لوتريامون في أناشيد مالدورور: حزين كالكون جميل كالانتحار
دلدار فلمز
شاع كتاب “أناشيد مالدورور” للأديب الفرنسي لوتريامون ( 1846 – 1870 ) في الأوساط الأدبية على مستوى العالم بأسره، حتى أصبح منذ صدوره من أمّهات الكتب المعاصرة. فمن هو لوتريامون ومن هو مالدورور؟
للأسف لم ينل لوتريامون في الأوساط الثقافية العربية ما يستحقّ من الشهرة والدراسة، وكذلك كتابه الأشهر الذي لم يكن من السهل العثور عليه في المكتبات العربية بسبب ما يتضمّنه من مسّ بالتابوهات وخرق للمحظورات. وأنا شخصياً بحثت عن هذا الكتاب أكثر من خمسة عشر عاما حتى عثرت عليه أخيراً – بترجمة الأستاذ سمير الحاج شاهين – لدى بعض الأصدقاء، وأذكر أنّ حصيلة قراءتي له كانت مجموعة كبيرة من اللوحات الفنية سعدت بها كثيراً لدرجة أنني أقمت لها معرضاً خاصاً .
“ايزيدور دوكاس” الذي اشتهر بلقب ” الكونت دي لوتريامون” ولد في مونتي فيديو عاصمة الأورغواي من والدين تعود أصولهما إلى مقاطعة “طارب الشمالية “، وتيتم في سنّ مبكرة حيث ماتت والدته بعد ولادته بعشرين شهراً. عاش طفولته في أجواء مليئة بالعنف والمجازر والكوارث والأوبئة حيث الحرب بين الأورغواي والأرجنتين عام ولادته واستمرّت حتى عام 1952 ويظهر تأثير ذلك في أناشيده : ” الحرب الأزلية نصبت سيادتها الهدَّامة فوق الأرياف، وهي تحصد بفرح ضحايا عديدة….” النشيد الأول / مقطع 14 الكتاب عبارة عن ستّة أناشيد شعرية نثرية بطلها شخص يدعى ” مالدورور ” هو في الحقيقة لسان حال لوتريامون. ومما قيل في الكتاب: أندريه بروتون: “إذا وضعنا على حدة شخصاً واحداً: لوتريامون فإنّي لا أرى أشخاصاً آخرين لم يتركوا أثراً ملتبساً عن عبورهم ” أندريه جيد: ” إن قراءة رامبو ونشيد مالدورور السادس تجعلني أخجل من مؤلفاتي ” هنري ميشو: ” لوتريامون مع ذلك استحوذ عليّ: لدرجة أنّني اضطررت أن أتخلّص منه. لم يكن يتركني أعيش. بفضله كتبت. وحتى ذلك الحين لم تكن عندي رغبة شديدة في ذلك ولم أكن أجرؤ. عندما قرأت أناشيد مالدورور وعلمت أنّ المرء يستطيع أن يكتب وينشر ما يملكه في داخله من خارق حقاً، فكّرت أنه يوجد مكان لي ” آراغون: ” إننا لا نكاد نتذوّق مالدورور حتى يصبح كلّ الشعر تافهاً بعض الشيء ومدبّراً ” كان لوتريامون يعاني من صداع دائم، ويقال إنّه كان مخلوقاً غريب الأطوار غريب التكوين، فقد كان طويلاً هزيلاً محدودباً، أشعث الشعر، خشن الصوت، بارز الصدغين، تلفّّه كآبة ظاهرة وفي لسانه حبسة. وكان دائم الصداع لا يعرف النوم وإذا ما غفا فعلى كوابيس رهيبة : ” أؤكد لك أنه لا يوجد نار في عيني، مع أني اشعر فيهما بنفس الانطباع الذي كنت لأحسه فيما لو كانت جمجمتي مغموسة في خوذة من الجمر المتأجّج. كيف تريد للحوم براءتي أن تغلي في الدن، ما دمت لا أسمع سوى صرخات ضعيفة جدّا ومبهمة، ليست بالنسبة لي سوى تأوّهات الريح، التي تمرّ فوق رؤوسنا. إنّه لمن المستحيل أن يكون ثمّة عقرب قد ركّز مقرّه ومشابكه الحادّة في جوف محجري المقطع؛ أعتقد بالأحرى أنها كمَّاشات قوية تجرش الأعصاب البصرية. إلا أني متّفق معك، على أنّ الدم، الذي يملأ الدن، قد تمّ استخراجه من أوردتي من قبل جلاد لا منظور، أثناء رقاد الليلة الأخيرة .” النشيد الثالث / المقطع الأوّل .
