ترجمة هذا البوح المتبادل إلى أفعال، بل إنّ ذلك الغد ينبغي أن لا يتجاوز يوم الرابع من حزيران (يونيو) القادم، حين سيلقي أوباما خطبته العصماء من القاهرة، خلال زيارته الرسمية إلى مصر، والتي من المفترض أن تتوجه إلى العالم العربي (بعد خطبته من سدّة البرلمان التركي، متوجهاً إلى العالم المسلم). وفي لائحة مطالب الناظرين، وهي كثيرة… وهم كثر، هنالك الرغبة الإسرائيلية في أن يحثّ أوباما العرب على تعديل (والأحرى القول: ‘تجميل’) مبادرة السلام العربية، بحيث تبدو أكثر جاذبية في ناظر الشارع الإسرائيلي. وهنالك الرغبة السعودية ـ المصرية ـ الفلسطينية في أن يطلق أوباما مبادرته الخاصة الآن، وليس في نهاية العام كما لوّح بعض مستشاريه، وأن تنطوي المبادرة على تنويه ـ ضئيل وجيز أو حتى رمزي ـ إلى مسائل الحلّ النهائي. وبالطبع، هنالك الرغبة الدفينة عند أهل ‘الممانعة’، في أن ينطق أهل ‘الإعتدال’ باسمهم، حتى من دون تفويض، أو ربما دون منع الممانع من التمنّع!
الراجح، في المقابل، أنّ الرئيس الأمريكي سوف يتفادى تقديم أيّ مقترح دراماتيكي واضح المعالم، وبالتالي لن يطرح مبادرة من أيّ طراز يستوجب متابعة غير تلك التي يتولى أمرها جورج ميتشل، المبعوث الأمريكي الخاصّ إلى الشرق الأوسط. وفي ما يخصّ الفلسطينيين ـ قبيل زيارة الرئيس الفلسطيني إلى واشنطن، أو بعدها… الأمر سيّان كما يلوح ـ ما الذي يجبر أوباما على أن يكون فلسطينياً أكثر من محمود عباس أو اسماعيل هنية؟ وإذا كانت اعتبارات عليا، ذات طابع استثنائي طارىء، يمكن أن تدفعه يوماً إلى أن يكترث بالمصالح الفلسطينية أكثر ممّا يفعل الفلسطينيون أنفسهم، فهل السياقات الراهنة هي ذاك اليوم الفريد المرتجى؟ وهل اعتراض إدارة أوباما على الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو إعادة إنتاج لاعتراضات مماثلة جاءت من جميع الإدارات السابقة، وإن اختلفت في اللفظ بهذا المقدار أو ذاك، يسوّغ الحديث عن ‘خلافات عميقة’ بين أمريكا وإسرائيل؟
كذلك صار جلياً، على نقيض الأحلام التي راودت البعض، أنّ أوباما لن يمسّ خصوصية البرنامج النووي الإسرائيلي، ولن يبدّل التفاهم الضمني الذي توصّل إليه الطرفان سنة 1969 (أن لا تجري الدولة العبرية أية تجارب نووية، وأن تمتنع أمريكا عن الضغط على إسرائيل للإنضمام إلى اتفاقية الحدّ من الأسلحة النووية). أكثر من هذا، بدا أنّ أوباما يسابق الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، قدوته العليا في السياسة الأمريكية الشرق ـ أوسطية، حين أعرب عن ‘انتسابه إلى التفاهم الرئاسي العميق في هذا الميدان’، أي ‘قدرة الردع الإسرائيلية’، التي يتفق الطرفان على أنّ ترجمتها اللغوية الأخرى الوحيدة هي امتلاك السلاح النووي.
وفي التعليق على زيارة نتنياهو إلى واشنطن، شاء الكاتب الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي أن يتمنى على أوباما الإقتداء بالرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نكسون في إنقاذ إسرائيل، مع فارق حاسم بالطبع: الاخير أنقذها من الجيوش العربية سنة 1973، والأوّل ينبغي أن ينقذها هذه السنة، من… نفسها! والحال أنّ سلسلة التطوّرات السياسية الإسرائيلية الداخلية التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو (اغتيال رابين، انتخاب بنتنياهو في غمرة تحقير شمعون بيريس، انتخاب إيهود باراك وتحقير نتنياهو، انتخاب شارون وتحقير باراك، ثمّ انتخاب نتنياهو وتحقير ‘كاديما’ وباراك معاً…) لم تكن إلا سبيل الإسرائيليين في التأكيد على أنّ نسبة ساحقة منهم لم تخرج من الشرنقة العتيقة مرّة واحدة، ولا يبدو أنها بصدد ذلك في أيّ يوم قريب. ولقد توفرت مناسبات عديدة تتيح للمرء أن يرى اللعبة الديمقراطية وهي تمنح المجتمع الإسرائيلي فرصة تلو أخرى في ممارسة رياضة أثيرة: أن يراقب ذهاب بعض الساسة إلى معسكر السلام، وأن يتابع مسيرة ذلك الذهاب (الأقرب إلى الخروج عن الإجماع!) بمزيج من الفضول والدهشة والفزع والقلق، قبل أن ينزل بهم العقاب الصارم والمهانة اللائقة بـ ‘أنبياء سلام’ توهموا في أنفسهم كرامة أهلية ما.
وعلى الدوام، في الجوهر العميق، كان يكمن ذلك الجدل الساخن حول العلاقة مع التاريخ، الذي قسم ويقسم الإسرائيليين إلى فريقين: مطالِب بحقّ الضمير اليهودي في أن ينام قرير العين إلى الأبد ودونما منغصات من أيّ نوع (ولتذهب الحلول الأمنية البربرية الهمجية الوحشية أنّى ذهبت!)؛ ومطالِب بأن يصحو هذا الضمير الغافل ليكتشف حقائق نفسه وليس حقوق الآخرين بالضرورة (وهنا أيضاً: لا مفرّ من ذهاب الحلول الأمنية ذاتها أنّى ذهبت)! وذات يوم، عشية انتخاب أرييل شارون رئيساً للوزراء (وكانت تلك صدمة، ثقافية قبل أن تكون سياسية وعقائدية)، تذكّر المؤرّخ الإسرائيلي ميرون بنفنستي أنّ العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي كانت حَلَقية على الدوام (بمعنى أنها تعيد إنتاج نفسها ضمن حلقة متماثلة من الثوابت والثوابت المضادّة)، والمطلوب اليوم تحويلها إلى علاقة خيطية تسمح بالإنتقال من طور إلى طور (بمعنى نسيان الماضي، في تأويل آخر). ولم يطل الوقت حتى اضطرّ بنفنستي إلى الإعتراض العلني على استمرار جيش الإحتلال في تخريب بنى السلطة الوطنية الفلسطينية والسعي إلى إهانة عرفات شخصياً، وكتب يقول: ‘لماذا لا تُضمّ إلى كورس الخبراء الأمنيين، المطالبين بإهانة الزعيم الفلسطيني وبإزالته من الوجود، تلك الأصوات الأخرى التي تعرف حقّ المعرفة أن غيابه سوف يخلق حالة فوضى تجعل الوضع الراهن يبدو أشبه بالنعيم’؟
كانت واحدة من أبسط الإجابات على سؤال بنفنستي تلك التي تقول إنّ ذاكرة الإحتلال أقصر من أن تدرج الدروس القاسية على كثرتها، وأكثر غطرسة من أن تقرّ بأنّ الحجر قادر على إيقاع هزيمة سياسية بالدبابة. وبنفنستي تساءل عن الأسباب التي تجعل المثقفين الإسرائيليين يسكتون عن سلسلة ممارسات بربرية ــ (والمفردة له)، بينها مثلاً اقتحام مكتب الإحصاء الفلسطيني وتخريبه ونهب محتوياته، لا تهدف إلى غرض آخر سوى جرح الكرامة الفلسطينية قبل إهانة الزعيم الفلسطيني. ولكن… أليست هذه إعادة إنتاج لما فعلته قوات الإحتلال الإسرائيلية بأرشيف منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت قبل 21 سنة؟
من جانب آخر اعتبر بنفنستي أنّ هذه ليست حرب الساسة ضدّ الإرهاب، بل هي حروب بعضهم ضدّ ‘كارثة أوسلو’ كما اعتاد شارون أن يقول؛ وهي ليست حرباً على بنود الإتفاقيات، بل هي الحروب ذاتها التي ما زال الساسة يخوضونها ضدّ مؤسسات الشعب الفلسطيني. أكثر من ذلك، ها هو بنفنستي يتحدّث عن ‘الكارثة الإسرائيلية’ المتمثّلة في ضخّ النزوعات الإيديولوجية في كلّ مناحي الحياة الإسرائيلية، السياسية والأمنية والإجتماعية والثقافية، ويقول: ‘حين سيكتب المؤرّخ وقائع الكارثة ذات يوم، سوف يُتاح له على الأقلّ أن يضع هامشاً أسفل الصفحة يقتبس فيه مراثي أنبياء القيامة ممّن ساروا على درب الكارثة’.
وفي وسع المرء أن يذهب إلى ليكودي أمريكي هذه المرّة، هو دانييل بايبس، الذي لم يوفّر جهداً في تأثيم أوباما اثناء أطوار الترشيح والحملات الإنتخابية، وهو اليوم يرى العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية من زاوية خاصة تماماً: الصهيونية المسيحية! ولقد اعتبر بايبس أنّ هذا الطراز من الصهيونية هو ‘أفضل أسلحة إسرائيل’، بالنظر إلى أهمية مواقف اليمين الأمريكي المسيحي المتعاطف مع الدولة العبرية، وكيف يتبنى هذا الصفّ مواقف متشددة تبدو خيارات ساسة إسرائيل ‘حمائمية’ تماماً إلى جانبها. تفسيرة البسيط، أو التبسيطي تماماً في الواقع، يقول إنّ هذا النسق السياسي ـ الفلسفي الذي عبّر ويعبّر عنه أمثال غاري باور وجيري فالويل وريشارد لاند يعود بجذوره إلى العصر الفكتوري في بريطانيا، وإلى العام 1840 حين أوصى وزير الخارجية اللورد بالمرستون بأن تبذل السلطات العثمانية كلّ جهد ممكن من أجل تشجيع وتسهيل عودة يهود أوروبا إلى فلسطين. كذلك كان اللورد شافتزبري هو الذي، في العام 1853، نحت العبارة الشهيرة في وصف فلسطين: ‘أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض’. غير أن ما لا يتوقف عنده بايبس هو السؤال التالي: لماذا لا يكون حماس هؤلاء هو الوجه الآخر لفتور معظم الحماس الصهيوني عند الصهاينة، وميلهم إلى اعتناق فكر بديل، نازي أو عنصري؟ ولماذا لا يكون رجل أمثال بيريس وباراك وشارون وأولمرت ونتنياهو أكثر راحة وهم يتمترسون خلف عقلية نازية مضمرة، من راحتهم وهو يتصرفون كصهاينة؟ مثال هاجي بن ـ أرتزي، الذي خوّن صهره لانه وقّع اتفاق الخليل قبل عقد ونيف، وذكّره بالفارق بين السرطان الإيراني والخدش الفلسطيني في القدم؛ ومثال الصهر الذي يأبى النطق بالكلمتين الرجيمتين (حلّ الدولتين)، رغم أنّ حزبه كان قد تبنّى الحلّ هذا منذ سنوات، على يد زعيمه الأشهر الجنرال شارون… المثالان هذان هما اختزال الشرنقة التي ما يزال سواد المجتمع الإسرائيلي يقيم فيها، فيُعلي نبيّ سلام تارة، ثمّ يخسفه لصالح صقر كاسر طوراً. والأرجح أنّ أوباما ليس في وارد المناورة بين هذا وذاك، ليس في هذه الولاية على الأقلّ، وليس مع هذه الأنظمة العربية حتماً

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى