الديمقراطيون، علمانيين وإسلاميين، هل يمكنهم التعاون بدون تحالف ؟
سلام الكواكبي
من الصعب مطالبة أية جهة، فكرية أو دينية كانت، بأن تخفف من “غلوائها” العقائدي وأن تتجه إلى منتصف الطريق للتلاقي مع “الآخر” أيّاً كان. فالأساس في بنية أي تنظيم أو مجموعة أو حزب هو تماسك المبادىء والتمسّك بها وبالمواقف المؤسسة لعملها العام.
وانطلاقاً من هذه الصعوبة البنيوية، يتوجب التفكير والبحث والنقاش في إمكان الحوار والعمل السياسي المشترك من دون السعي إلى تحالفات آنية لا تؤسس لمدرسة ممارسة أو نمط في التعامل بين القوى السياسية والفكرية المختلفة. فليس المطلوب إذاً من سائر هذه القوى أن “تخفف من صلابتها الإيديولوجية لصالح الاعتبارات البراغماتية”، بالشكل المباشر للعبارة، بل إنه من الأنجع لها وللحراك السياسي الديموقراطي بشكل عام أن تسعى أولاً إلى معالجة مفهومها الداخلي للعمل المشترك وقبول الآخر. وإن السعي وراء “ترجيح دائرة المتفق حوله على المختلف فيه”، هو خطوة تعتبر تكتيكية في مجال عملي ضيّق لا يساهم إلا في تطوير عملية سياسية محدودة، ولكنه في المقابل، قد يؤدي إلى تغيير موعد الاصطدام أو مكانه، وهذا، بالاستناد إلى حسن النية، ليس في فائدة أي من الأطراف. فمن الأجدر إذاَ بالقوى أو الفئات المختلفة أو التي تعتقد أنها مختلفة، بأن تناقش خلافاتها بالعمق قبل أن تتجه إلى بحث حالات التوافق الوسطية الممكنة التي تتيح مساحة ضيقة للارتياح الوهمي وتؤسس لمساحة أوسع من تجذّر الخلاف.
وبالطبع، ليس من المطلوب البتة أن تجتمع القوى المختلفة على كلمة سواء في مجال اقتناعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولكن إن اعتقدت كلّها بضرورة احترام الحريات في مختلف أبعادها وأشكالها وممارساتها، فهي تكون بالتالي تعتمد على قاعدة مؤسسة لكل تلاقٍ وعملٍ مشترك من دون الخوض في الكلام عن القيام بتحالفات. وتستوجب هذه الخطوة الابتعاد أساساً عن الأحكام المسبقة واعتبار أن “الآخر” قد عاد إلى جادة الصواب أو أنه قد راجع عقيدته أو أنه تحول إلى الوسطية أو أنه ابتعد عن الراديكالية أو أنه تخلى عن اعتبار أن مواجهة نقيضه الفكري تسبق حتمية مواجهة العسف والاستبداد…، ومهما كانت النيّات صالحة، فإن العبارات قد تحمل أو تُحمّل مفاهيماً مفخخة. إن العمل المشترك الذي يتلاقى على مبادىء إنسانية كونية، والذي يحترم بعض الخصوصيات المحلية والإقليمية، والتي لا تتعارض بأي شكل من الأشكال مع المنطوق العام للحريات والحقوق، يجب ألا يتحفّز فقط عندما يتعرض حاملوه إلى عسف السلطان. أي أن تكون المعاناة متقاسمة. بالرغم من أن قمع السلطات الشمولية يعزّز الشعور بضرورة التلاقي المؤقت على نقاط مشتركة ولكنه في الوقت نفسه قد يحمل معه غشاءً من الضباب الذي يمنع عن الأطراف الرؤية الواضحة لحقيقة التباينات الفكرية والتي تستوجب أن تُفرد بكل وضوح، قد يصل حدّ الوقاحة، على طاولة الحوار وأن يجري التعمق ببحثها.
إن عزوف الديموقراطية بمختلف أشكالها المتفق عليها أو المختلف بصددها عن منطقتنا العربية لهو عزوف بنيوي ليس مرتبطاً حصراً بثقل البنية السلطوية المستبدة، ولا بملابسات نشأة الدولة العربية الحديثة، ولا بالتدخلات الخارجية وإعاقتها الحقيقة والمتخيلة لمشاريع الرقي والتطوير. إنها عوامل يمكن أن تجتمع في بوتقة أعرض وأوسع للمسببات وللعوائق القائمة أيضاً وحتماً في ثقافة سياسية معينة، وكذلك في بعض من التفسير المتعلق بعلاقة الدين بالدولة. وفي هذا المجال، فإن التأكيد أو القطع بوجود إرادة أجنبية مصممة على ترسيخ الوضع القائم، وإن جازت جزئياً، فإنها قد تخفي أيضاً إرادة محلية وذاتية: دينية، عقائدية، إيديولوجية ليس فقط في المحافظة على الوضع القائم بل وفي المساهمة في تقهقره. وتعتبر فكرة القبول بالحلول الوسطى مثالية وأقرب إلى الطوباوية وخصوصاً عندما يتعلق الموضوع بالإيديولوحيات التي تعتمد على المقدس مهما اختلفت مصادره، فالسؤال المطروح على طاولة البحث يتعلق بمدى قبول الأطراف الدينية، مهما اقتنعت بضرورة الحوار وبقبول الآخر عندما يقتنع الآخر بالتالي بالأمر ذاته، بأن تعتبر نفسها نصف رابحة أو نصف خاسرة وخصوصاً بأن الأرضية الشعبوية مهيئة لها لكي تحصد نتائج الانتخابات العددية؟ والسؤال نفسه يطرح على الأطراف الأخرى والتي لم تطور حتى الآن ضمن آلياتها الداخلية منظومة عمل تقبل بالتبادلية والتعاقبية والتعددية بمعناها المباشر وليس النظري فقط.
وفي الحديث عن تورّط الآخر هناك دائماً جانب من الإقصاء والتخوين والتكفير رغم إبداء الأسف ورغم النيات الصافية. فبالنسبة للبعض من الإسلاميين، فإن بعض العلمانيين قد تورطوا في دخول أتون معركة الإقصاء التي قادتها بعض السلطات، وبالنسبة لآخرين من التيار العلماني، فإن الإسلاميين انخرطوا في عملية استقطاب سلطوي في عديد من الأنظمة واستغلوا علاقاتهم الروحية والدنيوية بأطراف معينة من أنظمة معينة في ممارسة أشنع أنواع القمع ضد المنادين بالديموقراطية عموماً.
وسنظل ندور في دوامة ونسأل من أين الخروج من هذه الحلقة المفرغة؟ فالأساس أن توضع الاتهامات جانباً، وإن صحّ بعضها مع كثير من النسبية، وأن يجري الحوار. والأصح أن لا يجري القطع في تعريف أو شرح أحادي الجانب لبعض المفاهيم حمّالة الأوجه كالعلمانية، واعتبارها بشكل مبدئي غير مساعدة على الحوار، لأن نقاشها هو جزء أساسي من هذا الحوار.
(باحث سوري)
النهار