أوباما أمام مآزق المشروع وأزمة النظام
جريدة طريق اليســـــار*
– 1-
تزامن دخول النظام الرأسمالي منذ منتصف أيلول2008 في “أكبر أزمة مالية- اقتصادية منذ ثمانية عقود” (وفقاً لتعبير ألان غرينسبان حاكم البنك الفيدرالي الأميركي السابق) مع وصول المشروع الأميركي إلى مآزق كبرى في محطات؛ احتلال العراق وفي حرب تموز2006 وغزة2009 وبيروت وكابول ومقديشو وجيورجيا وضعته عند حافة الفشل، بعد أن كان هذا المشروع لعقد ونصف من الزمن، ، في حالة من النجاحات المستمرة في”عملية إعادة صياغة العالم” وفقاً لمصالح القطب الواحد، وفي زمن اعتبر فيه حتى اليساريون المنزاحون نحو اليمين، أن الليبرالية (برؤيتها الفكرية للعالم) ونظامها الاقتصادي هما”نهاية التاريخ”.
-2-
في الواقع، كان هذا لا يمثل فقط جانباً سياسياً- اقتصادياً من الموضوع، بل امتد إلى الجانب الأيديولوجي، لما كانت أيديولوجية الليبرالية الجديدة هي القاعدة الفكرية- الثقافية لنظام السوق المنفلت العقال الذي قادت إليه سياسات إدارة بوش الابن، في الوقت الذي استندت فيه مجموعة المحافظين الجدد، إلى تلك الأيديولوجية من أجل تسويغ حروبها في مناطق عديدة من العالم، وتدخلاتها في هذا البلد أو ذاك من “أجل نشر الديموقراطية”، أو محاربة “الإرهاب”
لذلك، كانت تلك المآزق للمشروع الأميركي، والأزمة المالية-الاقتصادية، تمثلان فشلاً أيديولوجياً
أصاب النظام الفكري المسيطر في الوسط اليميني العالمي في العقود الثلاثة الماضية ( الليبرالية الجديدة)، والذي كان الراية التي حملتها إدارة ريغان في الثمانينيات أثناء ذروة انتصارها على السوفييت.
بدون هذا الفشل، الذي بانت أبعاده في خريف عام 2008، ما كان من الممكن أن يُهزم المرشح الجمهوري جون ماكّين،الذي كان رمزاً لاستمرارية عهد بوش الابن.
-3-
من هنا، فإن باراك أوباما يواجه في عهده الجديد أبعاداً ثلاثة من الأزمة: في الأيديولوجيا، والاقتصاد، وفي السياسة الخارجية.
فيما يخص الجانب الأيديولوجي، فإن الحزب الديموقراطي، الذي أتى منه المرشح الرئاسي أوباما، لم يقدم رؤية يمينية جديدة، تشكل تصوراً جديداً للعالم والسياسة والاقتصاد، وإنما تتحدد مواقعه عبر الرفض والنبذ لبعض جوانب أيديولوجية المحافظين الجدد،التي سيطرت على الوسط اليميني الأميركي، والعالمي، لدرجة اجتاحت معها مواقع التيارات العديدة لليمين التقليدي (المحافظون التقليديون- الليبرالية القديمة) وأصابت بعدواها وتأثيراتها أوساط اليسار،عند تيار الاشتراكيين الديموقراطيين، فيما جذبت العديد من الماركسيين الذين انزاحوا عن مواقعهم السابقة.
في الاقتصاد،هناك وضوح أكثر عند أوباما، باتجاه العودة إلى تصورات جون مينارد كينز(1883-1946) ووصفاته الداعية لتدخلات الدولة الرأسمالية في السوق، ووظيفتها الاجتماعية، مع إدارة الظهر لوصفات الليبراليين الجدد ،ومنظِرهم الاقتصادي ميلتون فريدمان، حول استقالة الدولة من وظائفها الاقتصادية- الاجتماعية وترك حركة السوق حرة إلى الحدود الكاملة مع اعتباره أن المال والنقد هما الاقتصاد بعيداً عن النظرات الرأسمالية التقليدية التي كانت ترى في السلعة أساساً للاقتصاد ومحركه، ما يمكن أن يفسر طغيان رأس المال المالي المضارب والبنوك الاستثمارية في الاقتصاد الأميركي في عهد بوش الابن، وما ولدَه هذا من طفرات، كان آخرها في قطاع العقارات، حتى انفجرت فقاعة هذا القطاع في العام الماضي معلنة عن أزمة مالية امتدت سريعاً إلى الجانب الاقتصادي، بالتزامن مع الانتقال بالسرعة نفسها خلال أشهر قليلة من الاقتصاد الأميركي إلى العالم ، بينما استغرق هذا الانتقال في أزمة 1929 حتى خريف1931.
