“العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب” لتشارلز سيميك: اللغز المحبوب
مازن معروف
التشرد المتواري في القصيدة، هو ما يشكل محور أعمال تشارلز سيميك الشعرية. هذا الأميركي المهاجر أصلا من يوغوسلافيا، لا يترك لذاكرته حيزا محايدا بالمرة، إذ أنها تستوطن مكامن قصيدته. غير أنه استيطان أنيق، مبطن، لا يتم إظهاره علانية، وهو بذلك يحرض أكثر على قراءته بتأنّ وروية، كما أنه يدفع القارئ نحو الاستطلاع من فوق القصيدة ومن تحتها ومن كامل أطرافها واحتمالات تأويلاتها شعريا وسياسيا.
أشعار تشارلز سيميك أو على الأقل، المختارات الصادرة في كتاب “العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب” (ترجمة سامر أبو هواش عن دار كلمة ومنشورات دار الجمل)، تشبه سمكة بيضاء صغيرة، تصارع في وسط كم من الاوساخ في ماء نهر. ينبغي لك على الدوام أن تتبع ظل هذه السمكة لترشدك إلى جمالية العمل الشعري. ظلُّ السمكة بالتحديد ههنا، هو فقط الايقاع الداخلي الذي يربط الفكرة تلو الفكرة، واللحظة الشعرية بسابقتها، لتجد نفسك في نهاية الأمر، مطوقا بما اكتمل شعريا من حولك من دون أن تدرك أنت ذلك. عالم سيميك الشعري، غير منقوص. عالم من الشرارات المتقدة، أو حيوانات الشعور الصغيرة الهائجة التي تبحث عن ملجأ. يضع الشاعر الكادر الملائم لتلك الحيوانات، وكأنه يثبت كلاً منها إلى منزل أو حيّز، هو ما يضمن الدفق الدينامي الذي بسببه تتحرك هذه الحيوانات لتصبح لزجة، أو عصية على اللحاق. قصيدة سيميك، تستطيع أن تنفذ إلى مخيلتك عبر أكثر من مدخل، أو احتمال. الأمر الذي يجعل فينا رغبة لإعادة القراءة مرات ومرات. عالم سيميك داخلي يستبق ولادة القصيدة، وهو بذلك يشكل أحد أهم مشترطات التفكر في القصيدة، أو فعل كتابتها. أي أنه عالم جاهز، غير منقوص، ليتخذ الشعر شكل المحطة الأولى التي ينزل بها ذلك الضيف الجواني: الحكمة، أو الفكر.
هناك لغز ما، يطعم به الشاعر الأميركي قصيدته، ويشكل الفكرة الأولى للعمل. نستطيع كذلك أن نسميه ما يستبق الكتابة فعلا. فهو لغز يصير شعرياً في ذاكرة الشاعر، سواء أكان وجوديا أم ميتافيزيقيا، وذلك بحسب ثقافته وموقفه العام من المجتمع والسياسة واعتماده المذهب الوجودي كعين ينفذ منها إلى كينونة محيط عيشه: “أسأل الرصاص/ لِمَ سمحت لنفسك/ بأن تصاب بطلقة؟/ أنسيت الخيميائيين؟/ أتخلّيت عن أملك بأن تتحول ذهبا؟”. غير أن صوت اللغز الذي يرتفع عاليا في القسم الأول من القصيدة، لا بد أن يقابله موقف على شكل إجابة، في القسم الثاني، لكنها تبقى إجابة قابلة لإضافة القارئ أو لاختزاله. ذلك ما يرسم ملعبا واسعا أمامه كي يستنبط بدوره ويرحل في مخيلته نحو احتمالات هذا اللغز.
هذه القابلية التي يهبها سيميك الى متلقيه، لا تشي بخلل في المرحلة الأولى بقدر ما تزيح النص بكامله الى العمق، الذي هو أساسا جسم العمل الشعري. إذ لا يتاح لنا بأن نذهب خارج حدود هذا العمق المشغول بحرفية وببطء. لأن الداخل الى قصيدة تشارلز سيميك لا بد أن يتلمس طريقه من دون أن يشعر، ليصطدم أخيرا بهذا الغموض النهائي المحبب، الذي يعيد الأشياء الى أولها، كما يعيد القصيدة بذاتها كمغلف خارجي لشعرية الفكرة. نجد ان الشعر عنده يشبه لعبة قمار، في جديتها وأسرها الأبدي، وديمومتها كعلاج لا جدوى منه، إذ هو محكوم بالبقاء في دائرة السؤال، بينما تسبقه جمالية العمل التأليفي شعرا، ومجازيات وصورا حسية بصرية وماورائية.
أثر الحرب واضح في أشعاره. تخضع الذاكرة هنا لحكم مطلق ووحيد، وهو استعادة الطفولة بأقسى أشكالها في محاولة لترقيعها بأبسط ما يكون. هنا يلعب النضج او الوعي ضد غريزة المتقاتلين، كما يلعب الحاضر ليعاكس الماضي، والهدوء الحالي ليعاكس ضجيج الرصاص والقذائف على مدى سنوات سابقة. المشهد المستعاد نفسه، يجري تطعيمه بالألم الظاهر، وبالعفوية الانسانية التي تخفف من ثقله على النفس: “ولدت منحنيا/ فوق رقعة شطرنج/ أحببت كلمة endgame/ جميع أقاربي لاح عليهم القلق./ كان ذلك في منزل صغير/ قرب مقبرة كاثوليكية/ الطائرات والدبابات/ ترج نوافذه”.
بحسب مقدمة سامر أبو هواش، يقول سيميك إنه كانت تستهويه القصائد ذات المستوى العالي من الغموض أو الابهام. وقد حاول في بداياته كتابة الشعر مستعينا بمعجم من الكلمات غير المفهومة. وكان يعتبر أن هذا النوع من الشعر هو أرقى أشكاله، قبل أن يتخلى عنه في مرحلة لاحقة. إلا أن تقنية الكتابة الشعرية حاليا لدى سيميك، تظهر من خلال المختارات، وكأنها صناعة إزميل نحيل وبطيء على حجر عملاق. موقف سيميك من الحياة لا يمكنه إلا أن يمر بسيميك السابق، المتشرد بين شوارع لندن، وقبله الطفل الذي شردته الحرب العالمية الثانية وباعدت ما بين أبويه فترة طويلة تقارب العشر سنين قبل أن تتمكن والدته من مغادرة يوغوسلافيا والهرب من النظام الشيوعي السابق، وذلك بعد محاولات عديدة سابقة اتسمت جميعها بالفشل وباعتقالها. هذا التشتت الطفولي هو ما دفع بسيميك إلى حافة المعرفة منذ مراهقته، ليكتشف الشعر والثقافة والفلسفة بشكل خاص. غير أن ولعه بالأخيرة، لم يشكل عائقا أمام اعتماده شكلا كتابيا تخدعك بساطته في قراءة اولى وإن اكتشفت بعد القراءات المتتالية بأن هذا الشعر، يقبض عليك ولا تقبض عليه. من هنا فإن لغة الشعرية، تشكل التضاد مع لغة الفلسفة، التي تشكل ثقافته الواسعة. يكتب فلسفة أخرى بلغة شعرية تتهيأ لاستمالة القارئ على اختلاف معتقده أو مذهبه الفكري أو الفلسفي أو الفني. لأن قاموس العناصر الخارجية اللازمة، يتضمن أشياء الطبيعة والمدينة واليومي والعادي والفلسفي والفني، كما عناصر الزمن أو ما يلزم استعماله للدلالة على الزمن المتحرك في القصيدة. وبذلك فإن شعر تشارلز سيميك، لا يتواطأ بشكل اجتزائي أو فئوي مع جماعة من الناس، لأن خطاب القصيدة ليس معلنا على المستوى الايديولوجي أو السياسي، بقدر ما هو عار على مستوى انساني أكثر عمقا وتعاليا على صغائر الواقع لكن مع الاحاطة بملامحها: “باك يعاني صداعاً/ طوني تناول بهارا حريفا/ سيلفيا تزن نفسها عارية في الحمام/ غاري مدين للضرائب بثمانمئة دولار/ روجر يقول إن الشعر هو صنعة القضبان المانعة للصواعق/ جوزيه يريد أن يلكم زوجته على فمها/ تيد يخشى ظله/ راي يكلم شتلات الطماطم/ بول يريد أن يعمل بائع طوابع في مكتب البريد/ ماري تبتسم لنفسها في المرآة/ وأنا أبول في المغسلة مع إحساس بالأبدية”.
هذا الامر يدفع الشاعر الى الاتكال على الطبيعة في أحيان كثيرة لتفسير رؤاه الشعرية، التي تبدو وكأنها رومنطيقية، قسم منها متجذر داخل المديني. أي ان هناك مزجا متعمدا لعناصر الواقع المتنقل، المليء بأشكال الحياة والضجر، وعناصر الطبيعة. يؤمّن هذا الأمر لسيميك نوعا من هرب موقت، في اتجاه الطبيعة لكن من دون أن يستطيع سلخ نفسه عن المسبب الأول لشعره: “ماذا كنت لأفعل/ من دونك/ أنت يا خياطي/ الذي تضع في فمك/ إبرة سريعة كلدغة نحلة/ …/ أنت وأنا والمصباح/ المنزل أشبه بعش/ أمنا العصفورة الزرقاء رحلت منذ زمن/ أبونا الصقر ذهب إلى الصيد/ ماذا كنت لأفعل من دونك/ من دون صوتك/ الذي يسمي ويسمي/ أنهار وجداول/ أيامنا على الأرض”.
لكن اذا وضعنا جانبا ثقافة الشاعر، واهتمامه بالفلسفة، فنستطيع تبيان المحرك الاول الذي يجعل الشاعر يرى العالم كما يصوره شعريا. فالعين الأولى هي الحساسية، التي تتيح لسيميك الدخول في افتراضات الأشياء، وتحريكها ضمن معادلات يتواضع فيها الجنس البشري أمام “أجناس” أخرى تدب فيها الحياة، بفعل الشعر. فسيميك يجعل من الشعر أسلوبا ليس لتعبيره الشخصي فحسب، بل وكذلك لعيش الكائنات الصغيرة إذا أريد إدخالها إلى زوايا عالمه. أي أن هذا الشعر عنده، يستطيع الارتقاء الى مراحل متطورة، حتى تبدو وكأن لها نظامها الحياتي المستقل وليس الفني فحسب.
النهار