موسيقى 11/9
صبحي حديدي
قضى الموسيقار الألماني الطليعي الشهير كارلهاينز ستوكهاوزن (1928 ـ 2007) وقد استردّ بعض كرامته الفنية، والمعنوية الأدبية ضمنها، حتى كاد قبل أيام ـ ورغم رحيله عن عالمنا هذا ـ يحصد واحدة من أبرز جوائز الجمعية الملكية الفلهارمونية للموسيقى، وهي بين الأرفع في بريطانيا والعالم. وكانت الأقدار، ونزوعه الدائم إلى استفزاز السائد والراسخ، قد أفقدته الكثير من تلك الكرامة، حين وضعته في مرمى نيران من نوع خاصّ، حارق ولاهب ومتأجج أبداً: تمجيد تفجيرات 11/9/2001!
وكان حبر كثير، وكثيف مشحون ثقيل إذا صحّ القول، قد جرى في وصف انهيار البرجَيْن. وهو أمر يسهل فهمه وتفهمه بالطبع، ليس بسبب مأساوية الحدث ذاته، وأعداد الأرواح البريئة التي يمكن أن يزهقها الإرهاب الأعمى، فحسب؛ بل أيضاً لأنّ الهزّة لا تخصّ البشر في غزّة أو بغداد أو بوروندي، بل تخصّ عدداً كبيراً من مواطني القوّة الكونية الأعظم، والأوحد. ولهذا فإنّ العالم بأسره تذكّر على الفور، ليس دون قشعريرة رهبة، أنّ فظائع هيروشيما وناغازاكي كانت أوّل الأثمان التي توجّب سدادها لقاء استهداف أمريكا في بيرل هاربر!
وثمة، في ذلك الحبر الذي سال ويسيل دون توقف، عشرات التصريحات التي ذهبت مذهب القول المأثور، حيث تبارى البعض في جعل البلاغة تسير على عواهنها، وفي إطلاق الإستعارة والمجاز والأمثولة بدائل عن حقائق على الأرض، صلبة ودامية وكارثية. وإذا كان الساسة والمعلّقون والصحافيون وكتّاب الخطب قد استأثروا بحصّة الأسد في تلك الحمّى اللفظية، فإنّ أهل الفكر والأدب والفنّ أدلوا بدلوهم أيضاً، ومن الإنصاف القول إنّ بعضهم حاز قصب السبق وتفوّق وحلّق!
‘روح الإرهاب’، مقالة المفكّر الفرنسي ما بعد الحداثي جان بودريار التي نُشرت في صحيفة ‘لوموند’ الفرنسية بتاريخ 2/11/2001، نموذج كلاسيكي أوّل. صحيح أنّ الرجل عوّدنا على خبطات غير مسبوقة في قراءة الأحداث النوعية الفاصلة (كما حين كتب مقالة شهيرة بعنوان ‘حرب الخليج لن تقع’، وذلك قبل اندلاع عمليات ‘عاصفة الصحراء’؛ ثم كتب مقالة ثانية، ليست أقلّ شهرة، بعنوان ‘حرب الخليج لم تقع’، وذلك… بعد انتهاء العمليات العسكرية!). إلا أنّ موقفه من هزّة 11/9 كان يذهب أبعد في التحليل، كما في الفانتازيا السوداء. ويكفي التذكير بأنّ مقالته تبدأ هكذا: ‘… خلال التسعينيات الراكدة توفّر ما يشبه الإضراب عن الأحداث، حسب تعبير الكاتب الأرجنتيني ماسيدونيو فرناندي. حسناً، لقد انتهى الإضراب الآن. ولعلّنا، مع الضربات التي نالت من مركز التجارة الدولي ونيويورك، نواجه الحدث المطلق، أمّ الأحداث، الحدث الخالص الذي هو جوهر كلّ الأحداث التي لم تقع’.
مواطنه وزميله في الفلسفة، التفكيكي الشهير الراحل جاك دريدا، أثار أسئلة شاقة تنأى عمّا يُطرح في التيّار العام السائد: مَن الذي منح الحقّ في تحويل 11/9 إلى اسم وتسمية، وبالتالي إلى فعل لغوي يستحدث تاريخاً، أو يصنع حدثاً غير مسبوق؟ من أين أتى إلينا، وكيف فُرض علينا هذا الأمر، 11/9، الذي يمثّل في حدّ ذاته تهديداً لنا؟ ألسنا بحاجة إلى فكر فلسفي جديد، لكي يتسنى لنا الإستيقاظ من هذا ‘التنويم العقائدي’؟ ألا يتحوّل شخص أسامة بن لادن إلى اسم مجاز؟ ما معنى السيادة فعلياً، وما معنى سيادة الولايات المتحدة بالذات؟ ما العولمة؟ وهل حدثت حقاً؟ ما هي حقائق الحرب على الإرهاب؟…
غير أنّ التصريح الأكثر غرابة، وقدرة على إحداث الصدمة، صدر عن ستوكهاوزن، بعد أسبوع واحد فقط على انهيار برجَي نيويورك. وإذا كانت منعكسات أفكار بودريار ودريدا والعشرات سواهما لم تتجاوز إثارة الصدمة أو العجب أو الإستنكار، فإنّ تصريح ستوكهاوزن جلب عليه عواقب وخيمة: إبنته، عازفة البيانو، تخلّت عنه (وكان يومها في الثالثة والسبعين من العمر)، وأعلنت أنها لن تقبل الاقتران بكنية ستوكهاوزن بعد اليوم؛ ومهرجان هامبورغ الموسيقي ألغى حفلات ستوكهاوزن، رغم أنه كان نجم المهرجان بلا منازع؛ وردود الأفعال العالمية، والأمريكية خصوصاً، اتخذت وجهة شديدة القسوة والعنف و… البذاءة.
ستوكهاوزن بدأ تصريحه، وكان في مستهلّ حفل موسيقي، بالطلب من سائليه عن مغزى 11/9 أن ‘يقلبوا أدمغتهم في استدارة تامّة’، لأنّ ما حدث هو ‘العمل الفنّي الأعظم الممكن إنجازه حتى اليوم’! وأيضاً: ‘هؤلاء [الذين نفّذوا الهجوم] استطاعوا أن يحققوا في فعل واحد ما لا تحلم الموسيقى بتحقيقه: أن يتمرّنوا بجنون طيلة عشر سنوات، في حال من الهوس التامّ، من أجل حفل موسيقيّ واحد يموتون بعده. هذا هو العمل الفنّي الأعظم على امتداد الكون بأسره. أنا لا أستطيع القيام بهذا. ونحن، مؤلّفو الموسيقى، لسنا شيئاً يُذكر أمام ذلك الفعل’. وأخيراً: ‘بعض الفنّانين يحاولون أيضاً عبور حدود ما هو ممكن أو قابل للتخيّل، كأن يفلحوا في إيقاظنا، أو في فتح عالم جديد أمامنا’!
ورغم أنه سحب التصريح بعد ساعات قليلة، واعتذر من الضحايا، موضحاً أنه قصد عمل التخريب الأعظم الذي يمكن أن يقوم به أبالسة لوسيفر، فإنّ العبارة استقرّت عميقاً في سجلّ 11/9 الذي يغصّ بتوصيفات من كلّ حدب وصوب، ويسأل: هل من مزيد؟!
Karlheinz Stockhausen