صفحات ثقافية

تيد كوزر ترجمة سامر أبو هواش: تقنية السمكة التي تقفز لالتقاط الطعم

null
أنطولوجيا الشعر الاميركي التي ترجمها الشاعر سامر أبو هواش ضمن خمسة عشر مجلدا، في سابقة مشتركة ما بين “دار كلمة” و”منشورات الجمل”، تضمن لنا التعرف الى بعض كبار الشعر، في أميركا. واحد من هؤلاء هو الشاعر المعاصر تيد كوزر المولود عام 1939 في مدينة آيمز بولاية آيوا والحاصل من مكتبة الكونغرس عام 2004 على لقب “شاعر أميركا المتوّج”، وجائزة “بوليتزر” المهمة في العام التالي عن كتابه “مسرات وظلال”. الحقيقة أن هذه الأنطولوجيا العملاقة، بما تضمره من عوالم شعرية لكل منها هويته الخاصة، ولغته، تعيد إلى الأذهان السؤال الأول حول كتابة الشعر والتفتيش عن طريقة كتابة خاصة بنا، ولغة تتصيد كل ما هو مؤثر علينا، لتضعه في قلب العمل الفني ككل. كما تجعلنا نرفع القبعة الى “دار كلمة” و”منشورات الجمل” لتبنيهما هذا المشروع الكبير، والى المترجم أبو هواش الذي استطاع وبأمانة شديدة أن يقدم إلينا الترجمة التي تحرص على المحافظة على المعنى، حرصها على لغة الشعر، الأمر الذي يشعرنا ونحن نقرأ المجموعة أننا أمام شعر مكتوب بلغته الأصلية.
الشعر عند تيد كوزر يشبه سيرة حياة. لا يمكننا أن نقرأ هذا الشاعر الطيّب من دون أن تستوقفنا احتمالات ما عاشه خلال حياته. فشعر تيد كوزر لا يأتي معجونا بالتخييلات الثقيلة، أو الايديولوجيات السياسية او الأطروحات الفكرية الأكثر نشاطا في أميركا. الشعر البسيط الذي يقدمه الى القارئ، يستطيع بفضل تأنيه في كتابة القصيدة، أن يفلت من براثن هذا القارئ الحاضر قبل حضور القصيدة. ينجح تيد كوزر بشكل كبير في إيقاظ هذا التوازن، من المخيلة، ليضعه على الورقة، من خلال قصيدة ذات حجم صغير، لكنه لا يتنازل عن كينونته الشعرية، محافظا بذلك على كيان القارئ البعيد واحترامه. ومن ثم الارتقاء بذوقه الشعري نحو ما تستوجبه لعبة الشعر. إنه الشعر الذي يحلم الكثير من الشعراء بكتابته، ونحن لا نتحدث هنا عن مضمون القصيدة، ولكن عن المستويات الجمالية التي تبلغها من خلال التوفيق بين عمق المعنى وسلاسة اللغة كمكوّن جلدي يكسو القصيدة، ويمنعها في الوقت نفسه من البهتان أو التفسخ بفعل القراءات المتعددة.
لا يمثل المكان في شعره ذلك الحيز الفيزيائي الذي يتيح للمرء التحرك داخله. لأنه مكان يفتش بدوره عن هوية له، أو خصوصية تشيحه بعيدا عن أثر الزمن في مفاصله. وفي قصيدته، غير مسموح للمكان بأن يكون مستقلا عن تنقل الأشياء الصغيرة، أشياء العالم الخاص بالشاعر الأميركي. قصيدته المقدمة إلينا من خلال المختارات المترجمة، تتيح لنا التعرف الى لغة شعرية لا تشاكس، ولا تصطدم بالمحيط، بقدر ما تتأمل فيه وتحاول رفعه إلى مستويات أعلى من دلالته المادية. الشاعر لا يبدو ثوريا لجهة اعتماده تأملات فلسفية عميقة أو مبهمة كما هي حال الكثير من شعرنا المقروء. فهو الشعر الذي يقدم ذاته كما هي، يقدم عيشه وهواجسها الهائلة من دون ان يثقلها بالكآبة أو بتأفف من السياسي أو الوجودي أو الروحاني. وهو كذلك لا يصطدم بالمجتمع كحالة عامة، تحال بفعل تفاضل الشاعر على المستشعر به، إلى مستوى الأدنى أو الأقل فهما للواقع.
ما يثير الدهشة هو قدرة هذا الشعر على رفع القارئ بخفة وبساطة، إلى آفاق مغايرة، غير متوقعة، من دون إجهاده أو دفعه إلى الغوص في المعاني والاستعارات التي تشكل قراءتها إرهاقا. نجد أن الحياة هي مؤلف شعري جاهز، وما عليك سوى استخدام حساسيتك لتتشكل أمامك، وأنت المدفوع بالفكرة، آلاف القصائد التي تتنافس على الحضور في المخيلة أطول فترة ممكنة. الحساسية العالية هي المفتاح السري الذي يُمكّن الشاعر من النفاذ الى قلب الأشياء المحيطة بعالمه، ومن ثم محاولة نسج علاقات بينها أو كشفها للقارئ، بعين دائما شعرية.
لا يستطيع أيٌّ كان من الشعراء، أن يتبع تقنية تيد كوزر في الكتابة، لأنها تشبه تقنية إنتظار السمكة لأن تقفز فوق الماء لالتقاط الطعم الناشف. وعلى قدر ما تبدو هذه الفكرة مستحيلة، تعيدنا قصيدة كوزر إلى السؤال عن مدى صبر هذا الشاعر النحيل والشفاف، لالتقاط أطراف قصيدته أو ملامحها الجينية الأولى والتشبث بها ومن ثم إدخالها إلى مصنعه الخاص. وبالفعل، فإن ما نحاول قوله هنا، يعتمد بشكل أساسي على حقيقة أن كوزر لا يخجل من كونه يضع القارئ في ذهنه، أول ما يجلس أمامه قبل جلوس القصيدة على الورقة. الأمر الذي يعتبره الكثيرون إشارة إلى عيب مؤكد لا بد أن يصيب بنية القطعة الشعرية، بل ويحجم أفقها، كما من شأنه أن يضعها في قفص الذوق الشعبي العام.
لكن الزمن بدوره، لا يكون موجودا بمعزل عن ميكانيكية تكمن للأشياء الساكنة وتؤلف لها حياة. أي انه الزمن الذي لا يمكن الاستدلال على حيويته إلا من خلال إيجاد الرابط بين عناصر شتى تمثل الجوار القريب للشاعر. لا يكتفي تيد كوزر بصورة هذا الجوار الحسية، إذ يقفز فوق كل ما هو قريب ليبلغ أمكنة سابقة يتحدث عنها في القصيدة، أو ليبلغ حروفا معينة من صفحة ذاكرته، ليعيد تشكيلها وضخها بالنضج الفكري والفني على السواء. وهي حروف لا شك أن اختبارها لم يفت أيا منا، كالفراق، والأمل، وفحوى الوقت، ومعنى الموت، والحياة، وملامح الريف. كذلك التأمل، والتقاط العابر واليومي، للأشخاص والاصدقاء والعجزة والجيران الأقرب والأكثر بعدا، لوضع ذلك كله بعد هنيهة في دلالة شعرية.
يُعطى الشعر مهمة اضافية هي محاولة وصل الأشياء الجامدة أو الفاقدة الحياة، بحياة سابقة. حياة كثيرة التشعب، الأمر الذي يعيدها بفضل الاستعانة بالحيوية المتخيلة، لتنشط في القصيدة، كحصان مطيع جدا، يحمل الشاعر، إيجابيا نحو تمديد المعنى، عبر شحنه بتفاصيل إضافية واستعارات.
لا يستغرق الشعر الكثير من ماديات حياة المدينة في زمن حاضر، بل هو شعر لا يترك الغابة وعناصرها جانبا. لأن تلك أيضا تشكل جزءا من حياة الشاعر، إلا أن شعره أكثر اتساعا وأفقا من حيز عيشه أو جغرافيته. رومنطيقية الشاعر، لا تشبه أي رومنطيقية كلاسيكية، لأن آلية التعامل مع عناصر هذه الرومنطيقية (الشجرة، العصفور، الفصل،…) تختلف عما كان مستعملا سابقا. وهي آلية تجنح نحو إعادة تركيب الأشياء وحياكة علاقاتها، مما يتيح للشاعر التوغل في مغزى هذه الطبيعة وأثرها في حياة إنسان القرن العشرين والحادي والعشرين. فهي لا تزال قادرة على احتلال مساحة هائلة من رؤيا شعرية متفردة، وجميلة ومستقلة من دون أن يوقعها ذلك في فخ خطابية العاطفة، قبل خطابية اللسان والكلمة.
اضافة إلى مجموعاته الشعرية العديدة، كـ”مكان الاسم الفارغ”، “مقاطعة العشب”، “عشرون قصيدة”، “سكن محلي واسم”، “كل عالم على حدة”، “أصوات العاصفة الثلجية”، “سنترال الطقس”، “كتاب الأشياء”، “نزهة مع الكولونيل كارتر”، “مسرات وظلال”، “الطيران ليلا: قصائد 1965-1985” و”عيد العشاق”، فإن لكوزر كتابا عنوانه “كتاب تعليم كتابة الشعر في المنزل: نصائح عملية للشعراء المبتدئين”. لم يتسن لي الاطلاع على هذا الكتاب، لكن على ما يرد في مقدمة ابو هواش، فإنه يتضمن آراء لكوزر حول الشعر وكتابته. عنوانه الذي يبدو شعبيا، لا يترك مجالا للشك في أن هذا الشاعر يقدم من الشفافية ما يجعله يطرح فكرة آلية تقنية شعرية، تتيح للمبتدئ في كتابة الشعر، هداية نحو الطريق الكوزري. لكن الكتاب، على طرافة ذلك العنوان وغرابته، يشترط موهبة كتابة الشعر. لكنه يدفعنا إلى فضول معرفة آراء هذا الرجل الذي يؤثر العيش ببساطة في مزرعته الى جانب زوجته وكلبه. وينتظر كل صباح، أن تأتي قصيدة لتحط في دفتره، ولو أنه حظي بعشر قصائد في السنة، فذلك عنده أكثر من كاف. إن قراءة تيد كوزر هي اكتشاف يبعث على الخفة والفرح، ويجعل لأقدامنا الصغيرة كماً هائلاً من الجماليات البعيدة، التي نمشي في اتجاهها من دون أدنى مشقة.
مازن معروف

Ted Kooser
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى