انتفاضات العرب واخلص خلصاء الطغاة
صبحي حديدي
لم يكن ينقص انتفاضات العرب إلا ذلك ‘التفاؤل’ الذي أتاهم من حيث لا ينتظرون، ولا يحتسبون: الكاتب الأمريكي ـ اليهودي الشهير دانييل بايبس، كاره العرب، وقبلهم المسلمين، بامتياز يكاد أن يكون نسيج وحده حقاً؛ ليس من منطلقات خوافية إستيهامية عنصرية من الطراز الرائج هذه الأيام في الغرب، فحسب؛ بل كذلك، وأوّلاً، لأنّ الرجل صهيوني العقيدة، إسرائيلي الإنحياز (الأعمى، المطلق، الأقصى…)، ليكودي الهوى (في زمن عزّ العثور فيه على ليكودي إسرائيلي ‘أصيل’!).لكنه تفاؤل مثل قلّته، كما يُقال في التعبير الشعبي، أو هو نقيض الصفة في واقع الأمر، لأنه ينتهي إلى تعليق تلك الإنتفاضات على أكثر من مشجب، يأتي في طليعتها ما يسمّيه ‘الحرب الباردة الشرق ـ أوسطية’ تارة، أو ‘الشطرنج الإقليمي’ طوراً؛ ولكنه لا يحيلها، مرّة واحدة، إلى إرادة الشعوب، والتعطش إلى الحرّية والكرامة والديمقراطية، إزاء قبائح أنظمة الإستبداد والفساد. ولديه، في تشخيص عناصر هذه الإنتفاضات (التي يحصرها بين ‘التمرّد’ و’العصيان’، وليس الإنتفاضة أو الثورة)، ثلاثة مستويات من ‘التأمل’.الأوّل هو أنها ثمرة تصارع فريقَيْ الحرب الباردة الإقليمية: معسكر إيران و’المقاومة’، الذي يضمّ سورية وتركيا وغزّة ولبنان وقطر، ويسعى إلى ‘هزّ أركان النظام القائم، واستبداله بآخر إسلامي أكثر تقوى، وأشدّ عداء للغرب’؛ ومعسكر السعودية، وهو صفّ ‘الأمر الواقع’، الذي يضمّ معظم ما تبقى من دول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، و’يفضّل الحفاظ على الأمور كما هي، في قليل أو كثير’. المعسكر الثاني ‘يتمتع بخاصية تقديم رؤية’، والمعسكر الأوّل يتميز بـ’القدرة على نشر المدافع، والكثير منها’.المستوى الثاني من تأملات بايبس هو أنّ ‘التطورات’ في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين ذات مغزى كبير، ولكن المغزى الأكبر هو في ما ينتظر ‘العملاقين’ قائدَي المعسكرين، إيران والسعودية. صحيح أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمكنت من احتواء الاحتجاجات الشعبية في حزيران (يونيو) 2009، على خلفية الإنتخابات الرئاسية؛ إلا أنّ النار ما تزال تحت الرماد، وانهيار ‘نظام الخميني’ ليس بعيد الاحتمال، وعواقب حدث كهذا تشمل أمن إسرائيل، والأمن النووي في المنطقة، ومستقبل العراق، وسوق الطاقة الدولي، و’معسكر المقاومة’ ذاته في المقام الأوّل.