حراس الهواء: انهيار الحلم وضبابية الرؤية
محمد ديبو
أتذكر أنني عندما فرغت من قراءة “نيغاتيف” للروائية السورية روزا ياسين حسن في العام الماضي، انتهيت إلى سؤال مازال عالقا في ذاكرتي : كيف استطاعت روزا أن تكتب في نيغاتيف كل تلك الحكايات القائمة على السرد والتوثيق لقصص سجناء تغري كل منها بأن تكون رواية مستقلة يلعب فيها الخيال، وهي الروائية بامتياز؟ أي كيف استطاعت أن تقاوم إغواء تحويل ما كتبته في نيغاتيف إلى عمل روائي تتخلص فيه من لغة التسجيل والتقرير، باتجاه لغة الرواية التي يساعد فيها الخيال على ملء فراغات الوثيقة والحوارات، بحيث يصبح العمل أكثر إمتاعا وإقلاقا في آن؟
الآن بعد صدور روايتها الجديدة “حراس الهواء” الصادرة عن دار الريس في بيروت هذا العام، سنكتشف أنها لم تستطع مقاومة إغواء تحويل الحكايات إلى رواية تأخذ من “نيغاتيف” مادتها الخام، وتسحب بها نحو مغاور الإبداع لتعيد إنتاجها في قالب روائي محض.
إذا كانت نيغاتيف تركز على حياة السجناء داخل السجن عبر سرد تجاربهم وقصصهم وأيامهم الممتلئة بالانتظار، انتظار حرية لا يعرفون متى تأتي ليصبحوا سجناء الأمل، فإن “حراس الهواء” ستحدثنا عن السجن من الخارج، عن الانتظار الآخر، عمن ينتظرون خروج أحبتهم، ليصبحوا بدورهم سجناء من نوع آخر.وتحدثنا عن لحظة الخروج وما يتبعها من انكسار الآمال لسجناء قضوا أيامهم في انتظار يوم حريتهم، ولحظة خروجهم اكتشفوا وهم ما حلموا به، أضاعوا البوصلة مكتشفين أن قطارات كثيرة مرت، وأن سجنا خرجوا منه لتنفتح أمامهم سجون أخرى أكثر إيلاما وحدة، تبدأ من سجون الذات وخيبات الحب وخيانة الجسد، وصولا إلى وطن تنكّر لهم وأحزاب تركتهم للعراء ومناف استعصت على قبولهم. إضافة إلى خيبة” مناضلات” الخارج اللواتي انتظرن أبطالهن وأحبتهن طويلا، ليكتشفن بعد خروج أحبتهن من السجن أن انتظار السجين أجمل من خروجه!
وبين الانتظارين تدور أحداث الرواية التي تبدأ “بعنات اسماعيل” حامل في شهرها الثالث وهي تنتظر مولودها، تعمل مترجمة في السفارة الكندية لمدير المفوضية العليا للاجئين، الكندي جوناثان غرين، الذي عليه أن يبت بطلبات اللجوء السياسي المقدمة له.
وهنا تبدأ عنات بسرد قصتها، إذ نتبين أنها تنتظر حبيبها جواد أبو عطا المسجون بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي المحظور، ووسط هذا الانتظار تظهر قضايا الوفاء والخيانة وحرمان الجسد من متعته وشوقه إلى ذكر يخفف عنه ضغوط الشهوات المتلاحقة، الأمر الذي يدفعها رغم حبها لجواد وإخلاصها له إلى حب جوناثان غرين الذي تستطيع أن تثق به، بعد مرورها بتجربة جنسية فاشلة مع رجل عراقي.
ورغم حبّ جوناثان لها وطلبه يدها للزواج إلا أنها ترفض لأنها تحيى بانتظار حبيبها الذي لم تعد تعرف إن كانت تنتظره بدافع الحب أم بدافع الوفاء، وهنا تطرح أسئلة متعددة عن واجب الوفاء في ظل غياب الحبيب، وهو السؤال الذي توجهه إلى صديقتها السجينة السابقة مياسة الشيخ( وهي في الحقيقة توجهه إلى نفسها)، التي خرجت وبقي زوجها إياد الشالاتي في السجن، عن إمكانية وجود رجل آخر، لتتعدد الإجابات حسب الحالة والشخصية ، فمياسة لا تستطيع الخيانة لأنها محملة بالايدولوجيا التي تجعل منها مناضلة ضد إنسانيتها ، حيث تقاطع أختها التي تحجبت وتزوجت من تاجر حلبي بعد أن أرسلت ورقة الطلاق إلى زوجها في السجن الذي تلقى ورقة طلاقه كمن يتلقى ورقة إعدامه، مما يجعله يوقع على كل ما تريده السلطات منه في سبيل خروجه من السجن ليستعيد زوجته، ولكن السلطات كعادتها تنكس وعودها، ليبقى في السجن يحتمل آلامه، ونظرات أصدقائه الجارحة لأنه وقع على أوراق السلطات وخان مبادئه، ليخسر حبيبته ومبادئه في آن!
بين سطوة المبادئ، ونداء الأجساد وصراخ الحياة من حولها وقصص عذابات الفارين من بلادهم باتجاه أمل السفر إلى أي مكان بعيدا عن أوطانهم الذين ضاقت بهم، تعيش عنات وهي تترجم كل يوم قصص هؤلاء وعذاباتهم ، حيث نسمع قصة السوداني سالفا كواجي المسيحي الذي عذب وسجن، وقصة عمانوئيل الكلداني، وقصة فتحية زانا الكردية، ومن خلال تدقيقنا في الحالات الثلاث التي تسردها الكاتبة سنجد أنها أخذ عينات من أقليات أثنية ودينية تعيش في بلدان متعددة، لتسلط الضوء على مسألة الأقليات وعلاقتها مع الأكثريات العربية الحاكمة، وهنا تنتقل الرواية من فضائها المحلي الضيق باتجاه فضائها العربي، لتبين لنا أن الهم واحد، وأن السلطات تتشابه أينما كانت في هذا الفضاء العربي الواسع بحدوده والضيق بزنازينه التي تغص بالمختلفين فكريا وروحيا وأثنيا وطائفيا.
وهنا نتعرف على مأساة حلبجة والأكراد، ومأساة جنوب السودان ومسيحييه ومأساة الكلدان العراقيين والأرمن وثقافتهم، حيث تشرّح لنا الكاتبة الظلم التاريخي الذي تعرضت له الأقليات دون أدنى إدانة من الأكثريات التي كانت تتفرج، وتسلط الضوء على تراجع واندحار ثقافة هذه الأقليات وطمسها، وهي الغنية والمشبعة بروح هذه الأرض، الأمر الذي يعني إفقارا للذات بطريقة ما، وسنجد مدى الجهل بثقافات هذه الأقليات، حيث يوجه جوناثان وهو الذي يعمل على بحث عن الأقليات سؤالا استنكاريا لعنات :
هل تصدقين عنات؟ أنهم يعرفون كل شيء عن العرب والإسلام، وأنتم لا تعرفون شيئا عنهم؟!
لنكتشف مدى عقمنا ، مقابل غنى هذه الأقليات التي تعرفت على ثقافتنا ورفضنا رؤية ثقافتهم رغم أنهم يعيشون بيننا، الأمر الذي يدفعهم إلى الانغلاق لأن الإقصاء يؤدي إلى الانغلاق بلغة الرواية نفسها.
وهناك أسرة عنات المثقلة بهمومها هي الأخرى، فوالدها حسن المتعلق بطيف خالة عنات زوجته الأولى سنية التي فقدها في حادث سير، وجميلة والدة عنات التي أجبرت على الزواج من حسن بعد وفاة أختها وهي في الرابعة عشر من عمرها، دون أن تعرف معنى الزواج، حيث تعيش في كره دائم لحسن، الأمر الذي يدفعها إلى الوقوع في حب جار لها، تنتقل إلى فراشه ليلا بعد نوم عنات وحسن.حيث تشرّح لنا الكاتبة العقم الذي تفرضه السلطات الاجتماعية على أفرادها الأمر الذي يخلق “رعاع تابعين” أكثر مما يخلق أفرادا قادرين على الفعل، وهكذا تتوحد السلطات الثلاث السياسية والطائفية والاجتماعية في خنق الخيارات الوطنية الفاعلة للجم أي حراك حر قد يغير شيئا في المعادلة السائدة.
لعل أجمل وأعمق ما في الرواية، هو التصوير الجميل للحظة الحقيقة، أو لحظة اكتشاف الوهم، أو لحظة الوعي بأن كل الأحلام قد أصبحت هباء، تلك اللحظة التي تكتشف فيها عنات وجواد أبو عطا أن ما انتظراه كان وهما، فعنات انتظرت رجلا لم تجده، رجلا غير قادر على حمايتها وتخفيف أعباء روحها التي انتظرت يوما ترتاح فيه، وجواد ملّ قول عنات بأنها انتظرته طويلا وضحت بالكثير من أجله، ومل الاستدعاءات الأمنية المتكررة، وضاق بعطالته عن العمل في الوقت الذي تصرف عليه عنات، إضافة إلى مقاطعة أهله له لأنه تزوج فتاة من خارج طائفته.. كل ذلك يدفع جواد للسفر خارج البلد، ولكن عنات ترفض ذلك بشدة، مؤكدة أنها لا تستطيع ترك والدها الذي يعيش غراما فريدا من نوعه، حيث تقمصت زوجته سنية في روح فتاة من غرناطة تدعى ايزابيل، وهي قادمة إليه!
وما يحصل بين جواد وعنات، يحصل مع إياد الشالاتي ومياسة، إذ يخرج إياد مليئا بالشبق الجنسي يريد تعويض كل ما فاته في السجن، حيث يحاول أن يمارس الجنس كما يشتهيه، ولكن زوجته تتقزز من محاولته لحس عضوها ولعق سوائلها الشحيحة، وتنفر من محاولته وضع عضوه بين نهديها وسكب سوائله على وجهها، الأمر الذي يزيد الهوة بينهما، خاصة عندما يفرد أمامها عدة أعضاء بلاستيكية وأنشوطات ومراهم ، مما يجعلها تقفز من الفراش مصعوقة لتنقطع العلاقة بينهما كليا، وليجد هواه في فتاة أخرى خبيرة بمتع الجنس ووضعياته الشبقة، بينما تنزوي مياسة في حياة التقشف والزهد والابتعاد عن مباهج الحياة وشبقها.
هكذا تنتهي مصائر الشخصيات التي كانت يوما ما مفعمة بمقولات التغيير والحرية والعدالة، لتسقط في فخ الرتابة والنجاة الشخصي والهرب نحو هاويات لا قرار لها، حيث لا تختلف مصائر الشخصيات في النهاية وإن تعددت أسباب وسبل هروبها، مياسة تجد خلاصها في الزهد والتقشف بينما يجد زوجها خلاصه في الإفراط الجنسي بلا حدود، ويجد عطا خلاصه في الهرب إلى منفى بعيد منتظرا زوجته المترددة بأن تلحق به، ويجد حسن خلاصه في إيزابيل المتقمصة حبا سابقا يوصله إلى الذبحة القلبية، لنجد في النهاية أن هذه “الخلاصات”، تعني أرواح يوحدها الخواء، والانكسار والهروب نحو ملاذات غير آمنة، منحدرة نحو الحسي ورد الفعل الذي أوصلتها إليه السلطات لتحصرها بين سندان الحلم ومطرقة الهرب من واقع غير قادرة على تغييره.
من الأشياء الجميلة في الرواية هو التعبير الأنثوي عن الجنس والحديث عنه بلغة أنثوية غير مفتعلة، إّذ نادرا ما نجد هذا الصوت الجنسي بلغة الأنثى، كيفية اشتياق الأنثى حقيقة لجسد ذكر، وكيفية تمتعها بمداعباته إضافة إلى لحظة تصويرها لحظات الجنس بين جوناثان وعنات، حيث تحكي الرواية” أعلى الرأس الأشقر فقط كان يهتز بين فخذي عنات، تلمحه من بين رموشها التي تطبق لذة. طرف مؤخرته يبين عاريا وأسفل ظهره مكسو بالشعر الفاتح، فيما عيناه تختلسان النظر إلى تعابير المتعة على وجهها”.
ولكن رغم أن الرواية قامت على عنصر أساسي يحكي حكايات السجناء و عنصر ثانوي يركز على الأقليات وحكايات الفارين من أوطانهم، فإن حكايات العنصر الثانوي لم تكن موظفة جيدا داخل الرواية، إذ بدت وكأن لا رابط يربطها حكائيا بالرواية، وخاصة عندما يتجه السرد نحو “التعبير ثقافيا” عن المشكلات التي ترزح بها أماكن هذه الشخصيات، من حكايات الأكراد وتقاتل الحزبين الرئيسيين إلى مشاكل السودان والشركس وغيرها ، إذ بدت تلك المقولات مقحمة في الرواية رغم أهميتها، أي أنها لم تكن مندمجة في النسيج الروائي بشكل كاف.
رغم ذلك استطاعت الرواية أن توضح مسألة في غاية الأهمية وهي أن الأحرار في الأقطار العربية لا مكان لهم إلا في السجون (جواد ومياسة اياد الشلاتي وو) أو في الوقوف على أبواب السفارات ( عواد وسعيد مبارك والليبي و فتحية زانا،وو)، مؤكدة توافق السلطات العربية بكل أشكالها على القمع أولا وآخرا.
وعملت الرواية أيضا على نزع طابع القداسة عن حكايات السجناء، إذ كانت الروايات تصورهم لنا أبطال خارقين لا يتحدثون إلا بالنضال والوطن بعيدا عن سخافات الجنس والحب و ما شابه، ولكن هنا تعمل الرواية على أنسنة حكاياتهم وشخصياتهم، تنزلهم من فضاء المقدس إلى فضاء الإنساني بكل جمالياته وانكساراته وخيباته، لنرى أرواحهم الحقيقية بعد تخليصها من الايدولوجيا لصالح الإنساني، وهو الأهم.
ونجحت الرواية في تصوير المآلات الدرامية التي وصلت إليها أحلام السجناء،إضافة إلى الخواء والحسرة التي تراكمت في قلوبهم عندما وجدوا أن حريتهم لا تختلف عن سجنهم كثيرا، لأن الحرية الفردية لا تعني شيئا عندما يحتجز الوطن بأكمله في جيوب الشيوخ والطوائف والسلطات التي تتوحد في كتم أنفاس العباد.
موقع الآوان