من خلال لوتريامون وأناشيده نستطيع التعرف على نموذج من الطبيعة الإنسانية، فهو واحد من أولئك المنكودين، يتكلّم بلسانهم، ويكشف عن أفكارهم إلى درجة نشعر في بعض الحالات أنه يتحدّث بصوت ضميرنا، وعن المسكوت في أعماقنا.. إذاً هو لسان حال طبقة المعذّبين، يفصح عنهم بصوت عالٍ ويعلن عن غرائزهم العميقة والمناطق المستترة من التفكير البشري.
إن أشدّ ما يؤلمه في الحياة هو البداية التي تمّ استقباله بها: ” لقد تلقّيت الحياة كجرح ” النشيد الثالث / المقطع الأوّل. وهو يبحر أكثر في مواجهة الأسرار الخفية لحياة الإنسان على هذه الأرض، فيتناول أموراً عديدة في أنماط حياة البشر، ويتطرق إليها موضحاً كيف يتمّ تسخير الذكاء في التستّر على الأخطاء ويصبح أداة في منع الكشف عن الحقيقة، وذلك يعود إلى طبيعة التعليم الذي تلقّاه كل فرد منا، وكذلك طبيعة ونوعية الكتب التي قرأها والعادات التي اكتسبها على مرّ السنين، من خلال الاحتكاك مع البشر في محيطه، وكل ذلك في المحصلة ينتج طباعاً ومزاجاً لا يشبه في أي شيء الخطوط العريضة لأخلاقياتهم، إذ ليس من صالح البشرية أن تتحجّر العقول في قوقعة من المسلمات لا تقبل الجدل حيث يوجد دائماً بديهيات لا تتحمّل الشك فيها.
لا يتردد لوتريامون في وصف خالق الكون بالسادية فيقول ما معناه: “إذا كنت حقاً خلقتنا، فلماذا التنكيل بالبشر دون سبب، فتحدث هزات أرضية وعواصف تفتك بالبشر من الأزل، وكأنك تريد أن تقول لهم إنني خلقتكم ومن حقي أن افعل بكم ما أريد حتى لو كان ذلك من أجل متعتي الخاصة، سوف أعذبكم حتى لو لم يصبني منكم أيّ أذى. أنت لست ملكاً على الكون، لأنك لم تعرف أن تحكمه، لم تنجح إلا في نشر الذعر في أرجائه. إنك إذا تفاوضت مع سكانه فإنّ كلّ المخازي سترتدّ على وجهك . ”
ومؤلف الأناشيد يقترب من عقول البشر، يسألهم بماذا يفكرون، ها هو يسأل صبياً في حديقة التويلري بماذا يفكر فيجبيه: بالسماء فيقول له لوتريامون على لسان مالدورور: إنها روح الشر، من الأفضل لك ألا تضيع وقتك وتشغل بالك بالله، فهو لن يعطيك حقّك في العيش، بل عليك أن تحصل على حقك في الحياة بحكمة والعقل، ولا تبذّر عمرك في الأوهام والعبادة : ” بما أن السماء صنعها الله، وكذلك الأرض، فثق أنك ستقابل فيها نفس الشرور الموجودة في الدنيا. إنّك بعد موتك، لن تجازى وفقاً لمزاياك؛ لأنهم إذا كانوا يرتكبون المظالم ضدّك على هذه الأرض (كما ستبلور ذلك، بالتجربة، فيما بعد)، فليس ثمّة حجّة لأن لا يرتكبوا المظالم ضدّك، في الآخرة أيضاً. إنّ أفضل شيء تعمله، هو أن لا تفكّر بالله، وأن تنصف نفسك بنفسك، بما أنهم يرفضون إنصافك. إذا أهانك أحد رفاقك، ألن يسعدك أن تقتله؟ ” النشيد الثاني/المقطع السادس .
ها هو لوتريامون، مثل معظم الشعراء والمفكرين العلمانيين والماديين، يتمرّد على قوانين السماء وأوهام الخلود : ” إني لا أزال أستطيع، في الحالة التي تراني فيها، أن أقوم بنزهات حتى أسوار السماء، على رأس فيلق من المجرمين، وأن أعود لأتّخذ وضعية الجسم هذه، لأفكّر مليّاً من جديد بمشاريع الانتقام النبيلة”. النشيد الرابع / المقطع الرابع. وهو يقف على النقيض من تعاليم الدين المسيحي الذي ينادي بالمحبة والأخوة ” أحبب قريبك كنفسك ” ينعت البشر والأنا الفردية فيهم بالبغض ويتحدّى الله إذا كان يستطيع أن يثبت وجود إنسان طيّب وصالح.
وأمام قسوة قلوب ركّاب عربة النقل العامّ، الذين رفضوا التوقّف ليقلّوا معهم ولداً صغيراً جائعاً مقطوعاً ضائعاً في ليل باريس، لم تعد رجلاه قادرتين على حمله، يتساءل لوتريامون: “أهذه هي إذن المحبة البشرية؟”
يمقت لوتريامون الحقد المستشري بين البشر، ولا يجد له أيّ مبرّر بما أنّ جميع البشر يملكون نفس الملامح والخصائص الفيزيولوجية والنفسية، وهو يرى أنّ العداء لا يقتصر على الأفراد فقط بل إنه مزروع حتى في أقوام تعيش على حدود متوازية. يتساءل لوتريامون عن أمور شبه يومية، طالباً استقصاء أسبابها، ومحيلاً الأمر في النهاية إلى علم النفس فيقول : ” من يفهم لماذا يبتعد عاشقان كانا يتدلهان ببعضهما البارحة، بسبب كلمة أُسيء فهمها، ويتوجّهان الواحد شرقاً، والآخر غرباً مع مناخس الحقد والانتقام، الحبّ والندم، ولا يعودان يتقابلان، وقد تجلبب كل منهما في كبريائه المنعزلة … من يفهم لماذا نستلذّ ليس فقط بمصائب أَشباهنا العامّة، بل بمصائب أعزّ أصدقائنا الخاصة، بينما نحزن لذلك بذات الوقت؟ مثال لا جدال فيه كي أختتم السلسلة: الإنسان يقول بخبث نعم ويفكر لا… يبقى على علم النفس الكثير من التقدّم برسم الإنجاز.. ” النشيد الأوّل/ المقطع التاسع.
يقول لوتريامون إنّه لا يعرف ما هو الحبّ وما هي الصداقة، وهو لم يجدها قطّ بين الجنس البشري ويتكلم على لسان بطله مالدورور بأنه سوف يكون سعيدا عندما يشاهد على الشاطئ باخرة ركّاب تغرق على مقربة منه في المياه . وهو منذ بداية الأناشيد يعلن بأنه سوف يسخّر عبقريته في تجسيد ملذات القساوة، ولا يمجد الشرّ بل يصرّح بكلّ وضوح أنّ أفكار بطله مالدورور العدوانية والمتعجرفة والهدّامة مزروعة في نفوس كل البشر . ويتحدّث على لسان بطله بمجموعة من الأفكار المليئة بالسوداوية والشكّ والجحود من خلال لغة عنيفة، علماً أنّه لم يقترف طوال فترة عمره، القصير جدّا، واحداً من هذه الأفعال والآثام، بل كان يتخيّلها أو كان يتصوّر أنها ترتكب من قبل البشر بحقّ بعضهم البعض . نختتم بما جاء على لسان لوتريامون في النشيد الثاني / المقطع الثالث عشر: ” كنت أبحث عن روح تشبهني ولم أستطع العثور عليها … ”
موقع الآوان