إذا انتقلنا للجانب الثالث، نجد سياسات مختلفة عند الرئيس الأميركي الجديد، باتجاه الابتعاد عن سياسات صدمت الحلفاء قبل الأعداء عند بوش الابن، مثل”تحالف الراغبين”و”الحرب الوقائية” التي سوَغ بهما حرب العراق 2003 ضد إرادة مجلس الأمن الدولي وشركائه الأطلسيين في باريس وبرلين، نحو التفات أميركي أكبر إلى “الناتو” كوسيلة لتحقيق المهمات (أفغانستان،مثلاً)، ونحو سياسات تشاركية- تعاونية مع الدول الرأسمالية الكبرى(مجموعة الثمانية) لإيجاد سياسات مشتركة بين واشنطن والآخرين لمعالجة الأزمة المالية-الاقتصادية العالمية،وهو ما برز بوضوح في قمة العشرين المنعقدة مؤخراً بلندن. كما يلمس،عند أوباما، تكتيك جديد ، بخلاف سلفه، باتجاه الابتعاد عن سياسات تصادمية، مع روسيا والصين، عبر تقديم تنازلات إرضائية لهما ، بعد أن برزت قوتهما بالترافق مع الضعف الأميركي المستجد، في مواضيع كانت مثيرة للصدام والاحتكاك معهما (الدرع الصاروخي- جيورجيا- أوكرانيا- تايوان……..إلخ) مقابل تعاونهما في قضايا أخرى أصبحت أكثر إلحاحا عند واشنطن (إيران- أفغانستان- كوريا الشمالية). هذا التكتيك الأميركي الجديد أصبح ملموساً أكثر في طريقة التعامل مع مناطق ساخنة من العالم، مثل الشرق الأوسط، حيث بدلاً من سياسة الغزو والتصادم (حرب العراق) مع تجاهل الحلفاء التقليديين ومصالحهم (تركيا،مثلاً) فإننا نجد الآن مقاربة أميركية مختلفة للمنطقة عبر الاستعانة بقوى إقليمية كبرى من أجل”نزع الأشواك الأميركية” بدلاً من اليد الأميركية المباشرة، مثل تركيا التي كانت زيارة أوباما لها مؤخراً بالغة الدلالة على اتجاه أميركي جديد لتعويم الدور الإقليمي التركي في ملفات المنطقة المختلفة ( فلسطين- العراق- إيران- أفغانستان)، وخاصة بعد الفشل الإسرائيلي الثاني في غزة 2009 بعد فشله في حرب تموز 2006، وذلك لإيجاد ممرات يستطيع من خلالها باراك أوباما حل مآزق المشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط،التي يبدو أن السيطرة عليها هي حيوية لكل رئيس أميركي، و لو اختلفت الوسائل والسياسات، من أجل دوام قوة الإمبراطورية الأميركية.
– 4-
يلاحظ اختلاف الوضع،في هذه الأيام التي تشهد فيها الرأسمالية العالمية أزمة مفصلية ويواجه المشروع الأميركي (والنظام الأميركي كقائد للنظام الرأسمالي) أزمة تختلف عن أزمة1929، لجهة أنه كان هناك بديل أيديولوجيّ ماركسيّ مطروحاً بقوة في العشرينيات والثلاثينيات،وكان هناك مركز عالميّ في موسكو يحمل هذا البديل. صحيح أن هناك أفولاً في قوة الليبرالية الجديدة، وخفوتاً ملحوظاً في القوة الفكرية- السياسية لمقولة”نهاية التاريخ”، بالترافق مع عودة فكرية قوية لكارل ماركس وأطروحاته، إلا أن اليسار الماركسي العالمي لم يستطع حتى الآن أن يقف جيداً على قدميه بعد عقدين من انهيارات1989-1991، وأن يقدم أطروحات مقاربة للوقائع الجديدة باتجاه انتعاش سياسي- تنظيمي جديد،
مستفيداً من ما بعد أزمة أيلول2008، وإن كان هناك مؤشرات أولية على ذلك تدعو للتفاؤل. ينطبق هذا الشيء أيضاً على المحيط العربي، حيث لم يُجر حتى الآن حصاد يساري ماركسي للهزيمة التي حاقت بأيديولوجية الليبرالية الجديدة التي جرى تعويمها كثيراً في أكثر من بلد عربي (ومنها سوريا) على إيقاع الهجمة الأميركية على المنطقة بدءاً بحرب2003.
– 5-
في هذا الوقت بالذات ما تزال الحكومة السورية مصرة على المضي في توجهاتها الليبرالية ، مرة بإهمال قطاع الدولة بهدف خصخصته في اعتداء واضح على مكتسبات العمال ومرة أخرى برفع سعر السماد (اليوريا) و برفع الدعم عن أسعار المازوت وغيره .. في حركة لا تخلو من المغزى التاريخي القائل إن مقص الليبرالية والطمع البورجوازي قد وصل إلى ذقن الفلاحين وخاصة فقرائهم ، فعن طريق التسعير يتم اقتطاع حصة من دخل الفلاحين الكادحين والمنتجين الحقيقيين لترمى في سلة الرأسماليين الطفيليين الجشعين. العاقل يعتبر والجاهل يترك لحسرة الطمع الأعمى!
* جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية /تيم/