رقباء عمّان
صبحي حديدي
انتصر القضاء الأردني للناشر والكاتب فتحي البس، في الشكوى التي رفعتها دائرة المطبوعات والنشر الحكومية ضدّ كتابه ‘إنثيال الذاكرة: هذا ما حصل’، الذي كان قد مُنع من التوزيع فور صدوره، في أيلول (سبتمبر) السنة الماضية. وخلص القاضي نذير شحادة إلى أنّ الكتاب لم يخالف قانون المطبوعات، ومؤلفه بريء من سلسلة التهم التي ساقها الإدعاء. والمرء، بعد تحية هذا القرار المشرّف، يأمل أن يكون قرار مماثل هو مآل الدعوى التي رفعها مفتي الأردن ضدّ الشاعر الشاب إسلام سمحان ومجموعته الواعدة ‘برشاقة ظلّ’، بتهمة الإساءة لأرباب الشرائع وإهانة الشعور الديني.
والحال أنّ لائحة ‘مآثر’ هذه الدائرة في المنع والمقاضاة لا تتزايد في العدد والنطاق (من الأدب، إلى السياسة، إلى السيرة…)، فحسب؛ بل هي تتفاقم من حيث اعتماد آلة تأويل تكاد تشبه المقصلة، وعدّة تأثيم جاهزة أبداً لإنتاج وإعادة إنتاج مختلف الإتهامات مسبقة الصنع. وإلى جانب قضية موسى حوامدة، في مجموعته ‘شجري أعلى’؛ وابراهيم نصر الله في أعماله الشعرية، طبعة 2006 (لأنّ الرقيب كان قد سكت، أو تغافل، عن طبعات سابقة لنصوص تعود إلى سنة 1984!)؛ وطاهر رياض، في مجموعته الجديدة ‘لا ينطق عن الهوى’… هنالك قضايا منع أو مصادرة بحقّ أعمال مثل ‘بالعربي الفصيح’ للكاتب الأردني شاكر النابلسي؛ و’حصّة آدم من النار’ للشاعر السعودي زياد عبد الكريم السالم؛ و’فانيليا سمراء’، للقاصة المغربية منى وفيق؛ و’الدين والدهماء والدم’، للكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر؛ و’انتحار دولة’، للصحافي الأردني موفق محادين؛ و’من الحزب إلى السجن’، للسياسي الأردني المخضرم ضافي الجمعاني (نزيل سجن المزّة السوري، طيلة 23 عاماً).
وذات يوم، قبل قرابة عقد، شاء الرقيب الأردني منع العدد المزدوج 55 ـ 56 من فصلية ‘الكرمل’، وكان مكرّساً للذكرى الخمسين للنكبة، واحتوى موادّ حساسة بعضها كتبه إسرائيليون من مجموعة ‘المؤرّخين الجدد’، ممّن قدّموا ويواصلون تقديم قراءات مختلفة لحقائق الإتصالات والصفقات والمناورات العربية والدولية أثناء حرب 1948. وكان مفهوماً أن يكون هذا هو السبب الوجيه الذي اتكأ عليه الرقيب، لولا أنه أدرج في حيثيات المنع دراسة عن نزار قباني، انطوت على اقتباسات من شعره رأى الرقيب أنها (كما تناهى للراحل محمود درويش، آنذاك) تخدش الحياء العامّ!
وبالطبع، الرقابة الأردنية ليست أفظع من الرقابات العربية الأخرى، معظمها إنْ لم يكن جلّها. غير أنّ هذا البلد خاض تجربة مثيرة في إطلاق الحريات الصحافية، أثمرت حقبة لامعة حقاً، أو هي تستحق هذه الصفة بالقياس إلى نظائرها من أحقاب عربية يتيمة. وهذا، في الأساس، هو السبب الذي يجعل سلوك الرقيب الأردني شاذاً، مستغرباً، وباعثاً على الحزن. وقبل أيام كان التقرير السنوي حول الحريات الصحافية في البلدان العربية لعام 2008، الذي أعدّه ‘مركزعمّان لدراسات حقوق الإنسان’، قد وضع الأردن في مرتبة ‘الحرّية النسبية’، أي في مستوى وسط بين دول عالية الترتيب مثل لبنان والإمارات، وأخرى متدنية مثل سورية وليبيا.
وقبل أشهر كان الصديق والزميل أمجد ناصر قد أشار، في هذه الزاوية، إلى جانب بالغ الخطورة حول ملفّ الرقابة الأردنية، أسماه ‘منع الشارع’، اعتبره أشدّ مضاضة لأنه ‘ذلك التحريض الذي تمارسه قوى في الشارع السياسي والاجتماعي الأردني ضدّ حرّية التعبير، خصوصاً ما يتعلق بفهمها للدين’. ولعلّي أضيف طرازاً ثالثاً من الرقابة، تمارسه الصحف ذاتها هذه المرّة، لاعتبارات لا تتصل بشبهة انتهاك المحرّم، السياسي أو الديني أو الأخلاقي، بل انسياقاً خلف عصبوية عمياء تُعلي نرجسية الصحيفة فوق الحدود الدنيا لأخلاقيات المهنة.
ولسوف أضرب مثالاً وقع لي مؤخراً مع صحيفة ‘الغد’ الأردنية، حين استكثر عليّ التحرير حقّ الردّ البسيط، الذي أحسب أنّ قانون المطبوعات الأردني يكفله، من جهة؛ كما كنت، من جهة ثانية، أنتظر أن يكون مكفولاً بصفة خاصة في هذه الصحيفة بالذات، التي يتحمس لها عدد من أصدقائنا في الأردن، لأنها ‘رفعت سقف النشر’. والحكاية أنّ مراسل ‘الغد’ كان قد نسب إليّ كلاماً حول قصيدة النثر، في منتهى السخف والسطحية والضحالة والركاكة، فاقتضى بالتالي أن أرسل تنويهاً وجيزاً أنفي فيه أن تكون تلك الفقرة البائسة قد صدرت عنّي، جملة وتفصيلاً. ولقد وعدني محرّر الصفحة أن ينشر الردّ، فلم يفعل؛ وأكد لي مسؤول القسم، في اليوم التالي، أنه غادر الصحيفة والتنويه قيد النشر، فلم يصْدُق؛ وأمّا المراسل ذاته فقد تبيّن أنه الوحيد الأكيد بينهم، لأنه بشّرني بأنّ التنويه لن يرى النور!
لم ألجأ إلى رئيس التحرير بالطبع، رغم معرفتي الشخصية به، إذْ قدّرت أنّ الأمر بلغ لتوّه مستوى محزناً ينبغي أن أتوقف عنده، سيّما وقد اتضحت بعض طبائع أخلاق النشر السائدة في الصحيفة، وانكشفت حدود ‘السقف’ الذي ترفعه! فإذا كان هذا المطبخ التحريري ـ وهم ‘شباب’ كما قيل لي، وفيهم الفلسطيني والسوري، قبل الأردني ـ يستسهل بلوغ ذلك الدرك في الإستخفاف بحقّ بسيط تكفله القوانين، ثمّ حجبه على نحو مبتذل يمسخ مراقَب الأمس إلى مراقِب اليوم، فما نفع الصعود إلى أعلى في هرم المسؤولية؟ وهل يجوز لنا، والحال هذه، أن نعترض على أفعال الرقيب الرسمي وحده، الذي قد يندى جبينه خجلاً إزاء ما يفعل الرقباء المتطوّعون؟
خاص – صفحات سورية –