ميشيل كيلو… حين يخرج المعارض من السجن واقفاً مثل شجرة
زين الشامي
ندرك تماماً حجم الضغوط التي تعرض لها الكاتب والناشط المعارض ميشيل كيلو حتى يغيّر، ولو قليلاً، من مواقفه السياسية المطالبة بإصلاح ديموقراطي سلمي، لكنه كان يدرك وهو في سجنه أن أي تنازل، وهو الخبير بعقلية السلطات الأمنية، سوف يجره إلى تنازل آخر حتى يفرغ السجانون في النهاية مواقفه من محتواها المعارض، وحتى يفرغوا القضية الوطنية الديموقراطية التي سجن من أجلها من مضامينها الوطنية كلها، والأهم من ذلك كله، حتى يكون مثلاً لشريحة كبيرة من السوريين، إذ يُعتبر ميشيل كيلو مثلاً أعلى لهم.
ومع أننا ننحني احتراماً لمعارض واقتصادي بارز مثل الدكتور عارف دليلة الذي حكمته السلطات بالسجن مدة أعوام عشرة نتيجة لمواقفه المعارضة ومطالبه بالديموقراطية والتغيير السلمي، نقول مع احترامنا الشديد له، فنحن لا نعرف الظروف التي خرج بموجبها من السجن قبل انقضاء المدة بموجب «عفو رئاسي»، خصوصاً أنه ومنذ لحظة خروجه من السجن منذ نحو أربعة أشهر، فإنه لم يدل بأي مواقف سياسية كتلك التي كان يدلي بها ويعبر عنها قبل دخوله السجن. لكن ربما كان ذلك أحد اشتراطات المؤسسة الأمنية والسياسية الحاكمة على دليلة خصوصاً، وهو الرجل الذي بلغ من العمر عتياً وأصابه المرض وهو في السجن، كما أن أفراد عائلته تعرضوا إلى أبشع انواع الإرهاب الجسدي والمعنوي من قبل أشخاص معروف عنهم ارتباطاتهم الأمنية، وذلك حتى يؤثروا عليه، وهو في السجن وحتى يبدلوا من مواقفه المشرفة. نتمنى ألا يكون ذلك صحيحاً، لأن ما نعرفه عن عارف دليلة لا يجعلنا نصدق أنه من الممكن أن يقبل الصمت أو أن يغير قناعاته التي دفع من أجلها ثمناً غالياً من حريته.
وعودة إلى ميشيل كيلو، هذا الكاتب الذي تسبق أفكاره المتدفقة قلمه دائماً، ويتحدث عن قضيته بسلاسة وطلاقة تعكس مدى ثقافته الواسعة وجلاء ويقينية القضية الديموقراطية الوطنية التي كرس حياته من أجلها منذ مطلع شبابه وحتى اليوم، وهو على أبواب السبعين.
كنا نخاف على ميشيل ليس لقلة ثقتنا بثباته، بل للضغوط الدنيئة التي من الممكن أن يوضع تحتها، خصوصاً أن السلطات القضائية والأمنية والسياسية لعبت كثيراً على أعصابه وأعصاب أسرته من خلال تسريب أخبار وقرارات عن قرب الإفراج عنه دون أن يحصل شيء من ذلك، ويبدو أنها كانت تحاول أن تجرب مدى ضعفه الإنساني واستعداده للرضوخ لمطالبها أو الاعتذار عن مواقفه، كما طلب منه مسؤول سوري رفيع جداً.
لكن ميشيل كيلو صمد وصمد على مواقفه ولم يقبل الاعتذار، لأن، حسب كلام كيلو نفسه «مثل هذا الطلب هو وقاحة بحد ذاته، فلا أحد يتخلى عن الصحيح، الإنسان يتخلى عن الخطأ لمصلحة الصحيح، وأظن أننا كنا على صواب ولا نزال».
بعد ثلاث سنوات قضاها في السجن، لا بل بعد ساعات قليلة من الإفراج عنه، أكّد ميشيل كيلو أن قضية الحريات والمجتمع المدني هي «أول قضية رأي عام» في سورية وهي قضية «لم تمت»، وأنها قضية رمزية مازالت حية وتستحق أن يتابع الإنسان بها وأن السجن لم ولن يغيّر هذه القناعات، ونفى أن يستطيع أي كان إجباره على التخلي عن هذه القناعات.
ميشيل كيلو، أو الشجرة الباسقة، لا فرق، يدرك أن دور المثقف في المجتمع يبقى دوراً أساسياً ومحورياً، ويؤمن أن الثقافة أداة فعالة لخدمة الشعب والمجتمع والناس، وهو من خلال سجنه عبر عن معنى وكيف يمكن للمثقف أن يكون فاعلاً في مجتمع تفصله هوة كبيرة بينه وبين مثقفيه، لقد ضرب مثلاً ساطعاً عن دور المثقف الحقيقي، وليس ذاك الذي ينظر إلى قضايا المجتمع من فوق أبراج عاجية، أو ذاك المثقف الذي يقضي نصف نهاره في المقاهي الشعبية، يخطّئ المعارضين وينتقد «عجلتهم وبصلتهم المحروقة» فيما يلعب «دق» طاولة النرد.
ميشيل كيلو… أهلاً بك من جديد، نردد معك كما رددت أنت عن حسن الترابي قبلك: «ومنذ متى كان السجن يغيّر قناعات الناس»؟
معك وبحضورك، سورية ستكون أجمل، وأكثر غنى، كما سيكون للكلمة والرأي الخارج منها طعم جديد ومختلف بعد ثلاثة أعوام من الصمت، لم نسمع خلالها إلا أصوات المنافقين والمزاودين والدجالين وبائعي الكلام والمواقف.
كاتب سوري
صحيفة الراي