رواية «عزف منفرد على البيانو» لـ: فوّاز حدّاد: العلمانيّة والدين بين إرهاب الدولة والإرهاب الدوليّ
هيثم حسين
عزف منفرد على البيانو” هي الرواية الجديدة للروائيّ السوريّ فوّاز حدّاد، وقد صدرت عن دار الريّس «نيسان 2009»، تقع في 318 صفحة من القطع الوسط. الرواية مقسّمة إلى أربعين فصلاً، عنوان الرواية هو عنوان الفصل الثامن والعشرين. قد يستشفّ القارئ من العنوان أنّ الرواية تعالج مواضيع موسيقيّة أو واقع الحفلات والمناسبات، أو واقع دور العرض والممثّلين والمطربين والعازفين والمثقّفين، وقد سبق لحدّاد أن ناقش مواضيع من هذا القبيل، في أكثر من رواية له، ضمن مواضيع عديدة كانت تتشابك فيما بينها، لتنقل واقعاً، مشهداً أو مشاهد منه، كما في رواياته «مرسال الغرام»، «مشهد عابر»، «المترجم الخائن»، مع التنوّع في كلّ منها، ومعالجة جانب مغاير لما سبق له أن عالجه. لا تكون الموسيقى حاضرة في الرواية إلاّ في مشهد قصير، ولا يكون البيانو فاعلاً أو مؤثّراً في سياق أحداث الرواية ومجرياتها، إنّما يكون هناك لعب على المعاني والكلمات، من خلال الاستعارات والإسقاطات والتضمينات، إذ يُمَوسق حدّاد كثيراً من القضايا الشائكة المصيريّة، يكون هناك مجموعة من العازفين في مسرح تكون الحياة ملعبه.. يبدو حدّاد مهموماً بهموم كونيّة تشغل البشر في كلّ مكان، الإرهاب، صراع/ حوار الحضارات والأديان، تصارع الأجهزة، سباق المكاسب. ينتقل من قضايا التاريخ والفساد بمختلف صيغه وأساليبه، السياسيّ، الثقافيّ، الفنّيّ، الأمنيّ، إلى فساد من نوع آخر، ينتقل من تعرية التاريخ والراهن إلى تعرية الخطط المستقبليّة التي تزعم أنّها تأخذ على عاتقها تأمين عالم مثاليّ آمن، تنتعش فيه الحرّيّات..
يبدأ روايته بحادث صغير يقع للأستاذ المفكّر العلمانيّ فاتح القلج، الذي يضربه أحدهم أو يصفعه في مدخل البناية التي يقطنها، فيقع أرضاً، يشجّ رأسه، يُغمَى عليه، يُسعَف إلى أحد المشافي، حيث ينتقل الخبر إلى مختلف وسائل الإعلام ومنظّمات حقوق الإنسان وعدد من الشخصيّات الهامّة، التي تتنادى إلى التكاتف معه ومساندته ضدّ قوى الظلام التي تستهدفه، تضطرّ الدولة على إثرها إلى التدخّل، عبر أجهزتها السرّيّة، لينتقل ملفّه ـ حادثته، التي تصبح قضيّة مُدولنة، من الشرطة التي هي مختصّة بمثل هذه الحوادث إلى جهة مجهولة الهويّة، لها حرّيّة الحركة والتصرّف والقيادة، لا أحد يجرؤ على معارضتها، أو رفض إملاءاتها، يكون ممثّل تلك الجهة شابّ في مقتبل العمر، يُدعَى الخبير سليم، أمّا اسمه الحقيقيّ فيتحفّظ عليه لدواعٍ أمنيّة. يتمادى الخبير سليم في التدخّل بكلّ شاردة وواردة تخصّ المفكّر العلمانيّ، يستجوبه في كلّ شيء، يعيد عليه الأسئلة نفسها مراراً، يفهمه أنّه مُستهدَف وفي خطر، يمنع عنه الزيارات سوى للأقارب، فيزوره البعض، منهم هيفاء التي هي صديقته، وكذلك صديقه ذو الوجه الطفوليّ، الذي كان زميلَ الطفولة في المدرسة الابتدائيّة. بعدما يقلّب الخبير قضيّة العلمانيّ على أوجهها المختلفة، وعندما يكاد أن يقترب من ركنها في الرفوف، بعدما يتعاطف مع الأستاذ المصاب المتعرّض لمحاولة الاغتيال، ترده برقيّة فحواها أنّ العلمانيّ كان متديّناً في السرّ لعدّة أشهر، واظب خلالها على حضور صلاة الفجر في أحد المساجد. هنا يتراجع الخبير عن تعاطفه معه، ينبئه بأنّ هناك ما استجدّ، يغيّر من لهجته معه. يضعه في موقع الاتّهام، ويتراجع عمّا كان بصدد عرضه عليه من مساعدة مستقبليّة ممكنة، ولم يعطه رقم هاتفه الخاصّ الذي وعده به، تشكّل قضيّته قلقاً طفيفاً للدولة، بعدما تنشط التكهّنات والتخمينات حوله، لا تلبث أن تضع له حدوداً وحلولاً قيد التأجيل.. تجري مبادلة للأدوار يغدو فيها العلمانيّ الضحيّة المجنيّ عليه، متَّهماً ومشبوهاً، تفرض عليه رقابة مشدّدة، تحصى عليه أنفاسه.. وعندما يجد العلمانيّ المعتَدى عليه هذه المتابعة من قبل الخبير سليم، يبدأ بتسقّط المعلومات عنه، وما يساعده في جمع المعلومات عمله مديراً لدائرة «بنك المعلومات» أو «المركز»، التي هي دائرة غير متنفّذة ولا مقرّرة، بل مهمّتها جمع مختلف المعلومات والبيانات وتقديمها إلى جهات الاختصاص فيما بعد، مُجدولة ومُفهرسة. تبدأ لعبة المتابعة والتقصّي من كليهما على بعضهما.. يعرف الأستاذ أنّ الخبير ابن أحد ضحايا الجماعات الإسلاميّة التي سحلت أباه سحلاً على مرأى ومسمع من الناس، ثمّ دفنته بعد أن جمعت عظام آخرين معه في قبر مشترك، قيل له إنّه قبر والده. يحمل الخبير سليم عقدة السحل ـ الثأر معه، لينتقم لوالده من تلك الجماعات التي لا يجدي معها التحاور ولا التفاهم، بحسب رأيه، بل يجب استئصالها من جذورها، وضرب كلّ خلاياها النائمة والمنوّمة.. ويوهِم المفكّر فاتح القلج أنّه موضوع تحت الحماية الدوليّة، تلك الحماية المرئيّة واللامرئيّة، ذلك أنّ حياته هامّة جدّاً رامياً بذلك إلى غايات أبعد..
حروب ذهنيّة في الخفاء:
تدور رحى حروب ذهنيّة في الخفاء بين شخصيّات الرواية، حروب غير متكافئة لا تسال فيها الدماء، بل هي لاحقة للحروب الدمويّة التي وقعت في فترات سابقة، وتبدو كأنّها سابقة لتصفيات قادمة تمهّد لها الأحداث المصاحبة.. من تلك الحروب ما تنشب بين الخبير سليم والمفكّر فاتح، كلّ واحد منهما يتحضّر للآخر، يعدّ للقائه كامل عدّته في حرب لا تبدو متكافئة، بل يبدو فيها الغلب واضحاً لصالح الخبير المدجّج بخبرات أجهزة دولية سارعت إلى التحصّن في جهاز واحد تدعمه الدول العظمى، أطلقت عليه اسم «الجهاز الدوليّ لمكافحة الإرهاب»، يعرف اختصاراً باسم «الجهاز»، وهذا الجهاز أخطبوطيّ الفعل والمفعول، له ذراع طولى في كلّ قضيّة، له الرأي والقرار الحاسم في كلّ موضوع، يعتمد كلّ الوسائل والسبل التكنولوجيّة الحديثة، أقمار اصطناعيّة، قوى وطاقات على الأرض، تتفوّق على المخابرات المحلّيّة التي لم تكن تفوتها الفائتة، تسخّر كلّ الأجهزة الأمنيّة لصالحها، في تبادل للمعلومات التي من شأنها أن تحول دون وقوع عمليات إرهابيّة، تتّخذها ذريعة للتدخّل في كلّ شأن من الشؤون، لا يعود معها لأحد استقلاليّة معها، تمحو الأجهزة الأخرى التي تصبح تابعة ورديفة لها، وذلك كلّه باسم مصلحة البلد التي تتحوّل إلى سلاح يشهر في وجه المنتقدين والمعارضين، وإلى شيء غائم يخفي فظائع عديدة ومريرة..
من جهة أخرى تكون هناك حرب كلاميّة بين العلمانيّ المتشدّد فاتح القلج وصديقه ذي الوجه الطفوليّ، الذي يزعم أنّه قد تفرّغ لعبادة الله، في حين يبحث عن أخيه المعتقل بتهمة دعم الجماعات الإسلاميّة، والذي لا يعرف له مكاناً ولا يستدلّ له على عنوان.. حرب خفيّة أخرى بين الأستاذ وزوجته، يغلّفها ستار ظاهر من الحبّ والاحترام، ثمّ حرب بين زوجته وصويحباتها اللاتي شاركن معها في صالونها النسائيّ، الذي جعلته ملتقى فكريّاً، يدعين فيه إلى العلمانيّة والتحرّر من قيود المجتمع، حيث حاضر فيها زوجها المفكّر الذي كان مستميتاً في دعوته إلى التحرّر من الأوهام والخرافات، ما أقنع بضع صديقاتها على الانسياق وراء شهواتهنّ وحاولن إرضاء شبقهنّ بدعاوى التحرّر، أخذن من العلمانيّة جانباً يتلاءم مع رغباتهنّ المكبوتة التي فككن عقالها، لتنطلق مارداً يودي بهنّ وبمن يقع في طريقهنّ من رجال..
كذلك تنشب حرب داخل كلّ واحد من الشخصيّات، الأستاذ العلمانيّ المستميت من أجل علمانيّته ظاهريّاً، والذي يتشدّق ويجهر بدعواته المزلزلة إلى مدرسة بلا دين وبلا جنس، وإلى وجوب محاربة دعاة الخرافة الذين يتمترسون خلف الدين، يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى مؤمن متديّن حالم متزهّد، ذلك بعدما وقعت حادثة مؤلمة لزوجته أودت بحياتها، وكان ذاك يوم الاحتفال بعيد زواجهما، الذي تحوّل إلى يوم موتها، فاختصر ذاك اليوم، الأوّل من كانون الثاني، الفرح والحزن معاً، وكان قد لاذ بالله عسى أن يهبّ لنجدة زوجته الراقدة على السرير، بعدما رقّ قلبه الذي وقع أسير الشكّ بالعلم وطاقاته، وآمن بالله ومعجزاته، وظلّ أسير حالة الإيمان التي اجتاحت تفكيره وكيانه واستولت عليهما أشهراً، حرص خلالها على أداء الفرائض الدينيّة، لكنّه تراجع عنها وعاد إلى علمانيّته بتشدّد أكبر، بعدما زعم أنّ الله قد سخر منه، لم يردّ طلبه ولم يستجب لدعائه، اعتبرها غلطة ولن يكرّرها، لكنّه كان يوقع نفسه في فخّ التهويم أكثر من مرّة، خاصّة يوم عيد زواجه، حيث كان يعدّ العدّة لاستقبال زوجته التي كان يدّعي أنّها تزوره في ذلك اليوم، أو أنّها بانتظاره ليحتفلا معاً. كان يتخلّى عن علمانيّته وعن إيمانه المطلق بالعلم، ويستسلم استسلاماً مطلقاً للوهم، الذي يتلخّص في ظنّه استقبال زوجته ومجالستها.. في الجانب الآخر تستعر حرب داخل صدر الخبير سليم، يسعى فيها إلى الانتقام من الإسلاميّين جميعاً، لشعوره أنّهم مسؤولون عن مقتل أبيه، يستغلّ منصبه للإيقاع بأعدائه، يجيّر مهمّته لثأره الشخصيّ، يختلط عنده الواجب بالثأر، فتتشكّل غمامة تغشي عيونه، فلا يعود بقادر على التحكيم العقليّ، وربّما يكون ذلك بالضبط وراء تعيينه في موقع ينطلق فيه بحقد على مَن يلاحقهم، كي لا يكون هناك مجال للتعاطف أو التساهل من قبله معهم.. كما يحتدم ويشتدّ عراك داخل الصديق ذي الوجه الطفوليّ الذي يدّعي أنّه يعرف الكثير، في حين يتوضّح أنّه لا يعرف إلاّ القليل، ويقع ضحيّة ظنّه امتلاك المعرفة..