ورغم أنّ السعودية تتباهى بنظام مستقرّ، تقوم ركائزه على ‘مزيج فريد من العقيدة الوهابية، والسيطرة على مكة والمدينة، واحتياطي النفط والغاز’، إلا أنّ ‘الفوارق الجغرافية والإيديولوجية والشخصية بين السعوديين يمكن أن تتسبب في انهيار النظام’. وهكذا فإنّ سيناريوهات سقوط آل سعود يمكن أن تضع المملكة في قبضة ‘الشيعة الذين ‘يكرهون بقاءهم في مرتبة مواطني الدرجة الثانية’، والذين لن يتورعوا عن نقل المملكة إلى أحضان إيران؛ أو في قبضة ‘الوهابيين المتشددين’، الذين يحتقرون ميل آل سعود إلى التحديث؛ أو في القبضتين معاً، إذا وقع انشقاق في المملكة؛ دون انتفاء احتمال انتصار ‘الليبراليين’، الذين لا يعتدّ بهم الكثيرون، ولكنّ ‘التطورات’ قد تضعهم في الصدارة.مستوى التأمل الثالث، والأهم في نظر المتأمل، هو أنّ ‘حركات التمرّد’ العربية الأخيرة بدت ‘بنّاءة’ و’وطنية’ و’ذات روح مفتوحة’، فغاب عنها ‘التشدد السياسي في كلّ أنواعه، اليساري منه أو الإسلامي’، وكذلك غابت الشعارات المناهضة للولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل! فما الذي يقرأه بايبس في ما يزعم من خصائص، يراها جديدة على الشارع العربي؟ انها، ببساطة، انفكت تماماً عن ‘تشدد القرن الماضي’، كما صنعه رجال من أمثال المفتي أمين الحسيني، جمال عبد الناصر، آية الله الخميني، ياسر عرفات، وصدّام حسين. ولهذا، وإذْ يمنحنا بايبس هبة الإقرار بأنه كان على الدوام متشائماً حول آفاق الديمقراطية في العالم العربي، والإسلامي عموماً، يتواضع صاحبنا فيتنازل ويهتف: أنا متفائل!بئس التفاؤل، وبئس المتفائل! آخر معارك بايبس، قبل وصلة النفاق هذه، كانت التشديد على عجز المجتمعات العربية والإسلامية عن الاحتفال بعيد الحبّ، حين نشر في صحيفة ‘نيويورك صن’ الأمريكية مقالة تفيد التالي: كلّ المعمورة تحتفي بيوم الحبّ، ما عدا الإسلام، الذي لا يأبى الاحتفال بهذا العيد الإنساني الجميل فحسب، بل يكرهه ويحرّمه. كيف؟ في ماليزيا يهدر المفتي ضدّ العيد، قائلاً: ‘نحن المسلمين لسنا بحاجة إلى هذه الثقافة والممارسة، وهي بوضوح مخالفة لتعاليم ديننا’. وفي إيران أمرت الشرطة الباعة بإزالة الزينات المرتبطة بالقلب والوردة، فضلاً بالطبع عن الصور التي تظهر أيّ عناق بين ذكر وأنثى. وفي السعودية نصّت الفتوى على أنّ الإسلام لا يعرف سوى عيد الفطر وعيد الأضحى، فحرّمت عيد الحبّ، وأمرت الشرطة بالتجوال على المحالّ والمخازن للتأكد من أنها لا تبيع الورود والهدايا الأخرى المرتبطة بيوم فالنتاين!كلام حقّ يُراد به باطل؟ ذلك أمر جلي، وعلى النحو الأكثر ابتذالاً وخفّة وحقداً وتشهيراً. بايبس هنا، وجرياً على عادته، أخذ الناس بجريرة ما يفعل الحاكم أو الشرطيّ أو المفتي أو الإمام، وليس استناداً إلى ما يفعل المواطن نفسه، وما يؤمن به ويتفق معه أو يختلف. وهو، دون مفاجآت، يتجاهل تماماً ما فعل العشاق العرب والمسلمون في ذلك اليوم، ولا تشكّل الممارسة الفعلية أدنى قرينة دالّة عنده. العبرة، حصرياً ودائماً وبلا جدال أو سجال، في ما يقول أُولو الأمر للمسلمين، وليس ما يفعل المسلمون أنفسهم.الخلاصة الذهبية هي أنّ كراهية عيد الحبّ مجرّد تفصيل، ولكنها مع ذلك ترمز إلى مقصد أكثر جدّية وخطورة، هو ‘مناهضة الحداثة’؛ وبذلك فإنّ ‘الصراع الأجيالي والثقافي على بطاقات المعايدة التي تأخذ شكل قلب، يؤشّر على المعركة التي تدور اليوم حول روح الإسلام’… ليس أقلّ!وقبل سنوات، من أعمدة صحيفة ‘جيروزاليم بوست’ الإسرائيلية (وليس من أيّ موقع آخر)، أعلن بايبس أنه عاجز عن فهم النفسية التي تجعل الآباء الفلسطينيين يبتهجون لأنّ أبناءهم استشهدوا في عمليات جهادية. ومن أجل المزيد من تدعيم الحجّة، أحال القارىء إلى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، الذي أصابته الحيرة إزاء ‘نفسية’ الآباء الفلسطينيين، فأعلن أنه عاجز عن فهمها. ونحن، بالطبع، نعرف أنّ بايبس يعرف تماماً أسباب ابتهاج الآباء الفلسطينيين، كما نعرف الأسباب التي تجعله يزعم الجهل بها؛ وهذا، في كلّ حال، تفصيل ثانوي حين يتّصل الأمر برجل مثل بايبس تحديداً: ليكودي عريق، وبوق أمريكي موضوع في خدمة الصهيونية علانية وليس سرّاً، وتلميذ رديء لأسوأ تقاليد الإستشراق السياسي كما أرسى دعائمها برنارد لويس.ذلك لأنه يعرف، تماماً كما كان يعرف بوش وأيّ إسرائيلي وكلّ فلسطيني، أنّ التاريخ لم يعرف احتلالاً عسكرياً آمناً وهانىء البال ونظيفاً وخالياً من الدماء، مدنية كانت أم عسكرية، بريئة أم مذنبة. الطريف في معرفة بايبس، وفي جهله ورثاثة تحليلاته السياسية مثل تلك السوسيو ـ إستشراقية، أنه يرحّل نزعة الفلسطينيين الإستشهادية إلى منطقة أخرى لا تخطر على بال أحد آخر سوى أمثال بايبس: الفلسطيني، في قناعته، لا يستشهد في سياق فعل المقاومة ضدّ احتلال عسكري استيطاني عنصري، لأنه ما من احتلال في ضمير بايبس، والدولة العبرية موجودة بين ظهرانيها، في أرضها، في يهودا والسامرة؛ وإنما يستشهد لأنه يواصل تقاليد الذود عن العرض (أو الـ ird في المفردة التي كتبها بايبس باللاتينية) بوصفه أحد أعرق مقدّسات الشرق، وهو في استشهاده هذا لا يختلف عن الأخ الذي يقتل أخته، والأب الذي يقتل ابنته، وابن العمّ الذي يقتل ابنة عمّه… غسلاً للعار.هذا الذود عن العرض هو الجانب السلبي الذي، وفقاً لتحليلات بايبس الخرقاء، يكمل الوجه الثاني من العملة: الوجه الإيجابي المتمثّل في إسباغ الشرف (الـ sharaf، عند المستشرق الضليع في الفصحى!)، على الأسرة التي يستشهد أحد أبنائها. يقول بايبس: ‘شكل الشرف الإيجابي ينطوي على توطيد موقع العائلة عن طريق اتخاذ خطوات تضمن لها الإطراء والسمعة، ولا شيء يجلب المجد للعائلة مثل استعدادها للتضحية بأحد أبنائها’.هل هنالك أيّ حظّ في أن تكون العمليات الإستشهادية فعل مقاومة ضدّ الإحتلال؟ كلا، بالطبع. هل هي، في الحدود الدنيا، ردّ فعل طبيعي على ممارسة الصهاينة للعنف في أفظع أشكاله، ضدّ المدنيين والعزّل؟ كلا، بالطبع أيضاً، لأنّ الدولة العبرية هي التي تدافع عن مدنييها العزّل ضدّ الإرهاب الفلسطيني. وهل يوجّه بايبس أيّ لوم، أيّ لوم مهما كان ضئيلاً خجولاً متواضعاً، إلى الآلة العسكرية الإسرائيلية؟ فتشوا في مئات المقالات التي ينشرها في عشرات الدوريات الصهيونية أو المتعاطفة مع الصهيونية، ولن تعثروا على كلمة واحدة في هذا المعنى. هل تقتصر كشوفاته السوسيو ـ إستشراقية هذه على الفلسطينيين وحدهم؟ كلا، لأنهم في نظره جزء لا يتجزأ من ثقافة عنف أكبر وأوسع، هي ثقافة الإرهاب الأمّ، أو أمّ ثقافات الإرهاب: الإسلام!هنا بيت القصيد، الذي يذكّرنا بأنّ خطاب بايبس لم يتغيّر، ولا يتغيّر، إلا نحو الأسوأ والأكثر ضحالة وسطحية وسوء طوية. تفاؤله، اليوم، بخصوص ‘تمرّد’ الشارع العربي لا يصحّ أن ينفصل عن تنظيراته السابقة حول رقاد العرب والمسلمين خارج التاريخ، في أحضان وحاضنات ‘الإرهاب الإسلامي’ وحدها. وحتى يخرج على العالم بنقد ذاتي عميق لأطروحاته، وهيهات أن يفعل بالطبع، فإنّ أطروحته المركزية هي هذه: ‘المسلمون دخلوا في غيبوبة خلال القرنين الماضيين، وهي محنة أهل الله الذين وجدوا أنفسهم في أسفل الركام. ولا غرو أنّ بلاد الإسلام تضمّ معظم الإرهابيين والحجم الأقلّ من الديمقراطيات في العالم’.وهو يستعيد ثقافة مرابطة الجيوش العثمانية أمام أسوار فيينا قبل مئات السنين، فيكتب: ‘هنالك أساس واقعي للخوف من الإسلام. فمنذ موقعة أجنادين سنة 634 وحتى حرب السويس سنة 1956، كان العداء العسكري هو المهيمن علي العلاقة المسيحية ـ الإسلامية (…) وفي واقع الأمر لم يتوصّل الأوروبيون إلى بناء دولتهم إلا عن طريق طرد المسلمين، بدءاً من استعادة إسبانيا في مطلع القرن الثاني عشر وحتى حرب استقلال ألبانيا سنة 1912’. ولكي لا يقع المرء في سوء فهم يجعله يظنّ أنّ الإرهاب مقيم في دار الإسلام وحدها، يذكّر بايبس بأنّ ‘مجتمعات أوروبا غير مهيأة لهذه الهجرات الواسعة من المسلمين سُمر الوجوه، الذين يطبخون أطعمة غريبة، ويلتزمون بمعايير مختلفة للصحّة والحياة. إنهم، في عبارة أخرى، يهددون فيينا من داخلها أكثر من تهديدهم لها عند البوّابات’.فهل التفاؤل بما تشهده شوارع العرب من ‘تطوّرات’ يخفّف، أم يشدّد، احتمالات تهديد فيينا؟ وهل الدفاع عن شرف العربي وعرضه هو، بدوره، جوهر انتفاضات أهل تونس ومصر وليبيا واليمن والأردن والبحرين والعراق وسورية، وليس التطلع إلى حياة حرّة كريمة، وبلد مستقلّ ديمقراطي يتساوى فيه كلّ أبنائه؟ تلك أسئلة نافلة عند بايبس، بالطبع، ولهذا فإنّ تفاؤله يعيد تذكيرنا بأنّ أمثاله ليسوا ألدّ أعداء انتفاضات العرب فحسب، بل هم أخلص خلصاء الطغاة؛ مَنْ ولّى منهم، ومَنْ ينتظر.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس