“ألف منزل للحلم والرعب” لعتيق رحيمي ترجمة إسكندر حبش: المكان المتخم بالألم
مازن معروف
أسلوب عتيق رحيمي، في كتابة الرواية، يذهب نحو اتخامك بالألم، من خلال سكبه في مخيّلة القارئ، قطرة خلف أخرى. “ألف منزل للحلم والرعب” آخر الروايات المترجمة لهذا الكاتب، باللغة العربية، وإن لم تكن آخر رواياته (روايته الأخيرة “حجر الصبر” حائزة جائزة “غونكور” لعام 2008). صدرت عن منشورات “دار الجمل”، ونقلها إلى العربية الشاعر اسكندر حبش، في ترجمة أتاحت لنا الدخول براحة تامة إلى قلب العمل وأسلوبه. وكأننا نقف داخل لغته الأولى.
نحدس في الرواية بداية مناخين، أولهما مناخ تؤلفه الذاكرة المتخبطة بين الحلم واليقين الحسي، وهو مناخ مشكك في محيطه كوجود، وكل ما يستطيع الارتباط به، هو الزمن السابق. وثانيهما مناخ الامر الواقع، أو الواقع الثقيل الذي لا يتمنى بطل الرواية فرهد استمراره. لكن الخلفية التربوية للبطل تحضر في الوقت نفسه، منذ لحظات العمل الأولى. إذاً فالكاتب الافغاني يتعمد إدخالنا إلى اليقين من خلال الهذيان الذي يترافق مع استعراض لأشياء مفككة، أو فاقدة لكل ترابط وثيق، قبل أن تنطلق الرواية في اتجاه الإفساح في المجال للقارئ بأن يلتقط، ويركّب، ليعجن خلفية الحدث الذي سقط علينا من صفحات الرواية الأولى.
وكما اعتدنا من خلال أعماله السابقة وخصوصاً رائعته “أرض ورماد” (“دار الآداب”، ترجمة اسكندر حبش)، فإن لعتيق رحيمي أسلوبا سرديا خاصا جدا. وإذا استسهلنا استخدام مصطلح “السردية”، فإننا لا نكون نقدم قراءة وافية للعمل. فاللغة الروائية، تعتمد على مجموعة من الجمل تعيد إلينا هوامش أمكنة ومذكرات خبت بفعل الزمن، إضافة الى اصوات سابقة وحدود متوارية خلف الألم او القلق بشكل خاص. القلق الذي يعرضه علينا من خلال شخوصه، هو جزء من حالة عامة أشمل، ولا شك في أنها أوسع انتشارا في أفغانستان في الاجمال. وهو قلق يتخطى واقع أن فردا يعيش جزءا بسيطا من حياة طويلة، قبل أن يصطدم مسار حياته المحايد بحدث، ومن ثم يحاول أن يستعيد احتمالات ما بعد هذا الحدث، توازيا مع المكتسب التربوي والثقافي الشعبي او التقليدي. يمثل هذا الأمر نوعا من آلية الدفاع الذاتي لدى الدماغ اللاواعي. فهو إذ تهيئ ذاكرته له، سلسلة من تهويمات أو مقولات جدّه عن الدين والمرأة والآخرة ويوم القيامة والحساب، فذلك ليشيح بعيداً الأمر الواقع، الأقرب أو الأكثر التصاقا بالجسد من خلال آثاره عليه.
تدور الرواية في إطار الحدث الواحد، في مكان هو أفغانستان، وزمان واحد، معاصر. يعمل رحيمي على اختزال المقدمات الدرامية مثلا، ليستعيض عنها بالتوغل المضبوط والتدريجي في تفاصيل الحالة النفسية لفرهد. فالبطل الذي يصطدم بتعاليم جده الدينية، لا يلبث أن يتمم توظيف هذا المكتسب الثقافي الاسلامي، توظيفا تقنيا للخروج من عالم النفس المتخبطة، نحو المكان أو الغرفة حيث يجد نفسه. اما الحدث الأساسي، أو المستبق للكلمات، فيتمثل في ان فرهد يتعرض للتعذيب، من دون ذنب، قبل أن يتمكن من الهرب حيث يجد نفسه أخيرا داخل أحد البيوت الفقيرة. وتقوم برعايته امرأة تدعى مهناز وولدها الصغير يحيى. المرحلة الثانية التي تمر بها النفس الفرهدية، تراوح بين السؤال عن الأنا الراهنة، وحيز وجودها بين حاضر مشوش وماض بالغ القسوة، الأمر الذي ينشأ عنه، وبشكل طبيعي، استدراج لصورة الأب وعلاقته الظالمة بالأم، والعائلة والطفولة. وهذا من شأنه ان ينصب حاجزاً بين فرهد وأبيه، سوف يحمله حتى في أشد اوقات محنته حرجا (إذ يتم تهريبه إلى باكستان، وعندما يُسأل عما إذا كان له أقارب هناك، يجيب بالنفي علما أن أباه يسكن هناك منذ تزوج من امرأة ثانية وهجر الام).
أما في مرحلة تالية، فسيكون هناك استدراج لرغبة فرهد في إقامة علاقة مع مهناز، التي يعمل رحيمي على إبقاء ملامحها الفيزيولوجية خارج دائرة التحديد أو الوصف. إذ لا يطلعنا بشكل واف على تفاصيل وجهها أو جسدها. كل ما نستطيع معرفته عنها، هو تلك الخصلة التي لا تلبث أن تنزل على وجهها بين الحين والآخر قبل أن ترفعها إلى خلف أذنها. إلا أن ما تخبئه مهناز، يضعنا أمام كم هائل من الألم في جملة واحدة (لم تكن تتكلم كثيرا في طفولتها، حتى ظن أهلها وأقاربها أنها صماء بكماء، وقرروا أن تتزوج أحد أقاربها قبل أن تتمكن من الهرب). هذا التفصيل يتشابه كثيرا وأساس ما تدور حوله روايته السابقة “أرض ورماد”. من هنا يبدو عتيق أنه ينتهج أسلوباً يبتكر فيه حالة إنسانية، تتسم بشمولية وتستطيع قراءة العالم المحيط باستعمال دماغ يعمل بطريقة غير متوقعة. ينتقل فرهد في مرحلة أخرى إلى الرغبة في البقاء، بدل الهرب. لكنها تبقى مجرد رغبة تتوازن ورغبة فرهد نفسه في مهناز. لتبقى الرغبتان، غير قابلتي التحقق. ذلك ان فرهد لا يتمكن من الحصول على مهناز، كما لا يتمكن من البقاء في أفغانستان (يتم تهريبه بلفّه في سجادة كبيرة، ولا يكترث المهرّب بصوته المحتج على أنه لا يريد الرحيل).
هذا يعطي دلالة على حتمية حضور المكان البديل – الحيز الأضيق، لكنه الأرحب في الوقت عينه. فمنزل مهناز المتواضع، يشكل بديلا موقتا جدا وبالغ السرية من الوطن الأكثر خطرا. وهذا ما يشيح منزل فرهد الأصلي (بيته) عن واجهة العمل الروائي، فتحضر بدلا منه الأم التي تمثل اللغة الأولى للذاكرة، كما تمثل الوجع الذي نستقبله عند رحيل فرهد، ويضيء بيت عائلة فرهد، الذي لن يكون مكتملا بعد هذه اللحظة.
هي رواية الهذيان والألم، الخوف والقلق، والحلم والصمت المرافق له. وهي كذلك رواية الخريف غير المتوقع، والعالم الذي يتساقط فجأة وبسرعة كبيرة أمام قدمي شخصية تقع على هامش الواقع السياسي. هي رواية الخسارة، والنشاط الانساني الدائم المحاولات، لاستعادة الذات، بالتملص من الوطن حين يتم استبدال فكرة الوطن بفكرة أن خطرا يتهدد هذا الوطن.
بداية الرواية مفتوحة على نشاط دماغي غير مرصود، ومشكّك. يقابله نشاط آخر هذياني يتمثل في إدخال الحشيشة قسرا على مسار العمل، حيث يجرب فرهد سيجارة الحشيشة للمرة الاولى بعد وصوله إلى باكستان. هذا التشابه في مناخ أول العمل وآخره، يمثل قبضة مشبك. فمن ناحية جمالية، يغذي جسم الرواية باتساق وتماسك عميقين. لكنه من الناحية الأخرى، يعيد فكرة الترحال والمكان والبحث عن الذات، والنفاذ بالنفس، إلى سؤال اللاجدوى القاتلة. وكما يدخلنا عتيق إلى روايته، نراه يخرجنا منها، منذهلين أو متأملين، وكأننا امتداد لنهاية الكلمات. فالأشياء تعاد إلى خطوة أخرى من البحث الذي يضمر الخيبة ويستبق الفشل بالتنبؤ به. وكما تبدأ الرواية باستعادة فرهد لمقولات جده حول الدين والدنيا وعذاب القبر والآخرة، وهي ملامح الاقناع الديني من زاوية الترهيب، فإنه يرغم في النهاية على دخول أحد المساجد، حيث يتناول مع حلقة من الشبان، سيجارة الكيف، ما يدفعه إلى التقيؤ خارجا، ومن ثم التبول خلف شجرة، مما يثير غضب أحد رجال المسجد الذي لا يلبث أن ينعته بـ”الحقير الكافر”. هذه المشهدية تمثل مع ما تفرضه سلطة الذاكرة على الجسد المتعب، ثنائية بالغة التناسق. إذ أن إدخال فرهد في دوامة الذاكرة، يقابله إدخال الجسد إلى المسجد.
جملة رحيمي الأدبية، مقتضبة. تقدم تراكيب لتدفعنا إلى الرؤية، إذ تدلنا على الطريق من بعيد بدل أن تمسك بيدنا لأخذنا إلى تطورات العمل تدريجاً. وهي بذلك تتطلب من القارئ اقتناعا بدخول لعبة المراوغة بين ما هو متوهم وما هو يقيني. مراوغة تخفف من الثقل التأملي للبطل حين يتكرر حضور زمنه الماضي، المتخم بالتربية الدينية التي لم يعد يتلاقى معها (التركيز على سورة يوسف من القرآن الكريم، ومن ثم رفض البطل لما يتردد في هذه السورة عن يوسف وقصته). اكثر ما نلاحظه في أعمال عتيق رحيمي، ابتعاده عن اللغة المباشرة، أو المجانية. وإذا تطلب العمل الروائي بعض الكرم، فمرد ذلك إلى أن رحيمي يعمد إلى تقليص مساحة المكان والوقت، ليعيد تشكيل المحيط الاجتماعي والسياسي مرافقا إياه بالمتوارث الشعبي. وهذا يتيح له في المقابل التركيز لاكتشاف العلاقة بين الانسان وبيئته، قبل أن يهدمها، أو قبل أن تؤدي شرارة ضئيلة إلى هدمها.
النهار