خطوط وخيوط:
يشتغل حدّاد في روايته على أكثر من محور، تسير بمجملها في خطوط متوازية، تتقاطع فيما بينها أحياناً، حيث تحتبك القصص، التي تخلّف دوائر كثيرة في بحر الواقع الماضي بمعْنَيَيه.. يتطرّق إلى واقع دوليّ، ينطلق من حادثة صغيرة، ليعالج واقع إرهاب الدولة، ينتقل عبره إلى تصوير بعض سبل ووسائل الإرهاب الدوليّ، إذ تتّخذ الدول العظمى كثيراً من الذرائع لإعادة الاحتلال ومضاعفة الاستغلال، معتمدة ضرب مختلف القوى ببعضها، مهدّدة الجميع بالجميع.
يصوّر ما بعد الحرب الدمويّة بين السلطة والإسلاميّين، والحرب الباردة فيما بينهم، أو حرب المناوشات الإعلاميّة والمفاوضات والمساومات فيما بعد. يُظهر تبلبل الصفوف بين الطرفين، بين متطرّفين ومعتدلين من الجانبين، منهم مَن يودّ إبقاء الأمور والمشاكل مؤزّمة معقَّدة لأنّ ذلك من مصلحته، ومنهم من يسعى إلى إيجاد حلول لها..
يوضّح تركيز وسائل الإعلام على ما يوافق سياسات القيّمين عليها، وتهميشها لما عدا ذلك.. كما يستعرض واقع الالتفاف والمداورة بين الدولة بأجهزتها المصابة بوباء التوجّس والريبة والخشية من الجميع، والمنظّمات والجماعات الأخرى المناوئة وخصوصاً الإسلاميّين، يكتفي حدّاد بهذا التوصيف من دون أن يحدّد أيّة جماعة منهم بالاسم، بل يرمز إلى الإسلاميّين عموماً، مذكّراً ببعض الحوادث الدمويّة التي وقعت في فترات سابقة، حيث وقع جرّاءها آلاف الضحايا، وأفرزت آلاف المفقودين والمعتقلين. كما يروي عن بعض الوسائل المتّبعة من قبل الدولة التي تتّخذ الجميع دريئة لحماية نفسها، فتارة تهدّد الإسلاميّين بالعلمانيّين، وتارة بالعكس، أحياناً تُرهب الدول الأخرى بالخلايا الإسلاميّة النائمة، وتسرّب لها يقيناً يجب ألاّ يتخلّله أيّ شكّ حول انعدام البدائل، أو البدلاء الذين قد يحلّون مكانها.. وأنّ البدائل المتوفّرة هي متطرّفة وغير معاصرة.. إلخ تلك التوصيفات.. وأنّها تأخذ على عاتقها تطهير الدولة منهم، لاستتباب أمن الدولة الذي هو جزء من الأمن العالميّ، وليس المحلّيّ فقط، تنتهز فرصة الحرب المُعلنة على الإرهاب، لتجعل من كلّ من لا يلائم توجّهه توجّهها إرهابيّاً.
يقدّم حدّاد عبر شخصيّاته التي يتّخذها عيّنات معبّرة عمّا هو سائد ومعمول به، الصورَ الشوهاء التي توسّع الهوّة بين النظرية والممارسة، وتزيد من صعوبة تجسير هذه الفجوة التي تكبر وتتّسع يوماً بيومٍ. فالعلمانيّ المتشيّخ بعلمانيّته والذي يغدو له تلامذة ومريدون، يكون تطرّفه العلمانيّ واهناً وممجوجاً لأنّ دفاعاته تتهاوى وتسقط أمام أوّل انتكاسة يتعرّض لها، في حين نجد اللائذ إلى الدين غير متماسك الشخصيّة، مقوداً بالإشاعة التي يزعم أنّه لا يوليها أهمّيّة تذكر، يقع في فخاخ تنصبها له السلطة التي توهمه أنّها تتحاور معه، وأنّها تلاحق المناقضين لتوجّهه المخالفين له، فينساق وراء إيهامها، ويقلّل من حذره واحتراسه منها، لكنّها تغافله في يوم ربيعيّ جميل..
كما تبدأ الرواية بحادثة صغيرة، فإنّها تنتهي بحادثة أيضاً، لكن هذه المرّة ترتكب فيها جريمة، يقع ضحيّتها ذو الوجه الطفوليّ، وذلك في مشهد سينمائيّ، حيث تكون الأجواء ربيعيّة صافية، والصديق جالس على مقعد في حديقة، ينتظر لقاء صديقه العلمانيّ، الذي يتوجّه إليه، لكنّه لا يستطيع محاورته ولا عقد الاتّفاق معه، يُفجَع بإصابة صديقه في حين يظنّ أنّه المقصود والمستهدَف، لكنّه لا يعلم أنّه الطعم فقط أو سيبقى على لائحة التصفية، لكن قيد التأجيل والنظر والحاجة.. «آلمه أنّ الضياء الذي أحاط به كان صاعقاً. صديقه لن يشاركه فيه، وهو أيضاً لن يتحمّله، ولا مفرّ من أن يشقّ طريقه وحده في داخل هذا النور. قال لنفسه، نور ليس أكثر من ظلام دامس!! تمنّى في هذه اللحظة لو كان يسمعه». 318.
“عزف منفرد على البيانو” عبر شخصيّات مختلفة، «المفكّر العلمانيّ فاتح القلج، الخبير المدعو سليم، الصديق ذو الوجه الطفوليّ، هيفاء، الزوجة الراحلة، المريد حسين، وشخصيّات أخرى عابرة» تخيّلات وسيناريوهات ودرامات، تصوّر كيف أنّ القيم الإيجابيّة تتشوّه في واقع يسعى جاهداً إلى تشويهها، لينفرد أصحاب القرار والنفوذ فيه بالحكم ومغرياته وامتيازاته.. فلا العلمانيّة المطبّقة المهتوف لها تكون لائقة باسمها، ولا التديّن المتخوَّف منه يكون صحيحاً ومقبولاً، تضغط تلك القوى على مختلف الأطراف، تدفعها بذلك إلى التطرّف، كي لا يكون هناك احتمال للمحاورة فيما بينها، لتبقى هي القائدة المتحكّمة بكلّ شيء، معتمدة التهديد والتهديد المضادّ، الترغيب والترهيب معاً.. كما تصوّر استحالة النجاح في عزف منفرد من دون تواجد جمهور ومشجّعين وأدوات وآلات مرافقة..
“عزف منفرد على البيانو” نَسج روائيّ مُحكَم، عرضٌ من غير فرض، يعتمد التشويق السينمائيّ البوليسيّ في فصول منه، وهذا ما يضفي عليه أبعاداً جديدة، وفي جوانب أخرى يعتمد تحليل أفكار وسلوكات متباينة، كأنّي بالكاتب يقدّم دراسة تطبيقيّة عن العلمانيّة والدين في المجتمعات التي لا تعطي كلّ واحدة منهما حقّها..
كيف يُؤوَّل انهمام حدّاد بالعلمانيّة والدين في عزفه المنفرد روائيّاً..؟! هل العلمانيّ هو وجه السلطة الظاهريّ الذي تسعى إلى رفعه وإشهاره في وجه الآخر إنذاراً أو استعذاراً..؟! هل يرمز الصديق ذو الوجه الطفوليّ إلى طفولة القوى الإسلاميّة..؟! هل العزف المنفرد من قبل كلّ شخص وحده هو ما يودي به..؟! هل تكاتف أجهزة الدولة مع أجهزة الدول الأخرى يشكّل جوقة تغنّي ما تريده وتفرضه القوى العظمى..؟! مَن هو العازف الحقيقيّ الذي ينفرد باللعب على مختلف الأجهزة ويتفرّد بالقرار..؟! مَن هو/ هم، البيانو المعزوف عليه..؟! هل يعكس الفصل قبل الأخير المعنون بـ«الربيع» ذاك الربيع الموءود قبل بضع سنين في دمشق..؟! وهل يقصد الروائيّ باختتامه بـ«النور» الحلمَ المأمول أم الكابوس الجاثم على الصدور..؟! هل يعني الإنهاء على ذي الوجه الطفوليّ نهاية المشكلة أم تجدّدها..؟! هل يدفع ذلك بالعلمانيّ إلى التطرّف الدينيّ كردّ فعل على الممارسات الشائنة التي تتمّ في السرّ والعلن..؟! أسئلة كثيرة تطرحها الرواية التي تتسلّل إلى مناطق معتمة في محاولة منها لتسليط بعض الضوء عليها..
موقع الآوان