صفحات ثقافية

الروائي الطالع من المشافهة

محمد علي فرحات
لا أدري صلة يوسف الخال بالطيب صالح التي دفعت الأخير ليرسل أولى كتاباته للنشر في مجلة «أدب» التي أصدر منها الخال أعداداً محدودة قبل ان تحتجب مع شقيقتها مجلة «شعر» آخر 1962. ظهر الطيب صالح في قصته القصيرة «سيداتي سادتي» باعتباره الراوي/ المخاطب من ميكروفون الإذاعة، وهو كان يعمل مذيعاً في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي». بعد ذلك بفترة قليلة قدّم الطيب صالح مفاجأته الكتابية الكبرى، من بيروت أيضاً، وهي رواية «موسم الهجرة الى الشمال» التي نشرها توفيق صايغ في مجلته «حوار» فاستدعت زيادة استثنائية في صفحات العدد الذي نُشرت فيه.
منذ البدء برزت خصوصية السرد لدى الطيب صالح: لغة عربية متحركة تتخطى الجمل الطويلة البطيئة للنص التراثي، كأنها تشبعت منه قبل ان تسمح لنفسها بتجاوزه. وتقترن لغته بوعي للسرد الإنكليزي القائم على الوضوح والدقة، فلا يستغرقه شطح الإنشاء الذي ألحق الأذى بسرديات كتّاب عرب تأثروا بالأدب الفرنسي.
ولا بد من نقطة ثالثة لنكمل تصورنا لسرد الطيب صالح، هي ولع الرجل ومهارته بالمشافهة، فهو متحدث ممتاز لا تمل من مجالسته، وفي حديثه معرفة وحكاية، مع شفافية وميل الى الطرافة لا يخطئه السامع.
ممثل الشخصية السودانية الذكية الوادعة الكريمة التي تتمسك بحرية اكتسبتها من خليط الغابة والصحراء، على ما ذهب التشكيليون السودانيون ونقّادهم الأقربون. لذلك اعتبر الطيب صالح «الكاتب القومي للشعب السوداني» بحسب رجاء النقاش، ولذلك ايضاً أطلق الطيب صرخته في وجه حكم الإنقاذ الذي عمل ويعمل على تقويض الشخصية السودانية: «من أين أتى هؤلاء؟». صرخة هي الكلام السياسي الأول والأخير للروائي السوداني الأشهر عربياً وعالمياً، مدفوعاً، هو الذي أعلن غير مرة بعده عن السياسة، بانحيازه الى الشعب السوداني المفطور على الحرية.
وتلقى الطيب صالح «تحية» نظام الإنقاذ بمنع توزيع «موسم الهجرة الى الشمال» في السودان: كيف يمنع كتاب في بلد يقرب العالم منه. إنها «عبقرية» العسكر المتأسلمين. يخططون لزيادة الأعداء ويطردون الأصدقاء المحبين.
التقيت الطيب صالح أول وصولي الى لندن في مطلع 1990 وكانت دعوته هي الأولى التي لبيتها في العاصمة البريطانية، ثم رافقته مرات الى أصيلة المغربية حيث بدا في اكتماله سابحاً عند المحيط، متلقياً هواءه البارد بصدر عفيّ. ولا أستطيع تعداد لقاءاتنا في غير بلد عربي وفي مناسبات إعلامية، أبرزها في تلفزيون MBC حين كان الفضائية العربية الأولى والوحيدة.
ولا أعدّ… لأننا أصبحنا جارين في «رينز بارك»- جنوب لندن، وهناك المشهد اليومي للطيب صالح يمارس المشي ملبياً طلب الطبيب.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى