حقوق الإنسان وقنبلة الاقتصاد الموقوتة
صبحي حديدي
تقرير منظمة العفو الدولية، حول أوضاع حقوق الإنسان للعام 2009، يشمل 157 بلداً وإقليماً، أي أنه يضع على المحك أعرق الديمقراطيات إسوة بأعتى الدكتاتوريات، اتكاء على منطلقات مبدئية سليمة تقرأ انتهاكات حقوق الإنسان ضمن منظورات غير أحادية، مركبة، ومتعددة الأشكال. ذلك لا يعني أنّ الفوارق ليست هائلة، في النوع والأداء والخلفية الحقوقية ـ القانونية، بين ما يفعله اللواء علي مملوك، رأس جهاز المخابرات العامة في سورية، بالمعارضين السياسيين والنشطاء وعامّة المواطنين؛ وما يفعله ضابط شرطة فرنسي، في مراكز احتجاز طالبي اللجوء، والمهاجرين الذين تعتبرهم السلطات ‘غير شرعيين’؛ أو ما يفعله شرطي أمريكي في ولاية كاليفورنيا، حين يستخدم المسدس الصاعق لتفريق التظاهرات.
كذلك فإنّ الفارق جوهري، ولعلّه سياسي وأخلاقي لا يقتصر على المحتوى الحقوقي وحده، بين ما يمارسه جيش الإحتلال الإسرائيلي من بربرية قصوى وهمجية مفتوحة ضدّ المدنيين الفلسطينيين، وخلال حرب غزّة الأخيرة بصفة خاصة؛ وما تصنّفه منظمة العفو الدولية تحت صيغة ‘هجمات دون تمييز بالصواريخ على مناطق مدنية في جنوب إسرائيل’، تقوم بها ‘جماعات فلسطينية مسلحة في غزّة’. صحيح أنّ المنظمة تسرد تسعة أعشار الإنتهاكات الإسرائيلية، من الجدار العازل، إلى الحصار ونقاط التفتيش وإغلاق المعابر، وأعمال قتل المدنيين العزّل، والإجلاء القسري للسكان، وهدم المنازل، والنظام القضائي العسكري الذي يتيح الإفلات من العقاب… إلا أنّ التمييز غائم تماماً، بل هو غائب، بين مدني فلسطيني أعزل تماماً، ومدني إسرائيلي مستوطن ومسلّح؛ إذا وضع المرء جانباً حقائق البون الشاسع في شدّة القتل والتدمير والأذى، بين قاذفات ومدافع وقنابل الآلة العسكرية الإسرائيلية، وصواريخ ‘القسّام’.
غير أنّ جديد تقرير 2009 ـ وبالنظر إلى أنّ الفظائع التي ارتُكبت بحقّ الإنسان في العام المنصرم ليست أقلّ من إعادة إنتاج لأنساق الفظائع السالفة ذاتها، وهي بالتالي ليست جديدة إلا في بعض التفاصيل المختلفة للوقائع ـ هو إعلان المنظمة بأنّ ‘الأزمة الاقتصادية العالمية’، أو مأزق النظام الرأسمالي وتأزم اقتصاد السوق في توصيف أوضح ـ ‘فاقمت الويلات التي جرّها على البشرية تقاعس الحكومات لأكثر من ستة عقود عن إيفاء حقوق الإنسان حقها، حيث كشفت الأزمة الغطاء عن مشكلات الفقر وعدم المساواة ودفعتها إلى سطح الأحداث’، كما قال بيان المنظمة في مناسبة توزيع تقريرها السنوي.
وثمة الكثير من المغزى في أنّ تقرير هذا العام يردّد، ليس دون وجه حقّ، أصداء التقارير السنوية لمنظمات معنية بالتنمية الإنسانية، مثل ‘برنامج التنمية’ أو منظمة ‘الأغذية والزراعة’، حول مشكلات الجوع والفقر والبطالة. تقارير ‘العفو الدولية’ السابقة لم تكن تهمل هذه الجوانب، لا ريب، ولكنّ التقرير هذه المرّة يتحدث عن خروج الناس إلى الشوارع في مناطق مختلفة من العالم، احتجاجاً على ارتفاع أسعار السلع الغذائية، ‘ما دفع الفئات الأكثر فقراً في العالم نحو أعماق جديدة من الفاقة’؛ ويسجّل حاجة خمسة ملايين شخص إلى مساعدات غذائية عاجلة، في زيمبابوي وحدها، خلال العام 2008؛ ويستبصر اقتراناً دراماتيكياً بين حقوق الإنسان ومسائل السياسة والاقتصاد، دفع آيرين خان، الأمينة العامة للمنظمة، إلى مستوى من الخطاب غير مسبوق: ‘عالم اليوم يجلس فوق قنبلة اجتماعية وسياسية واقتصادية موقوتة’!.
هل هذا هو الكون ذاته، الذي تمعّن فيه فرنسيس فوكوياما قبل 20 سنة بالتمام والكمال، في عام 1989 (أو ‘عام المعجزات’ Annus Mirabilis، حسب الملكة البريطانية إليزابيث)، فاعتبر أنّ تاريخ العالم انطوى إلى غير رجعة، وأنّ إنسانه ـ كائن اقتصاد السوق، وحده، دون سواه ـ هو الظافر الأخير؟ في المقالة الشهيرة التي نعت التاريخ، واستطالت بعدئذ إلى كتاب، بشّر فوكوياما بالمقولة التالية: التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة…)؛ وقد انتهى التاريخ، وانتهت اللعبة، لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (انتهاء الحرب الباردة)؛ أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن، هي تلك الخاصة بالرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق.
في العام 1999، مناسبة الذكرى العاشرة للمقالة والكتاب، لم يكن واضحاً أنّ أحداث العقد الذي انصرم، وكانت جساماً ثقيلة الوطأة والعواقب، قد فتّت في عضد الرجل. لا شيء في السياسة الدولية أو الاقتصاد الكوني برهن على بطلان أطروحة نهاية التاريخ وانتصار القِيَم الليبرالية واقتصاد السوق: لا شيء، حرفياً! لا ‘عاصفة الصحراء’، ولا الحروب الإقليمية، ولا الأشباح الإثنية التي استيقظت من سبات قرون طويلة، ولا انهيار الإقتصادات الآسيوية العتيدة أو الإقتصادات الأوروبية الشرقية الوليدة، ولا حروب الصومال أو مذابح رواندا أو إنفجار البلقان… لا شيء، حرفياً!
التنازل الوحيد الذي قدّمه فوكوياما، بتواضع العالم ـ العرّاف، هو ذاك الخاصّ بتتويج التاريخ في صيغة الدولة الليبرالية الحديثة: ‘كانت هذه الأطروحة خاطئة تماماً’، لأنّ التاريخ ‘لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد، ونحن على أعتاب اكتشافات علمية ذات جوهر كفيل بإلغاء الإنسانية في حدّ ذاتها’. في البدء انتهى التاريخ، ثم بعدئذ انتهى الاقتصاد (وهذه هي الأطروحة المركزية في كتاب فوكوياما الثاني: ‘الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء’)، ثمّ آن أوان انتهاء الإنسانية ذاتها، دون تاريخ دائماً، وفي الحالات الثلاث!
وفي ختام مقالة اليوبيل العاشر تلك، كتب فوكوياما: ‘إنّ السمة المفتوحة لعلوم الطبيعة المعاصرة تسمح لنا بالقول إنّ تكنولوجيا علوم الأحياء سوف تسمح لنا، وخلال جيلَين قادمَين، باستكمال ما فشل اختصاصيو الهندسة الإجتماعية في القيام به. وفي المرحلة تلك سوف تكون علاقتنا بالتاريخ الإنساني قد انتهت تماماً لأننا سوف نكون قد أبطلنا الوجود الإنساني في حدّ ذاته. عندها سوف يبدأ تاريخ جديد عابر للإنساني’. هل نعيش تباشير ذلك التاريخ، في هذه الأيام: أفغانستان والعراق، بعد حرب الأطلسي ضدّ يوغوسلافيا السابقة (التطهير العرقي، المذابح الجماعية، التهجير والتهجير المضاد، حرب الصرب ضد الأقلية الألبانية في كوسوفو، حرب ‘جيش تحرير كوسوفو’ ضد الأقلية الصربية في الإقليم ذاته…)؛ وحرب العولمة ضد بُناة العولمة (حروب التبادل والتجارة والبورصة، حروب الموز، حروب البقرة المجنونة، والدجاجة المجنونة، والكوكاكولا المجنونة…)؛ وحرب المعلوماتية (بيل غيتس ضدّ وزارة التجارة الأمريكية، وعملياً ضدّ جميع الخوارج عن أنظمة ‘ميكروسوفت’)؛ الخ… الخ…؟
أم أنّ أحدث الدلائل نلمسه في هذا التلاقي غير المسبوق بين انتهاك حقوق الإنسان المدنية، وانتهاك حقوقه الاقتصادية؛ فيستذكر المرء، مثلاً، أنّ الصفحات الأولى من كتاب فوكوياما الثاني تعلن صراحة أنّ الهدوء الذي أعقب انهيار الشيوعية كان مريباً وخادعاً، لأنه أخفى ما سينفجر من ضجيج وعجيج حول آفاق تطوّر الإنسانية (التي اختتمت تاريخها)، ومعضلات إنسانها الأخير، في تقاسم اقتصاد ما بعد التاريخ؟ آنذاك سكت فوكوياما عن الأشباح القومية والإثنية التي استيقظت في وجدان ذلك الإنسان ومن حوله، وأشعلت الحرائق هنا وهناك، فانشغل الاقتصاد بلملمة الأشلاء والأموات بدل رعاية الأحياء. الفلسفة المنقلبة إلى ـ أو القادمة من ـ البيروقراطية يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، كأن تصمّ الآذان، وتؤجّل القرارات، وترجئ إرسال عربات المطافئ لوقف انتشار اللهيب على الأقل.
في الكتاب ذاته كان فوكوياما قد اكتشف أنّ سياسة ما بعد التاريخ هي اقتصاد مبطّن، وأنّ ‘جميع المسائل السياسية تدور حول مسائل اقتصادية، بما في ذلك المشكلات الأمنية ذاتها التي تنبثق من صلب المجتمعات المدنية الرخوة، شرقاً وغرباً’. هل يعني ذلك أنّ حرب الحلف الأطلسي ضدّ يوغوسلافيا هي حرب اقتصادية صرفة، أم هي ‘تدور حول مسائل اقتصادية’؟ ولكن ألم يحذّرنا ـ بشدّة، في الواقع ـ من مغبة الخلط بين السياسة والاقتصاد والثقافة: ‘لا يغرنّكم هذا الاقتصاد، لأنه يضرب بجذوره عميقاً في الحياة الاجتماعية، ولا يمكن فهمه على نحو منفصل عن مسائل تنظيم ـ أو سوء تنظيم ـ المجتمعات الحديثة لنفسها. ها هنا الحلبة الحقيقية للصراع، واليد العليا في صناعة المجتمع الاقتصادي هي يد الثقافة الاجتماعية (أو الاجتماع الثقافي) التي يمكن أن تطلق أو تكبّل الأيادي الأخرى مهما بلغ جبروتها العملي أو الحسابي أو التقني’؟ وكيف نقرأ اليوم دموع الندم التي ذرفها فوكوياما حزناً على تورّط جورج بوش الابن في العراق، هو الذي أدمى الكفّين تصفيقاً لمغامرة جورج بوش الأب في… العراق إياه؟
وما دمنا في زمن اختلاط الحقّ المدني بالحقّ الاقتصادي، و’القنبلة الموقوتة’ التي تحذّر منها منظمة العفو الدولية، من الحكمة اقتباس هذا الإعتراف الفوكويامي: ‘إنني، في نهاية الأمر، لم أقل إنّ جميع البلدان سوف، أو ينبغي أن، تصبح ديمقراطية في المدى القصير. ولكن قلت فقط إنّ التاريخ الإنساني ينضوي في منطق تطوّري، سوف يقود الأمم الأكثر تقدّماً نحو الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق’. تقارير حقوق البشر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن تقارير حقوق الإنسان، لا تقول هذا البتة، بقدر ما تبرهن على نقائضه.
والحياة أنصفت الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو، حين عقد مقارنة مباشرة بين مسؤولية النظام النازي عن جثث الهولوكوست، ومسؤولية النظام الاقتصادي العالمي الراهن عن جثث الجائعين في أفريقيا. فهل توقفت شاشات التلفزة الغربية عن تحذير مشاهديها من أنّ المشاهد التالية قد تكون ‘مؤذية’ للمشاعر: أطفال يرضعون من أثداء ضامرة تحوم حولها أسراب ذباب ليست أقلّ جوعاً، وأطفال يدفنون بعد أن التصقت جلودهم بالعظام ونفقوا جوعاً (والفعل ‘نفق’ يخصّ الماشية عادة، لمن ينسى أو يتناسى)، ورجال ينبشون الرمل بحثاً عن عروق وجذور ودرنات… أيّاً كانت؟
وكان الفيلسوف الألماني هيغل، الذي زعم فوكوياما التتلمذ على تراثه، هو الذي أشار إلى أنّ السيرورة التاريخية الإنسانية انطلقت من ‘معركة دامية’ بدئية بين متحاربَين اثنين يحاول كل منهما استعباد الآخر. وقبل ولادة الديمقراطية الليبرالية، حين كان التاريخ قائماً على قدم وساق، اضطر أمراء وملوك وفرسان طامحون إلى خوض حروب الهيمنة وتعريض حياتهم للخطر في حلبات القتال، وهم اليوم يعرّضون رساميلهم للخطر في حلبات أخرى اقتصادية، مختلفة في كل شيء باستثناء رائحة الدماء. ألا يبدو هذا المعنى قريباً، على نحو مدهش، مما تقوله آيرين خان اليوم في توصيف أوضاع حقوق الإنسان، وليس في تبيان أحوال اقتصاد السوق: ‘مليارات البشر يعانون من انعدام الأمن والعدالة والكرامة في شتى أنحاء العالم. وفي العديد من الحالات، جعلت الأزمة الاقتصادية الأمر أكثر سوءاً، مع انزلاق ملايين جديدة نحو هاوية الفقر’؛ أو: ‘الأزمة الاقتصادية العالمية تتطلب من قادة العالم نوعاً جديداً من القيادة. وعليهم أن يقوموا بعمل جدّي وحقيقي يتخذ من حقوق الإنسان مرتكزاً لمعالجة الفقر المتنامي في شتى أنحاء العالم. كما يتعين عليهم الإستثمار في حقوق الإنسان بالحماسة نفسها التي يهرعون بها نحو الإستثمار في النمو الاقتصادي’؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –