المجتمع المدني بين نارين!
عبد الحسين شعبان ()
جُبهت دعوات منظمات المجتمع المدني العربي للاقرار بالتعددية واشاعة الحريات واحترام حقوق المرأة وإجراء انتخابات وتأكيد مبادئ المواطنة والمساواة الكاملة واحترام حقوق الانسان، كلها بالرفض والتشكيك، بل إن قياداتها تعرضت للملاحقة والسجن والتشويه، كما أن بعض الاحزاب السياسية بما فيها “المعارضة” اتسمت علاقاتها بالمجتمع المدني، بالتوجّس والالتباس، وخصوصاً أن هناك بين مؤسسات المجتمع المدني من كان يعتقد، وهو على خطأ، أن بإمكانه أن يكون بديلاً من هذه الاحزاب، التي استنفذ البعض أغراضه وأن مرحلة صلاحيته وقياداته قد انقضت وانتهت بالفشل المتكرر والذريع، لكن هذا شيء، وأن تعتقد بعض منظمات المجتمع المدني أنها بديل من الاحزاب، شيء آخر.
ووقفت بعض الاحزاب “القومية” و”اليسارية” و”الاسلامية” فيما بعد موقفاً فيه نوع من العدائية أو الخصومة مع مؤسسات المجتمع المدني، واعتبرت أن توّسعها وعضويتها قد انحسرتا بسبب توّجه بعض قياداتها السابقة وعدد من النشطاء، وبخاصة من وسط المثقفين الى مؤسسات المجتمع المدني بدلاً من التوجه اليها، وأن كثيرين من قيادات الاحزاب فضلت العمل في مؤسسات المجتمع المدني، فشروطه تختلف عن العمل الحزبي، من حيث التوجه والاداء من وجهة نظره، حتى يصبح تياراً واسعاً يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تتعاون معه.
يمكننا القول إن ما نقصده بالمجتمع المدني، هو: الافراد والمجموعات الناشطون في الحقل العام، والمنخرطون في عمل الجمعيات والنقابات والاتحادات والقوى المهنية والسياسية، والمتحدّرون من فئات وطبقات مختلفة، والذين استطاعوا تنظيم أنفسهم على نحو مشترك مقيمين أشكالاً من التضامن بينهم، في ظل ما وفرّته الدولة المدنية، باعتبار نشاطهم عابر للطوائف والإثنيات والأديان والمذاهب والإيديولوجيات والاتجاهات السياسية والانحدارات والعشائرية والقبلية والعائلية والمناطقية.
بهذا المعنى يمكن القول، إن المجتمع المدني هو تجمّع طوعي لموازاة سلطة الدولة رقيباً وراصداً لها، وتكون نشأته طبيعية في أجواء الحرية والديمقراطية وحق تشكيل الجمعيات، وضمانة الدستور، كما انه يرتبط بمستوى تقدم او تخلّف الوعي العام والوعي الحقوقي بشكل خاص.
إن الشروط التاريخية لنشوء فكرة المجتمع المدني بمفهومها الحديث والمتميّز، أي الذي يميّزها من غيرها من الأفكار السياسية في عصرنا تعتمد على عدد من المبادئ هي:
1- الفصل بين الدولة والمجتمع، اي بين مؤسسات الدولة والمؤسسات المجتمعية.
2- التمييز بين آليات عمل الدولة وآليات عمل الاقتصاد.
3- تمييز الفرد كمواطن، أي ككيان حقوقي قائم بذاته في الدولة، بغض النظر عن انتماءاته المختلفة.
4- التفريق بين آليات عمل المؤسسات الاجتماعية وأهدافها ووظائفها وآليات عمل السوق والاقتصاد وأهدافهما ووظائفهما من جهة أخرى.
5- التفريق بين الانتماء الطوعي المجتمعي لمواطنين احرار تآلفوا على العمل المشترك، وبين البيئة التي يولد فيها الانسان كبنى جمعية مثل العشيرة والدين والطائفة وغير ذلك.
6- التفريق بين الديمقراطية وبين المشاركة المباشرة في اتخاذ القرار في الجمعيات الطوعية والمؤسسات المجتمعية الحديثة(مؤتمرات، اجتماعات، استطلاع رأي …) الخ.
الحق في تأسيس الجمعيات
بين القانونين الداخلي والدولي
يعتبر الحق في تأسيس الجمعيات والمؤسسات المدنية، من الحقوق والحريات الأساسية، وتؤكد معظم الدساتير بما فيها الدساتير العربية والاسلامية، كفالة هذا الحق ولو أن العديد من الدساتير والقوانين يضع الكثير من العقبات والعراقيل أمامها، وإنْ جاءت بصيغة عامة في الدستور، فإنه يتم إثقالها بعبارة ينظمّها القانون لاحقاً، وغالباً ما تكون مثل هذه العبارة شرطاً تقييدياً لتأسيس هذه الجمعيات، بل وللحّد من حرية التنظيم بشكل عام.
وفي دساتير البلدان العربية أو قوانينها، فإن جذر تقييد هذا الحق يعود الى القانون العثماني لعام 1909، الذي اشترط التقدم بعلم وخبر الى وزارة الداخلية، يرفق معه النظام الأساسي أو قواعد العمل الداخلية للجمعية أو المنظمة المنوي تأسيسها، وشروط عضويتها وهيئتها الادارية وجمعيتها العمومية أو مؤتمرها.
واشترطت قوانين بعض البلدان العربية الحصول على ترخيص حكومي “قبل “مزاولة عملها، أي الحصول على” إذن ” من الوزارة لتصبح قائمة وتمارس حقوقها.
وتحت باب التفريق بين هذه الجمعيات المدنية والتنظيمات والأحزاب السياسية، حاولت بعض الحكومات رفض طلبات التأسيس تحت حُجة أنها “سياسية”، لدرجة ان جمعية عربية غير حكومية تقدمت مؤخراً للحصول على الترخيص للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني، رُفض طلبها باعتبارها جمعية ذات أهداف سياسية، وان نصّت على أنها جمعية غير سياسية، كما اشار الى ذلك بعض الناشطين في القطر.
وكانت بعض التيارات السياسية والحزبية قد توجهت الى تأسيس جمعيات، طالما لم يتضمن دستور بلدها الحق في تأسيس الأحزاب مستعيضة عن ذلك بتأسيس جمعيات أقرب الى مؤسسات العمل المدني، لكنها تمارس دوراً سياسياً، وهي محاولة توفيقية بين الحكومة والمعارضة كما حصل في البحرين بعد الاصلاحات، بهدف ايجاد مخرج يرخّص للعمل السياسي العام وإنْ لم يتضمن الدستور حقاً أساسياً ونعني به حق تشكيل الأحزاب ومن منطلق الديمقراطية وقاعدة حقوق الانسان، يمكن اعتبار قوة الدولة الحديثة بقوة تنظيماتها المدنية وجمعياتها غير الحكومية، ففي ذلك مؤشر للديناميكية السياسية وضمان الحقوق والحريات .
واذا تصوّرنا وجود دولة قوّية وجمعيات مدنية ضعيفة أو تابعة وغير مستقلة أو محظورة، فإننا سنكون في وضع أبعد عن مسألة الرقابة والمساءلة والشفافية، وبالتالي تضييق هامش الحريات، ففي حين أن وجود دولة قوية ومؤسسات مجتمع مدني وجمعيات أهلية قوّية في الآن ذاته، يؤدي الى توسيع فضاء الديمقراطية والشفافية والمساءلة وحقوق الانسان، فثمت علاقة تزداد طردياً أو عكسياً بالارتباط بين الدولة والمجتمع المدني، واذا تحدثنا عن الوجهين، فهناك وجه ثالث منظمات مدنية وجمعيات أهلية قوية جداً ودولة ضعيفة، فإن بروز النزعة الفئوية سيكون شديداً، وسينعكس ذلك على آلية وأجهزة الدولة ومؤسساتها ويغذّي الاتجاهات التقسيمية والتجزيئية سواءً كانت دينية أو مذهبية أو اثنية أو عشائرية أو جهوية أو غير ذلك.
ان ذلك ينطلق من فكرة جان جاك روسو حول علاقة الحرية بالسلطة التي تحدث عنها في “العقد الاجتماعي”، وهي التي جسّدت فضاء المجتمع المدني، وهو الذي يمكن أن يبلور مبدأ التعددية وفصل السلطات وفكرة التناوب.
() باحث ومفكر عربي